الثقافة
وحدة متكاملة من المعلومات, والأفكار, والمعتقدات, وطرق التفكير, والتعبير, وتربية الأطفال, والصنائع وغيرها من الظواهر السائدة بين أفراد المجتمع والتي تنتقل من جيل الى جيل ويكتسبها الافراد عن طريق الاتصال والتفاعل الاجتماعي. والثقافة تعد كمحدد للسلوك.
أصل هذه الكلمة من كلمتين لاتينيتين, والمعنى الحرفي لها هو (علم الأفكار) وهو علم أُنشئ لنقد الأفكار, ولكنه بمرور الزمن صار يطلق على الرؤى الشاملة للكون والحياة وهي لا تقرأ الواقع كما هو كائن, كالعلم بل إنها تفتح أفقاً واسعاً لما يجب أن يكون, ولذلك فإن هذه القضية تجعل من الرؤية تحمل الواقع في اتجاهات قد لا يكون بالإمكان مجاراتها, وعلى هذا الأساس ولدت الأنظمة الشمولية ولا يعني هذا أن جميع هذه الآفاق غير قابلة للتحقق أو تحمل الإنسان بعيداً عن طبيعته, بل لا بد من الفرز؛ لأن الحكم المضاد مؤدلج أيضاً, ويستند الى أحكام مسبقة, ولا ينظر الى الفترة التي سادت فيها تلك الأنظمة الشمولية المؤدلجة
الفلسفة
إذا أخذنا التعريف اللغوي لكلمة الفلسفة .. بعد أن نسلم جدليا بأصلها الإغريقي .. لوجدنا تعريفها في اللغة الإنجليزية يحمل عدة أوجه .. و في إعتقادي أن أقربها لأصلها الإغريقي هو التعريف التالي
Love and pursuit of wisdom by intellectual means and moral self-discipline.
أي حب و طلب الحكمة بالأساليب التفكرية و المراقبة الأخلاقية
لست ضليعا في الترجمة .. و لكن إختياري لهذا التعريف ليكون الأقرب للمعنى الأصيل للفلسفة يأتي من كونه مشتملا على (الحكمة و الأخلاق) .. و هذه هي أبجديات الفلسفة .. حيث أن التعريف الحرفي للفلسفة بالإغريقي هو (حب الحكمة) .. و في اللغة الإنجليزية نجد أكثر من تعريف للفلسفة لأن التعريف أصبح يحاول الإشارة إلى مجالات أكاديمية بعينها و مدارس فلسفية بعينها أيضا .. فمن عادة المدارس الفلسفية أن تضع تعريفها الخاص لمعنى الفلسفة و ذلك في أطار محاولة تملك وسائل ضحد المدارس الفلسفية المنافسة في العادة، أو إظهار الطابع الأكثر أهمية بالنسبة لتلك المدرسة في معنى الفلسفة .. و سنتناول هذه الزاوية في تفاصيل هذا المكتوب آنفا. و الأخلاق هي الإنعكاس العملي للحكمة .. أو الجانب المادي المحسوس منها .. لهذا ليس من العجب إرتباطها بحب الحكمة منذ بداياته .. و اليوم يشار كثيرا لأفلاطون بـ (أبي الفلسفة) .. و أنا دوما أجد في نفسي إحتجاجا على هذا النسب .. إذ أننا لو سلمنا جدلا أن نقطة ظهور الفلسفة كمنهاج تفكري تمحيصي للظواهر المحيطة بالإنسان .. لو سلمنا جدلا أن نقطة ظهورها كنشاط متميز عن باقي النشاطات الإنسانية كانت عند قدماء الإغريق لقلنا أن سقراط هو الذي يجب أن يشار إليه بـ (أبي الفلسفة) .. إذ أنه استاذ أفلاطون .. و رغم أننا لا نعرف عن سقراط إلا ما كتبه أفلاطون عنه إلا أن الدراسات التاريخية تثبت أنه كان شخصية حقيقية .. و أنه كان أستاذ أفلاطون .. و رغم أن المؤرخين إلى اليوم لا يستطيعون التمييز الدقيق بين نتاج سقراط الفلسفي و نتاج تلميذه أفلاطون إلا أننا سنجد أننا في جميع الأحوال مطالبون بخلع لقب (أبي الفلسفة) على سقراط و ليس أفلاطون .. ذلك أنه لو إفترضنا أن لأفلاطون نتاجا فلسفيا خاصا به لوجدنا أننا ما نزال مطالبين بالعودة إلى أصول المنهاج الذي إتخذه أفلاطون ليخرج لنا بأفكاره .. و من ثم سنجد أنفسنا أمام سقراط .. و إذا إفترضنا – في أسوأ الأحوال – أن أفلاطون لم يكن سوى مدون لأفكار أستاذه سقراط في كتبه .. لوجدنا أن سقراط أيضا هو أبو الفلسفة بشكل أقوى من الإحتمال الآخر .. و في كلتا الحالتين يكون سقراط هو(أبو الفلسفة) و ليس افلاطون.
هذا علاوة على أن نظرتي الخاصة لأصل الفلسفة تقول أن سقراط لا يمكن أن يكون إلا مرحلة بارزة من مراحل تطور الفلسفة .. و سقراط كان حقا مرحلة بارزة لأنه أضاف عاملا مهما جدا إلى معادلة التفاعل الفلسفي .. و ذلك هو عامل (التشكيك) .. التشكيك فيما كان يأخذه الناس كمسلمات ليس من الوارد تغليطها .. و لكي أفصح عن نفسي أكثر لا بد من سياحة تاريخية مبسطة في بدايات الفلسفة. إن الفلسفة كانت دائما موجودة كصفة مشتركة بين العلم المادي و الدين و اللذان بدورهما كانا في الأصل سويا .. إذ أنهما كانا شيئا واحدا وبدايتهما العقل البشري .. كان الإنسان يستعمل منهاج التجربة ليتعرف على خصائص البيئة المحيطة به .. و من التجربة تولد المنطق .. و لكن المنطق كان مرتبكا غاية الإرتباك في البداية .. و ذلك لان التجربة التي هي أمه كانت ما زالت يافعة .. و لهذا كان أمام الإنسان الكبير من الفراغ المعرفي عن بيئته لم يجد بديلا من ملئه بالأساطيرأو التفسيرات الغيبية .. و كانت دائرة هذه الأساطير تصغر كلما إتسعت دائرة التجربة التي تتوسع معها دائرة المنطق تلقائيا .. و الطريف في الأمر أن المنطق كلما كانت تكبر دائرته كلما كان يقلل من حاجة الإنسان إلى التجربة .. فالمنطق كان يكفي الإنسان مخاطر المزيد من التجارب باستعمال القياس .. قياس المواقف الحاضرة بمثيلاتها في الماضي و من ثم رفع نسبة الإختيار الصحيح في التجربة الحاضرة .. فأصبح من الكافي للإنسان البدائي أن يرى شكل النار ليقيسه بتجاربه مع هذا الشيء في الماضي دون أن يحتاج إلى خوض تجربة جديدة كلما رأى نارا في ظروف غير الظروف التي كانت في التجارب السابقة .. فهنا نجد ان المنطق قد قلل عدد التجارب بشكل كبير .. و كلما كان المنطق يكبركلما كانت الحاجة إلى التجربة تقل .. و التجربة ما زالت الحاجة لها قائمة إلى اليوم .. و لكنها أقل بكثير مما كانت في السابق .. حتى أننا اليوم نجد أن العلوم التطبيقية أو التجريبية ذاتها تعتمد على المنطق الموثق أكثر بكثير من التجربة .. و التجربة أصبحت وسيلة للتأكد من صحة نتائج المنطق فقط .. و الأمثلة كثيرة على ذلك من علوم الهندسة على سبيل المثال .. فالمهندس اليوم عندما يكون بصدد تصميم منتج معين أو تحسين جودة إنتاجه .. نجده يعكف على الحسابات الرياضية معتمدا إعتمادا كليا على أسس المنطق من المعادلات الرياضية و القوانين الفيزيائية ليخرج بأرقام بعينها تكون هي المحدد للصيغة الجديدة للمنتج .. و بعد تلك الحسابات قد يتمكن المهندس من إجراء التجارب قبل المباشرة في الإنتاج للتأكد من صحة حساباته إذا توفرت الإمكانيات لاداء هذه التجارب .. و في أحيان كثيرة لا تتوفر الإمكانيات لأداء التجارب فيبدأ العمل في الإنتاج دون تجارب و من ثم قد يظهر بعض الخلل الذي يحتاج لمراجعة أثناء عملية الإنتاج أو قد لا يظهر و تكون نتائج حسابات المهندس دقيقة بشكل كاف.. هذا طبعا إذا لم يكن المنتج معقد جدا و يحتاج بالضرورة إلى إجراء الكثير من النجارب قبل البدء في الإنتاج.
أردت لفت النظر إلى أن التجربة إلى اليوم لم تتوقف الحاجة لها لأدلل بها على أن علم المنطق عند الإنسان - رغم الأشواط التي قطعها - ما زال قاصرا على الإحاطة بكل خواص البيئة المحيطة بالإنسان .. و بالتالي ما يزال هناك مجال للتعليل الغيبي لظواهر كثيرة .. و علم المنطق لا يفتأ يذكر ذلك و يعترف على لسان أهله بهذه الحقيقة .. مثلا يقول أينشتاين ((إن أعظم جائشة من جائشات النفس وأجملها تلك التي تستشعرها النفس عند الوقوف في روعة أمام هذا الخفاء الكوني ، والإظلام ، إن الذي لا تجيش نفسه لهذا ولا تتحرك عاطفته ، حي كميت ، إنه خفاء لا نستطيع أن نشق حجبه ، وإظلام لا نستطيع أن نطلع فجره ، ومع هذا نحن ندرك أن وراءه شيئا هو الحكمة ، أحكم ما تكون ، ونحس أن وراءه شيئا هو الجمال ، أجمل ما يكون ، وهي حكمة ، وهو جمال ، لا تستطيع أن تدركهما عقولنا القاصرة ، إلا في صور لهما بدائية أولية ، وهذا الإدراك للحكمة ، وهذا الإحساس بالجمال ، في روعة ، هو جوهر التعبد عند الخلائق)) .. كما يقول ((إن الشعور الديني الذي يستشعره الباحث في الكون ، هو أقوى حافز على البحث العلمي ، وأنبل حافز )) و يقول أيضا (( إن ديني هو إعجابي ، في تواضع ، بتلك الروح السامية التي لا حد لها ، تلك التي تتراءى في التفاصيل الصغيرة القليلة التي تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة ، وهو إيماني العاطفي العميق بوجود قدرة عاقلة ، مهيمنة ، تتراءى حيثما نظرنا في هذا الكون المعجز للأفهام ، إن هذا الإيمان يؤلف عندي معنى الله)) (ترجمة الدكتور أحمد زكي) .. هنا نرى بتجلي موقف من مواقف كبار أهل علم المنطق - أو العلم المادي - من الدين.
و لكننا هنا عندما تناولنا تطور التجربة و تولد المنطق منها لم نتناول في الجانب الآخر تطور التعليللات الغيبية و خروج الدين منها .. و من ثم تطور الدين نفسه ليصل إلى مقامات موازية لأخية المنطق .. بل و الأدهى من ذلك أن الدين أصبح يستخدم التجربة نفسها ليتطور .. هذا بالرغم من أن التجربة عند الدين تختلف في وسائلها عن التجربة أم المنطق .. إلا أن الدين بخاصيته المتعاملة مع اللامحسوس يجد صعوبة أكبر في إثبات إكتشافاته من المنطق .. لان المنطق يأتي بإثبات إكتشافاته لحواسنا الظاهرة فلا نستطيع إنكارها .. و لكن الدين - في معظمه- لا يملك خاصية دحض المشككين بنفس السرعة التي يملكها المنطق .. لهذا نجد اليوم الإصطلاحين الهلاميين المراد بهما التمييز: العلم و الدين .. و كأن الدين صار نقيض العلم .. بالرغم من الدين - بوسائله الخاصة و الغامضة - قد كانت له يد السبق على المنطق في نتائج يتشدق بها المنطق اليوم و يتفاخر بأنه إكتشفها بعد جهد دؤوب .. في حين أن الدين كان قد قررها منذ فترة بعيدة .. و دون الحاجة للتجربة أم المنطق .. و الحقائق العلمية الموجودة في الكتب المقدسة التي كتبت في غابر الزمان تؤكد صحتها الوقائع كل يوم .. هذا فقط على سبيل المثال لا الحصر.. هذا إنقسام غريب ساهمت فيه وقائع كثيرة عبر التاريخ .. و لكن الأغرب حقا أننا اليوم نجد أن مصطلح الفلسفة نفسه أصبح مستقلا عن الدين و العلم معا .. فأصبح هناك الدين و هناك العلم .. و من ثم هناك الفلسفة !! .. فكانت الفلسفة هي الخاسرة من هذا الإستقلال .. إذ ما هي حاجتنا إلى الفلسفة حقا إن كانت منفصلة عن العلم و الدين؟ .. و أي أثر مجتمعي ستتركه بوجودها خارج نطاق هذين المجالين ؟. . هذا مع الإنتباه إلى أن إستقلال العلم و الدين عن بعضهما هو في حد ذاته أيضا أمر يحتاج إلى إعادة النظر.
نعود الآن لسقراط .. إذ أن كل ما فعله سقراط كما قلنا أنه أضاف عامل التشكيك للمنطق .. هذا كل ما فعله سقراط .. و ليس في ذلك إنتقاص من حقه البتة .. إنما هي الرؤية الناقدة لدور ذلك الفيلسوف في حركة التاريخ الفكري .. و نلاحظ هنا أننا لم نتطرق إلى علاقة سقراط بالدين .. و ذلك لأن سقراط كان - رغم منطقيته - متدينا .. و لم يرد أن سقراط تعرض بالإساءة إلى آلهة قومه على الإطلاق .. بل على العكس كان يحتج بها منطقيا في نقاشاته مع محاوريه الأثينيين .. و من المعلومات التاريخية التي ترد في كتابات أفلاطون على لسا ن سقراط إعتقادة الجازم بأنه أرسل من قبل الآلهة في مهمة محددة .. و قد كان إيمانه ذلك هو سر وقفته الشجاعة أمام الموت الذي كان بأمكانه تلافيه بأكثر من وسيلة لو كان أراد تلافيه.
هنا أيضا سنشير إشارة خفيفة إلى موقف سقراط الأخلاقي و تجليه في مشهد موته .. فقد رفض سقراط آخر فرصة للهرب من الموت ( كما يخبرنا أفلاطون) بحجة أنه ولد في أثينا و ترعرع فيها و مارس فيها حريته الفكرية حتى ذلك الحين .. فيكون من التناقض أن ينكر لها كل حسناتها تلك و يهرب منها عندما يأتيه منها مكروه واحد .. فهو قد شارك بكل حرية في صياغة مجتمع أثينا بممارسته حقه كمواطن فيها منذ ولادته، و سيلتزم بقوانينها التي شارك في صياغتها حتى لو حكمت عليه بالموت .. قد يختلف البعض مع سقراط في نظرته تلك .. و لكن لا يمكن أن ننكر حس المسؤولية الواضح في خطابه .. مسؤولية الفيلسوف أن يكون في نسق بين قوله و عمله .. و هذا ما أشرنا إليه بـ (الأخلاق) في بداية المقال عندما قلنا أنها الجانب العملي من الحكمة. أما بعد .. فقد كانت الكتابة أعلاه محاولة لوضع أساس نستند عليه و نحن نخوض في هذه القضية الشائكة .. بهدف الخروج بفهم عام لحدود إمكانيات الفلسفة في تقديم حلول عملية لواقعنا المعاش و مستقبلنا المبهم.. و الذي بين يدينا ليس دراسة دقيقة على الإطلاق .. و لكنها مطولة نسبيا في بعض جوانبها التي يفيد الإسهاب فيها بشكل أكبر من الأحكام المبتسرة.
الفلاسفة العمليون .. و الفلاسفة المنظرون
نبدأ بالتنويه إلى أن التصنيفين أعلاه من عندي .. و أقصد بالفلاسفة العمليين أولئك الذين يقدمون جوانب عملية لفلسفاتهم في الأطار المجتمعي و السياسي و الإقتصادي و حتى التكنولوجي المادي .. بمعنى أنهم يقدمون حلولا، أيا كانت نظرتنا لتلك الحلول ، أما الفلاسفة المنظرين فنعني بهم أولئك الذين دارت فلسفتهم في دوائر تنظيرية فقط دون أن تقدم ما يمكن أن يوضع موضع التطبيق .. و من الطريف أننا اليوم نرى أن مسمى الفلسفة ينطبق في الغالب على هذه الشريحة الثانية من الفلاسفة .. مثل أصحاب الدراسات الأكاديمية البحتة في الفلسفة أو الغير مهتمين بالحلول أكثر من الإطلاع و النقد السلبي .. و أصبحت الفلسفات العملية تسمى في الغالب أفكارا و نظريات ، و من الواضح أن هذا صراع المصطلحات هذا قد أتى كنتاج لصراع فكري بين هاتين الشريحتين من الفلاسفة رغم إستفادتهما في كثير من الأحيان من نتاج بعضهما .. و قد إنتهى هذا الصراع الإصطلاحي في الغالب بتعفف الفلاسفة العمليين حتى عن مسمى الفلسفة ذاته لشبهة إرتباطه عند السامع بالفلاسفة المنظرين وحدهم .. و قد يكون في حنايا هذا المكتوب إفادة أكثر في توضيح هذا التصنيف .. و سنأخذ مثالين تاريخيين للفلسفة في أوروبا من جهة و العالم الإسلامي من جهة أخرى.
في أوروبا
من المشهود أن الثورة الصناعية في أوروبا قد غيرت نظم المجتمع الأوروبي و قلبته رأسا على عقب .. فقد صاحبت الثورة الصناعية طفرة ديناميكية هائلة .. و كانت في حالة تطور مستمر لا يخفت و لو لبعض الوقت .. و بالتأكيد فقد أثرت هذه الثورة على معايير الفلسفة الأوروبية .. و إضطرتها للتغيير و التطور إضطرارا كما فعلت بكافة نظم المجتمع الأوروبي في تلك الحقبة .. و يمكننا بعد إلقاء نظرة عامة لتواريخ ميلاد الفلاسفة البارزين في أوروبا و تواريخ وفاتهم لوجدنا الآتي : إيمانويل كانط (1724-1804) .. فردريك نيتشه ( 1844-1900) .. جيريمي بينثام (1748-1832) .. كارل ماركس (1818-1883) .. فريدريك إنجلز (1820-1895) .. رينيه ديكارت (1596-1650) .. ديفيد هيوم (1711-1776) .. جون لوك (1632-1704) .. آدم سميث (1723-1790)
الغرض من ذكر هؤلاء و تواريخ ميلادهم هو النظر في علاقة فترات حياتهم بالثورة الصناعية (القرن الثامن عشر) .. كما أننا أيضا يجب أن نراعي مكان وجودهم في أوروبا إذ أن الثورة الصناعية لم تغزو كل أوروبا في آن واحد .. فقد كانت ألمانيا على سبيل المثال متأخرة في الثورة عن رصيفاتها إنجلترا و فرنسا . إذا نظرنا إلى أكثر هؤلاء الفلاسفة شاعرية - ديكارت - لوجدنا أنه أقدمهم .. و هو لم يعاصر الثورة الصناعية .. و نحن لا نحكم على ديكارت بالشاعرية إلا مقارنة بالمذكورين أعلاه .. فديكارت كان ذلك الفيلسوف صاحب المنهاج النقدي المتأني في جذور المفاهيم العامة عند البشر .. إذ أنه هو ذاك الفيلسوف الذي كان يختلي ينفسه أكثر وقته بشكل رسمي للتأمل في تلك الاسئلة مثل (ما أنا؟ من أكون؟ هل أنا موجود؟) و شبيهاتها .. في هدوء تام و إبتعاد عن أي نوع من انواع الشغب .. و كانت عنده رسائل متبادلة في الفلسفة مع النبلاء و سليلي العوائل المالكة مثل الاميرة إليزابيث من بوهيميا .. من الواضح أن الأجواء التي عاش فيها ديكارت كانت أبعد ما تكون عن الثورية التي تتطلب الفعل المادي المحسوس و المسؤول أو أن تشارك فيه على أقل تقدير .. لهذا كانت فلسفة ديكارت فلسفة تأملية نظرية و ليست عملية .. و هي من أبرز الأمثلة على فلسفة التنظير ... و نحن هنا لا ننتقد ديكارت أو نسفه نتاجه الفلسفي .. و لكنا نضع مثالا واضحا على معنى الفلسفة التنظيرية، و التي لا نبخسها قدرها أيضا و لكنلا نعطيها أكثر مما تستحق .. و قد نخمن أن مثل فلسفة ديكارت و محاور إهتمامها ا لكبرى كانت محل إستنكار من فلاسفة عصر النهضة الثوريين أمثال ماركس .. هذا مع العلم أن ديكارت اليوم يحظى بتقدير أكبر لعمله الفلسفي و يعتبر عند الكثيرين صاحب المبدأ النقدي التشكيكي .. رغم أن إعتبارنا الخاص أن صاحب المبدأ التشكيكي الأول هو سقراط نفسه .. و لكن ديكارت بلا شك قد خطا بهذا المنهاج خطوات واسعة تستحق الإشارة إليها. على النقيض تماما .. نجد ماركس الثائر .. و الذي شغل وقته في البداية بالفلسفة المثالية التي سيصبح فيما بعد ألد خصومها .. فقد تخصص ماركس أكاديميا في الحقوق .. و في الأخص التاريخ و الفلسفة .. و قد كان هيغليا يساريا (من فلسفة هيغل المثالية) .. و لكنه تبدل فلسفيا بشكل كبير أصبح معه ينتقد أستاذه هيغل نقدا قويا جدا .. ذلك أنه قد أصبح في موقف تضاد فكري سافر معه ( رغم تأثره به في نقاط فرعية كثيرة) .. و ذلك الموقف هو الذي بني ماركس عليه كل رؤيته في الإقتصاد السياسي و تطور التاريخ إلى تحقيق الشيوعية التي تنجزها دكتاتورية البروليتاريا .. نسمعه يقول في كتابه رأس المال: "يرى هيغل ان حركة الفكر, هذه الحركة التي يشخصها و يطلق عليها اسم الفكرة, هي الاله (الخالق, الصانع)... اما انا فاني ارى العكس : ان حركة الفكر ليست الا انعكاسا لحركة المادة منقولة الى دماغ الانسان و متحولة فيه" ماركس يرفض تماما إستعلاء قوة على قوة الطبيعة المادية .. و وجود شيء قبل وجودها .. حتى العقل المفكر .. و يعيد ذلك إلى أن الطبيعة أو المادة وجدت قبل وجود العقل حسب ما تدعمه نظرية التطور الدارونية .. إن موقف ماركس الفلسفي هذا قابل للجدل بصورة كبيرة .. و لكن ماركس لم يكن على إستعداد للوقوف عند تلك النقطة كثيرا لانه كان فيلسوفا عمليا و لا يملك الكثير من الوقت للتفرغ لكافة فروع الفلسفة .. فشرع في تصميم و إخراج نظريته العبقرية في تطور تاريخ الإقتصاد السياسي .. و نجد هنا أن ماركس في سعيه ذاك قد تبنى نظرية دارون للتطور تبنيا تاما .. و ذلك لأنها تعزز من موقفه المادي و تعزز من دراسته لتطور المجتمعات لأنها تتبنى نفس المنهاج التحليلي المادي و تصل إلى نتائج متشابهة معها رغم إختلاف مجال البحث.. يقول إنجلز في خطبته الشهيرة على قبر ماركس : "فمثلما اكتشف داروين قانون تطور الطبيعة العضوية اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري: الحقيقة البسيطة التي تخفيها هيمنة الايديولوجيا و هي ان الانسان يجب اولا ان ياكل و يشرب و يجد الماوى و الملبس قبل ان يصبح في استطاعته الاهتمام بالسياسة و العلم و الفن و الدين الخ..."
في حين كان باقي الفلاسفة المثاليين في عصر الثورة يدورون حول حلقة مفرغة .. و الحركة المجتمعية لا تلقي لهم كثير بال .. و لا هم كانوا مهتمين إهتماما حقيقيا بها سوى ما تجريه إنعكاساتها على أسلوب التفكير العام .. فنيتشه مثلا كان يؤسس في مذهبه الفلسفي الخاص في ألمانيا و الذي كان سيكون مثارا أكبر للكثير من الجدل و الإتهامات لو كان أتى قبل عصر النهضة الذي تذبذبت فيه مفاهيم الأخلاق بشكل كبير.. و من حسن حظه أن ألمانيا كانت متأخرة في الثورة الصناعية عن إنجلترا و فرنسا بحيث أصبح عنده شيء من الوقت لكي يكون له صيت مع غياب صوت الآلة رغم وجود تأثيرها الفكري العام .. و قد كان ماركس غاضبا من مواطنيه الفلاسفة الألمان الذين فضلوا أن يعكفوا على فلسفاتهم النظرية في حين كانت أوروبا في تطور صناعي متسارع .. و الأدهى من ذلك أنهم أصبحوا يحورون الأدب الإشتراكي الثوري الذي يردهم من فرنسا ليجعلوه مشابها لفلسفاتهم النظرية .. لنسمع ماركس و إنجلز يتحدثان عن هذه القضية في البيان الشيوعي .. يقولان :
"و بشراهة تخاطف الفلاسفة، و أدعياء الفلسفة، و الأدباتية الألمان، هذا الأدب. و لكنهم نسوا أنّ نزوح تلك الكتابات، من فرنسا إلى ألمانيا، لم يرافقه في الوقت نفسه نزوح أوضاع الحياة الفرنسية. فـفقد الأدب الفرنسي، في الأوضاع الألمانية، كل أهمية عملية مباشرة و اتخذ وجها أدبيا بحتا. و من ثم كان لا بد من أن يبدو كتأمل لا نفع فيه حول تحقيق الجوهر الإنساني. و هكذا، لم تكن مطالب الثورة الفرنسية الأولى، في نظر الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر، سوى مطالب "العقل المعياري" بصورة عامة، و تجليات إرادة البرجوازية الثورية الفرنسية، لم تكن تعني في نظرهم، سوى قوانين الإرادة البحتة، الإرادة كما ينبغي أن تكون، الإرادة الإنسانية الحقة. و العمل الوحيد للأدباء الألمان كان ينحصر في التوفيق بين الأفكار الفرنسية الجديدة و وجدانهم الفلسفي القديم، أو بالأحرى في انتحال الأفكار الفرنسية انطلاقا من آرائهم الفلسفية؛ و هذا الانتحال تم بالطريقة نفسها التي يتعلم بها المرء عادة لغة أجنبية، أي بواسطة الترجمة. و معروف كيف استبدل الرهبان عناوين المخطوطات، المنطوية على الأعمال الكلاسيكية للعهد الوثني القديم، بعناوين حكايات سمجة لقدّيسين كاثوليك. أمّا الأدباء الألمان فقد تصرفوا حيال الأدب الفرنسي الدنيوي على عكس ذلك، لقد ذيَّلوا الأصل الفرنسي بهرائهم الفلسفي، فكتبوا، مثلا تحت النقد الفرنسي للعلاقات المالية: "تجريد الكائن البشري"، و تحت النقد الفرنسي للدولة البرجوازية: "إلغاء سيطرة الكلّي المجرَّد" إلخ..
إن دسّ هذه العبارات الفلسفية الجوفاء، تحت التطويرات الفرنسية، عمَّدوه بأسماء، مثل "فلسفة الفعل"، و "الاشتراكية الحقّة"، و "علم الاشتراكية الألمانية"، و "التعليل الفلسفي للاشتراكية"، إلخ.. و بهذه الطريقة خُصي الأدب الاشتراكي-الشيوعي الفرنسي خصيا واضحا." من هذه المقتطفات نرى بداية العداوة بين الفلاسفة العمليين و الفلاسفة المنظرين في أوروبا.. و الغصة النقدية التي يتحدث بها ماركس و إنجلز عن الفلاسفة المنظرين .. فأوروبا في عصر النهضة لم تعد تستحمل وجود هؤلاء المنظرين .. و نجد أن الفلاسفة العمليين قد وصل بهم الحد إلى صرف نظر الناس عن أنهم فلاسفة .. أو بمعنى أدق تنازلوا عن مسمى الفلسفة في سبيل تمييزهم عن أولئك النظريين .. كما نجد أنهم كانوا في نقدهم لبعضهم أقل حدة من نقدهم للمنظرين بسبب طبيعة فلسفتهم .. فماركس كان ينتقد المدرسة الإشتراكية الأوينية (من روبرت أوين) في إنجلترا و غيرها من المدارس .. و لكنه لم يكن ينسى أن يشيد بإنجازاتها حين يفعل ذلك .. و لكنه لم يكن يرى في الجانب الآخر للفلسفة النظرية أي حسنة.. لهذا من الممكن أن نقول أن ماركس هو الذي بدأ مشروع القطيعة بين الفلاسفة العمليين و الفلاسفة المنظرين في أوروبا .. حتى أننا نخمن أن باقي الفلاسفة العمليين الذين كانوا يختلفون معه في فلسفته قد تأثروا في الغالب بقوة حجته ضد أولئك المنظرين و تبنوا وجهة نظره دون أن ينسبوها له .. و لم تكن هناك حاجة لنسبها له و لم يكن ماركس نفسه ليطالبهم بنسبها له .. إذ كان يكفيه جدا أن يعي الفلاسفة العمليين تلك النقطة عن المنظرين و يحذروها منهم. الشاهد أن الفلسفة الماركسية كانت هي إحدى القمم من الناحية العلمية عند ظهورها و تعرف الجمهور عليها .. و رغم آرائها التي كانت غريبة جدا حتى على أوروبا في ذلك الوقت إلا أن المنافسة الحقيقية التي وجدتها الماركسية في ذلك الوقت في المجال العملي كانت من قبل النظرية الكلاسيكية – أم الرأسمالية - و التي أسس لها جون لوك ( و ليس آدم سميث كما هو شائع ) و من ثم جاء آدم سميث بكتابه الشهير ( ثروة الأمم) الذي مثل قمة النظرية الكلاسيكية .. و رغم أن النظرية الكلاسيكية كانت منافسا قويا للماركسية ، إلا أنها كانت فقط منافسا إقتصاديا .. و لم تكن لديها إنعكاسات على الصيغة المجتمعية الكاملة كما هو موجود في الماركسية .. و الكلاسيكيون قد إنتبهوا لهذه النقطة و لكنهم لم يستطيعوا أن يعالجوها .. فكانت فلسفتهم قاصرة بإزاء الماركسية من الناحية العلمية .. و قد كانت لديهم محاولات ضعيفة و موسومة بالعته الفكري للخروج بنظرية مجتمعية تكمل نظريتهم الإقتصادية .. أشهرها نظرية آدم سميث (نظرية اليد الخفية) .. هذه النظرية تقول باختصار ( عندما يقوم أفراد المجتمع بسعيهم المستقل لتحصيل مصالحهم الشخصية .. سيجدون أنفسهم ساعين تلقائيا للمصلحة المجتمعية و كأنهم مقودين بواسطة يد خفية لتحقيق مافيه خير الجماعة) هذا التقرير الهلامي يعتبره الكلاسيكيون إلى اليوم الفرع المجتمعي في فلسفتهم .. و أعتقد أن النظرية تعبر عن فقرها الفكري بنفسها .. لهذا لم يكن الأستاذ محمود محمد طه مخطئا عندما قال أن الماركسية هي قمة نتاج الفكر الغربي .. أما غيرها فيجوز أن يسمى (محاولة لتصور واقع جديد) و ليست فكرا .. و المعنى الذي يقصده الأستاذ محمود في إعتقادي أن الفكر لا بد أن يكون متكاملا حتى يسمى فكرا .. و بهذا التصنيف فإن النظرية الكلاسيكية لا تعدو كونها نظرية إقتصادبة جشعة - عملية نعم .. و لكن جشعة - و لكنها لا تسمى فكرا لأنها لا تستوفي شروط الفكر.. و هذا ايضا يفسر إهتمام الأستاذ محمود بنقد الماركسية نقدا دقيقا بواسطة تفكيك اصولها و النظر إلى جذورها و إظهار موضع الداء فيها نظريا قبل أن يكون عمليا .. لأن نقد الماركسية يعني عند الأستاذ محمود نقد التجربة الغربية بشكل عام .. فإظهار حسناتها و نجاحاتها و إظهار سوءاتها و مواطن الخلل فيها و من ثم تقديم النظرة البديلة .. ليحدث التزاوج بين الإنتاج الفكري الغربي و الآخرالشرقي .. و يحصل العرس الفكري الذي طال إنتظاره. و من المفيد هنا ذكر أن الكلاسيكيين نفسهم قد إستفادوا كثيرا من نظريات ماركس الإقتصادية و باقي النظريات الإشتراكية (مثل الأوينية الإنجليزية التي سبقت الماركسية إلى الوجود) و إستخدموها لكي يحاربوا بها إقتصاد ماركس نفسه و الإقتصاد الإشتراكي بشكل عام.. و قد كان إقتصاد ماركس يدعي بتسلسل و عمق أنه يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل في أطاره المجتمعي و الإقتصادي و السياسي .. في حين لم تحاول الكلاسيكية أن تدعي ذلك .. و إنما ركزت على تتبع قراءات ماركس و الإشتراكيين و إحداث الشروخ فيها بالسبيل العملي بطرق مختلفة .. و قد نجحوا في ذلك أكثر من مرة .. و من الطريف الذكر أن أصحاب النظرية الكلاسيكية التي تأسس عليها إقتصاد الولايات المتحدة الامريكية قد لفظوها بأنفسهم لبعض الوقت و تبنوا نظرية إشتراكية شهيرة هي نظرية الإقتصادي البريطاني جون كينس، و كانت هذه النظرية هي سلاح الولايات المتحدة للخروج من الكساد الإقتصادي العظيم الذي أصابها (1929-1941) .. و قد إستمرت في تطبيق تلك النظرية حتى الثمانينات - حيث قررت العودة للنظرية الكلاسيكية - ففي تلك الفترة تخلت أمريكا عن أساسيات النظرية الكلاسيكية و أصبحت تضع مصير إقتصادها في يد الحكومة الفيدرالية كي تخرجها من ذلك المأزق .. فهنا نرى حسنة - في نظري - من حسنات الكلاسيكيين ، و هي أنهم منفتحين على غيرهم (و لو بشيء من الوقاحة و عدم الإعتراف بالجميل) و يستفيدون من نتاج خصومهم الفكريين .. في حين كان ماركس و إنجلز عصاميان جدا في فكرهما الشيوعي .. و ذلك ينبع من قاعدة أصيلة عندهما و هي أن المجتمع الذي يبشران بمقدمه يلغي كل الصور المرافقة للمجتمعات التي سبقته .. في تنظيم الأسرة و المجتمع و حتى الأخلاق و الأديان .. فقد كانت ثورة لا هوادة فيها عند ماركس و إنجلز على كل ما هو معهود و متراتب عبر التاريخ .. إلا ما كان يصب في مصب فلسفتهما المادية البحتة مثل نظرية دارون في التطور.
ربما أكون قد أسهبت بشكل غير لازم في هذه النقطة .. لا أدري .. و لكن كان هدفي هو أن أظهر أن وحده نتاج صراع الفلسفات العملية .. وحده الذي يؤثر بشكل محسوس على مجتمعاتنا .. في حين لا نجد تأثيرا مباشرا و واضحا لفلسفات ديكارت و نيتشه و غيرهم على واقع حياتنا حتى في الغرب .. إنما يكون الإحتفاء بهم اليوم في الغالب في الدوائر الأكاديمية المغلقة و بين هؤلاء الذين يحتكرون إسم الفلسفة عليهم بغير وجه حق.
أعتقد أن الوقوف هنا قد يكون مستحسنا في هذه النقطة .. و نتقدم لإلقاء الضوء على الفلسفة في العالم الإسلامي.
في العالم الإسلامي
سنأخذ أيضا مرحلة معينة أو شريحة معينة من تاريخ المجتمع الإسلامي كمثال .. و هذه المرحلة بطلاها الغزالي و إبن رشد. في أفريقيا و آسيا عموما .. لم يكن مسار تطور الفلسفة كذلك الذي كان في أوروبا .. إذ لم يكن العلم و الدين على شقاق .. و لم يمرا بمراحل مماثلة لتلك التي مر بها الدين و العلم في أوروبا .. فقد كانا على وفاق في حضارة كوش .. و كانا على وفاق في حضارة زمبابوي القديمة .. و كانا على وفاق في حضارات الصين القديمة .. و كانا على وفاق في حضارة فارس و حضارة بابل و الحضارات الهندية القديمة و الحضارة الإسلامية .. و لا نعني بالوفاق هنا أنهما كانا متساويان في القيمة و السلطة .. بل من المؤكد أن سلطة الدين كانت مهيمنة على سلطة العلم تماما في معظم الأحيان .. و قد رضي العلم بأن يصبغ بالصبغة الدينية عموما في هذه الحضارات .. فكانت الهندسة الخلاقة في الأهرامات مستثمرة أساسا لخدمة الرموز الدينية .. و كافة الإكتشافات العلمية للمصريين القدماء تندرج تحت ذلك التصنيف .. و لايخرج عن هذا خارج في باقي الحضارات المذكورة أعلاه إلا شذرا .. إلا أن الإسلام قد أتى بعد تراكم عدة قرون من وفاة النبي محمد بمحاولات لتمييز المحاولات العقلية البحتة عن الدين .. و قد سمي العلم التأملي العقلي البحت بالفلسفة في الحضارة الإسلامية .. و ذلك في زعمنا لم يتولد من داخل المجتمع الأفريقي و الآسيوي (اللذان أنجبا المجتمع الإسلامي) عامة.. و لكنه تولد في معظمه بعد حركة الترجمة للكتب الإغريقية القديمة للعربية .. و لم يكن للفلسفة في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت أن تحاول التملص من الدين .. فذاك كان أمرا خطيرا جدا كما أنه كان محكوم عليه بالفشل في الوسط الإسلامي الشعبي الذي يقر إقرارا تاما بسلطة الدين و إن لم يلتزم في الغالب بحرفياته في كل ما يأتي و ما يدع .. لهذا كان غاية محاولات الفلاسفة المسلمين أن يجعلوا الفلسفة بمعزل عن الدين و لكن غير مواجهة له و إنما مكملة له .. و كان هذا غاية ما طالب به إبن رشد .. أبرز شخصية في الفلسفة الإسلامية .. و قد مضى إبن رشد في محاولة تلميع وجه الفلسفة عند المسلمين للقول بأن علم الفلسفة إنما هو العلم الذي يزيد الإيمان بطروحات الدين .. و نحن لا نقول أن إبن رشد قد أخطأ في ذلك و لكننا لا نبرر دوافعه تماما .. فابن رشد كان قد وجد نفسه في مواجهة غريبة مع المدارس الدينية في عصره و العصور التي سبقت ميلاده مما دفعه لمحاولة تبرئة الفلسفة من أي معارضة عندها للدين .. و كل هذه المدارس الدينية كانت تنظر للفلسفة بعين الشك و الريبة و الإتهام .. حتى الصوفية المعروفين بتسامحهم الفكري العام كانوا قد صالوا و جالوا في هذا الميدان عن طريق أحد أبرز شخصياتهم أبو حامد الغزالي الذي كتب أكثر الكتب الإسلامية قسوة على الفلاسفة ( تهافت الفلاسفة) .. و إنتقدهم بشكل لاذع في كتبه (إحياء علوم الدين) و(المنقذ من الضلال) .. هذا بالرغم من أنه كان أفضل من غيره بكثير عندما أشاد ببعض حسناتهم الفكرية و إجتهاداتهم المنطقية الطيبة كما أنه نفسه قد كانت له سياحة فكرية كبيرة في ذلك المجال .. و لكن إبن رشد الذي لم يكن قد خرج للحياة بعد عندما كتب الغزالي (تهافت الفلاسفة) أخذ المسألة بشكل شخصي .. و كان أن كتب كتابه الذي ليس بشهرة كتاب الغزالي (تهافت التهافت) . . و نلحظ من عنوان الكتاب موقع تصويب إبن رشد ، فهو رغم غضبه الجام لم يتحامق تحامقا كبيرا .. فهو لم يقل (تهافت الغزالي) و هو يعرف أن الغزالي ليس بمن يوصف بالتهافت .. و لم يقل (تهافت أفكار الغزالي) لأنه يعلم أن الغزالي في كثير من أفكاره قد أنصف الفلاسفة و لو بعض الشيء .. و لكنه قال (تهافت التهافت) ليحدد موقع تصويبه ، و هو كتاب الغزالي المدعو (تهافت الفلاسفة) و هو ينتقده في عمومه و لا ينتقده كله برمته لأن الكتاب لم يكن كله مخالفا لأفكار إبن رشد .. و لكن إبن رشد لم يستطع أن يكظم غيظه أكثر من ذلك فكال للغزالي إتهامات الجهل و (العامية) و غيرها ( المقصود بالعامية أن الغزالي تفكيره كتفكير العامة من الناس .. و كان هذا يعد إستخفافا كبيرا في ذلك الوقت) .. و لكن حتى لا نظلم إبن رشد فمن المنصف أن نذكر أن الغزالي لم يكن أقل تحاملا على الفلاسفة في كتابه المذكورأعلاه .. هذا مع أن الغزالي نفسه يسمى اليوم في أغلب الأحيان فيلسوفا عندما نقدمه للعالم كشخصية تاريخية إسلامية .. و هي ليست تسمية خاطئة على الإطلاق لو نظرنا للمعنى الأصيل لكلمة الفلسفة .. و الفلسفة بمعناها الأصيل المذكور في أول المقال تنطبق على أصحاب الرسالات السماوية من البشر أيضا .. و رغم أن الغزالي بطبيعة كتاباته يعمد لأن لا يشير بأصابع الإتهام لشخصيات بعينها إلا أنه لم يكن رحيما بــ(الفلاسفة) بشكل عام في ذلك الكتاب .. و كان عذر الغزالي أنه كان يريد أن يصرف العامة عن هؤلاء (الفلاسفة) و لو بالزجر الفكري لكون ضررهم أعظم من نفعهم في نظره .. و الغزالي في النهاية كان يرى نفسه مرشدا دينيا يهتم بالتربية الدينية لمريديه و أتباعه و العامة قبل كل شيء .. و يتخذ الطريقة التي يراها مناسبة لعدم تشتيت فكرهم بما رآى فيه مضيعة للوقت في معظمه إن لم يكن أكبر ضررا من ذلك على بعض ضعاف النفوس في نظره .. و قد كان عهد الغزالي عهد وصاية فكرية واضحة .. و في هذه النقطة بالذات يتفق الغزالي و إبن رشد في أن هناك خاصة من الناس يتفوقون في القوة العقلية على العامة من الشعب و يتسترون بعلومهم عنهم لأنهم لا يطيقونها .. و إبن رشد كان يسمي هؤلاء الخاصة بالفلاسفة في حين كان الغزالي يدعوهم بأهل الكشف أو علماء الباطن .. و أوروبا نفسها لم يسلم فلاسفتها الكبار من تلك النظرة التي تعد غير مقبولة على الإطلاق في عصرنا الحاضررغم أنها تكون مفهومة جدا إذا وضعت في أطارها الزماني. و الغزالي له صولات و جولات مع غير الفلاسفة أيضا مثل علماء الكلام مثلا .. و لسنا هنا
بصدد الحديث عن ذلك .. و لكننا نريد أن نشير لإحدى الإشارات الذكية جدا للغزالي في خصوماته الفكرية مع خصومه الفكريين .. فهو الذي أشار قبل غيره إلى أهمية عدم تقليب معاني المصطلحات .. فأهل الفتاوي في زمان الغزالي كانو يسمون بالفقهاء .. و يسمون أيضا بالعلماء كما كان يسمى كذلك أهل الكلام .. في حين أنف الصوفية عن منازعة هؤلاء في تلك الاسماء و رضوا بمسمى الصوفية و لم يهتموا بحرب المصطلحات الحامية الوطيس من حولهم .. و لكن الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين ) لم يرض أن يفوت هذه القضية دون توضيح .. فأسهب في تبيين أن اللعب بهذه المفاهيم هو الذي أوصل الناس إلى أن يشيروا بها إلى الذين لا يستحقوها في نظره و يستشهدون بها على أهلها الأصليين في نفس الوقت .. و إستشهد مثلا ببعض الأحاديث النبوية الشريفة كقول النبي (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) و أشار إلى كيف أن أهل الفتوى اليوم يتشدقون بمثل هذا الحديث و هم أبعد الناس عنه .. و هو يعني معظمهم و ليس كلهم .. فالغزالي هنا يوضح مشكلة الصراع حول المصطلحات و التي قد تغيب الكثير من الحقائق على الناس مع مرور الزمن .. فعامة من يقرأ الحديث النبوي اليوم ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) تقفز إلى ذهنه صورة المجلدات المتراكمة على بعضها من التفاصيل المملة لفتاوي الحيض و النفاس .. و أحكام بيع الطير في السماء .. و شبيهاتها. نزعم أن مثل ذلك الصراع المصطلحي الذي بينه الغزالي حول المسميات الدينية هو نفس الذي جرى لمفهوم مصطلح الفلسفة .. فالفلسفة في حقيقتها هي أكبر ما يميز الإنسان عن الحيوان .. إنها الإنتاج العقلي الواعي بخواص البيئة و حدود قدرة الإكتشاف عند الإنسان .. و هي ببساطة (أم العلوم) و خصوصا التجريبية .. فعلوم الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و الأحياء و هندساتها .. كل هذه لم تكن منفصلة عن الفلسفة في بدايتها حتى في العالم الإسلامي .. فنحن اليوم مثلا نذكر إبن رشد الفيلسوف فيغيب عن ذاكرتنا إبن رشد الطبيب و القاضي .. و نحن اليوم بالعكس مثلا نذكر إبن سينا الطبيب و لا نكاد نذكر إبن سينا الفيلسوف صاحب الكتاب الفلسفي المعروف (الإشارات و التنبيهات) .. في حين أن كل ما جاءنا من إبن سينا كان نتاجه الفلسفي .. فوجد بعض منه فرصة التطبيق التي أكدت صحته فسمي علما .. و تكاثرت علامات الإستفهام حول بعضه الآخر و ظهرت فيه بعض التناقضات مع الدين فسمي فلسفة .. لهذا نجد أنه لم يكن من الإنصاف وضع الفلسفة (كمصطلح) في خط مصادم للدين أو حتى منعزل عنه .. و هنا نجد الإنصاف الديني في قول الأستاذ محمود محمد طه (الدين و الفلسفة نبعا من الأرض .. أما الدين فقد إلتقت به أسباب السماء فهذبته) (قد لايكون اللفظ من عندي مطابقا).. و هذا يعني عندنا بالقياس أيضا أن الفلسفة لها حظ كبيرفي المعرفة - حتى الغيبية منها - و هي كما تصيب كثيرا تخطئ أيضا لأنها غير مسددة بقدر السداد الذي لقيه الدين بالتقائه السماء (من الناحية الإيمانية) .. و لكن إنكار إنتاجها و الإستخفاف به قد يكون في النهاية إستخفافا بالدين و العلم سويا إذ أنه متجذر فيهما .. و على العموم فإن نتاج الفلسفة الذي أثبتت التجربة صدقه يمنع كل ذي حلم من أن يسيء لها أو يبخس قدرها.. و لكن ما بال أقوام اليوم جعلوها صنعة تمتاز بالكسل و السلبية و البعد عن العملية .. حتى أفرغوها أو كادوا من محتواها و جعلوها محصورة في جانب ضيق جدا من تخصصاتها الواسعة؟ .. و هل بإمكاننا نحن اليوم أن نعي أهمية عدم الإستخفاف بمصطلحات أخرى لقيت نفس ما لقيه هذا المصطلح و أصبح يستخدم لأذية أهله و أصحابه بالأصالة مثل ما أشار له الغزالي أعلاه؟ .. و غير ذلك الكثير من المصطلحات المعاصرة التي بدأت تواجه نفس المصير .. مثل "العلمانية" و "العلمية" و "الإشتراكية" .. بل و حتى مصطلح "الإسلام" نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق