الثلاثاء، 20 مارس 2012

كتاب أخبار النساء ابن الجوزي الجزء الثالث والأخير


قال: فشبّهت، والله كلامها بعقد درٍّ وهي من سلكه. فهو ينتثر بنغمةٍ عذبةٍ رخيمةٍ لو خوطبت به الصّمّ الصّلاب لانبجست ماءٌ لرطوبة منطقها، وعذوبة لفظها، بوجهٍ يظلم لنوره ضياء العقول، ويتلف من رؤيته مهج النّفوس. فهي كما قال:
فرقّت وجلّت واستكرت فأكملت

فلو جنّ إنسانٌ من الحسن جنّت
فلم أتمالك أن خررت ساجداً، فقالت: ارفع رأسك غير مأجورٍ، ولا تذمّنّ بعدها برقعاً. فكشف البرقع عمّا يطرد الكرى، ويشغل الهوى، من غير بلوغ أربٍ، ولا إدراك طلبٍ. وليس إلاّّ الحين المملوب، والقدر المكتوب، والأمل المكذوب. فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي إلى طريق الصّواب. والتفت إليّ صاحبي لمّا رأى لهفي فقال: ما هذه الخفّة لوجهٍ، إنّما برقت لك بارقةً لعلّك ما تدري ما تحتها. أما سمعت قول الشّاعر? حيث يقول:
على وجه مّيٍ مسحةٌ من ملاحةٍ

وتحت الثّياب العار لو كان باديا
فقالت: بئس ما ذهبت إليه، لا أبالك، لأنّا أشبه بقول الشّاعر حيث يقول:
منعمة حوراء يجري وشاحـهـا

على كشح مرتج الرّوادف أهضم
خزاعيّة الأطراف كنديّة الحشـا

فزاريّة العينـين طـائيّة الـفـم

ثمّ رفعت ثيابها حتّى جاوزت نحرها، فإذا هي كقضيب فضّةٍ قد شيّب بماء الذّهب، يهتزّ على مثل كثيب؛ ولها صدرٌ كالورد عليه رمّانتان أو حقان من عاجٍ يملآن يد اللامس؛ وخصرٍ مطويّ الاندماج، يهتزّ في كفلٍ رجراج، لو رمت عقده لانعقد؛ وسرّةٍ مستديرةٍ يقصر وهمي عن بلوغ وصفها؛ تحت ذلك أرنبٌ جاثمٌ أو جبهة أسدٍ غادرٍ، وفخذان لفّاوان، وساقان خدلجان يحسان الخلاخيل، وقدمان خمصاوان. فقالت: أعارٌ ترى? قلت: لا والله، قال: فخرجت عجوزٌ من الخباء وقالت: أيّها الرّجل امض لشأنك، فإنّ قتيلها مطلول لا يودى، وأسيرها مكبول لا يفدى. فقالت لها الجّارية: دعيه فمثله قول ذي الرّمّة:
وإن لم يكن إلاّّ تمتّع ساعةً

قليلاً فإنّي نافعٌ لي قليلها
فولّت العجوز وهي تقول:
فما لك منها، غير أنّك ناكـحٌ

بعينيك عينيها، فهل ذاك نافع?
قال: فبينما نحن كذلك إذ ضرب الطّبل للرّحيل فانصرفت بكمدٍ قاتلٍ، وكربٍ داخلٍ،ونفسٍ هائمةٍ، وحسرةٍ دائمةٍ، فقلت في ذلك:
رسم الكرى بين الجفون مخيل

عفا عليه بكا علـيك طـويل
يا ناظراً ما أقلعت لحظـاتـه

حتّى تشخص بيتهنّ قـتـيل
أحللت من قلبي هواه محـلّةً

ما حلّها المشروب والمأكول
بكمال صورتك التي في مثلها

يتحيّر التّشبيه والتّـمـثـيل
فوق القصيرة والطّويلة فوقها

دون السّمين ودونها المهزول
قال: فوالله ما انتفعت بحجٍّ ولا لقيت أحداً ممّا كنت تأهّبت للقائه. ثمّ رجعنا منصرفين، فلمّا كنّا بذلك المنزل وقد تضاعف نوّاره، واعتمّ نبته، وتزايد حسنه، قلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلمّا مضينا وأشرفنا على الخيام ونحن دونها، سترني روضةً أريضةً مونقةً، عليها جمان الطّلّ، يغازلها كالأعين النّجل، وقد أشرقت بدموعها على قضب الزّبرجد، وهبت ريح الصّبا فصبت له الأغصان،وتمايلت تمايل النّشوان. فصعدنا ربوةً، ونزلنا وهدةً، فإذا هي بين خمسٍ لا تصلح أن تكون خادمةً لإحداهنّ، وهنّ يجنين من نوّار ذلك الزّهر، وينقلبن على ما أعتم من عشبةٍ وزهرة. فلمّا رأيننا تقربن، فسلّمنا عليهنّ. وقالت الجّارية من بينهن: وعليك السّلام، ألست صاحبي آنفاً? قلت: بلى، ولكنّ لحبّي كان ذلك. فقلن لها: أو تعرفينه? قالت: نعم. فقصّت عليهنّ القصّة كلّها ما كتمت منها حرفاً واحداً.
قلن لها: ويحك، أفما زوّدته شيئاً? قالت زوّدته والله موتاً مريحاً، ولحداً ضريحاً. فانبرت لها أنضرهنّ وجهاً، وأرقّهنّ خدّاً، وأرشقهنّ قدّاً، وأبدعهنّ شكلاً، وأكملهنّ عقلاً، فقالت: والله ما أجملت بدءاً، ولا أحسنت عوداً، ولقد أسأت في الرّدّ،ولم تكافئيه بالودّ، وإنّي أحسبه إليك وامقاً، وإلى لقائك تائقاً، فما عليك من إسعافه في هذا المكان ومعك من لا ينمّ عليك. فقالت لها: يا تعساً إلى ما دعوتني، والله لا أفعل من ذلك شيئاً أو تفعلينه وتشركيني في حلوه ومرّه، وخيره وشرّه. فقالت لها: تعساً تلك إذا قسمة ضيزي تعشقين أنت فترهبين، وتوصلين فتقطعين، ويرغب فيك فتزهدين، ويبذل لك الودّ فتمنعين الرّفد، ثمّ تأمريني أن أشاركك فيما يكون منك شهوةً ولذّةً، ومنّي عناءً وسخرةً? ما أنصفت في القول، ولا أجملت في الفعل.
قالت أخرى منهنّ: قد أطلتنّ الخطاب في غير قضاء أربٍ? فاسألن الرّجل عن قصّته وما في نفسه من بقيّته? فلعلّه لغير ما أنتنّ فيه. فقلن: حيّاك الله وأقرّ بك عيناً، من أنت، ومن تكون? فقلت: أمّا الاسم فالحسن بن هانىء الحكمي وأنا من شعراء السّلطان الأعظم ومن يتزيّن بمجلسه، ويفتخر بحمده وشكره، ويتّقي لسانه. قصدت لتبريد غلّةٍ، وإطفاء لوعةٍ قد أحرقت الكبد، وأذابت الجسد، ثمّ استبطنت الأحشاء فمنعت من القرار، ووصلت الليل بالنّهار. فقالت: لقد أضفت إلى حسن المنطق والمنظر، كريم الخيم والمخبر، وأرجو أن تبلغ أمنيتك، وتنال بغيتك. فهل قلت شيئاً في صبوتك? قلت: نعم. قلن: أنشد فأنشدتهنّ:
حجبت رجاء الفوز بالأجر قاصداً،

لحطّ ذنوب من ركوب الكبـائر،
فأبت، كما آب الشّقيّ بـخـفّـه

حنين، فلم أوجر بتلك المشاعـر
دهتني بعينيها، وبهجة وجهـهـا،

فتاةٌ، كمثل الشّمس أسحر ساحر؛
منعمةٍ، لو كان للبـدر نـورهـا،

لمّا طلعت بيض النّجوم الزّواهر.
فإن بذلت، نلت الأماني كلّـهـا،

وإن لم تنلني، زرت أهل المقابر.
فقلن: أحسنت، والله. ثمّ قالت: إنّها والله ساعتك الطّولى، إن خالفتني! قالت: لقد سمعت جوابي. فقالت أخرى: أجيبيها إلى ما دعت من الشّركة لتكن إحداكنّ في الأمر. فقلن: قد انتصفت، وقد أطلتنّ الخطاب على أمرٍ فأمضيه قبل انتشار الحي، فالوقت ممكن، والمكان خالٍ. فأجمعن على ذلك ولست أشكّ فيما أظهرن، ثمّ قلن: بمن تبدأ? قلت اقترعن. فوقعت القرعة على أملحهنّ. فصرت إلى باب المغارة هناك، فأدخلتني وأبطأت عنّي قليلاً، وجعلت أتوق وأنظر إلى دخول إحداهن. فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ أسود كأنّه سارية، بيده أيره وهو منعظ كمثل ذراع البكر. فقلت: ما تريد? قال: أنيكك. فأهمّتني والله نفسي، فصحت بصاحبي، وكان أجلد منّي، فخلّصني من الأسود. ولم أكد أخلص منه فخرجت من المغارة فإذا هنّ ينظرن من الخيمات كأنّهنّ لآلىء ينحدرن من سلكٍ، وهنّ يتضاحكن حتّى غبن عن بصري. فأسرعنا الرّجعة إلى رحالنا فقلت لصاحبي: من أين جاء الأسود? قال: كان يرعى غنماً عند ربوةٍ من المغارة، فأومأن إليه، فأسرع نحوهنّ، فأوحين إليه شيئاً فرابني ذلك. فأسرعت نحوك فسبقني ودخل عليك، ولولا ذلك لكان قد تمكّن منك الأسود. فقلت: أتراه كان يفعل? قال لي: فأنت في شكٍّ من هذا? فقلت له: اكتم عليّ. وانصرفت وأنا والله أخزى من ذات النّحيين.
فاجرة السّرداب
قال دعبل بن علي: بينا أنا سائرٌ بباب الكرج وقد استولى الفكر على قلبي فحضرني بيت شعرٍ خطر به لساني من غي النّطق به، فقلت:
دموع عيني لها انبساط

ونوم جفني له انقباض
وإذا جاريةٌ معترضةٌ تسمع كلامي فقالت:
وذا قليلٍ لمـن دهـتـه

بلحظها الأعين المراض
فلم أعلم أنّي خاطبت جاريةً أعذب منها لفظاً، ولا أسحر طرفاً، ولا أنضر خدّاً، ولا أحسن مشياً، ولا أرجح عقلاً. فوددت أنّ كلّ جارحةٍ منّي عينٌ تنظر، أو قلبٌ يفهم، أو أذنٌ تسمع. فقلت:
أترى الزّمان يسرّنا بتلاقٍ

ويضمّ مشتاقاً إلى مشتاق
ما للزّمان يقال فيه وإنّما

أنت الزّمان فسرّنا بتلاقٍ
قال: فلحظتها، وتبعتني. وذلك حين أملاقي، واختلال حالي. فقلت: مالي إلاّّ منزل صريع الغواني، فأتيته، واستوقفتها، ودخلت إليه. وقلت: ويلك يا مسلم، أجمل لك الحبروجة على الباب تقلّ له الدّنيا وما فيها من عسرٍ وضيقةٍ. قال لي: شكوت إلى ما كدت أبدؤك به الشّكوى، ولكن أئت بها على كلّ حال. فلمّا دخلت قال لي: والله ما أملك إلاّ هذا المنديل. فقلت له: هو البغية. قال، فأخذته فبعته بثلاثين درهماً، واشتريت خبزاً ولحماً ونبيذاً. وإذا هما يتنازعان حديثاً كأنّه قطع الرّوض ذكرت به قول بشّار فقلت:
وحديثٍ كأنّه قـطـع الـرّو

ض وفيه الصّفراء والحمراء
فقال لي مسلم: بيتٌ نظيفٌ، ووجهٌ ظريفٌ، ولا نفل ولا ريحان? أخرج فالتمس لنا ذلك. قال، فخرجت وجئت بما طلب،فإذا لا حسّ منهما ولا أثر لهما، فجعلت أطيل الذّكر، وأرجم الظّنّ، حتّى إذا جنّ الليل وفي قلبي لهيب النّيران، ثاب عليّ عقلي وقلت: لعلّ الطّلب يوقعني على موضعٍ خفيٍّ. فوقفت على باب سردابٍ وإذا هما قد نزلا ومعهما جميع ما يحتاجان إليه فأكلا وشربا ونعما. فدلّيت رأسي وصحت مسام ثلاث مرّاتٍ، فلم يكلّمني بأكثر من أن قال لي: محلّنا، والنّفقة من عندنا، وأنت فضولي، ما هذا الذي تقترح? اصبر مكانك حتّى يؤذن لك، فبقيت طول ليلتي أتقلّى على جمر الغضا لا أعرف أين أنا. فلمّا انشقّ الصّبح إذا به طلع وطلعت الجّارية في أثره، فأسرعت إليه وخرجت تعدو ولم تخاطبني، فكانت أعظم حسرةٍ نزلت بي.
باب ما جاء في الزّنا والتّحذير من عواقبه
سيّئات الزّنا
روي عن الأعمش، عن سفيان، عن حذيفة، أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: " يا معشر المسلمين إيّاكم والزّنا، فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاثاً في الدّنيا، وثلاثاً في الآخرة. فأمّا التي في الدّنيا: فزوال البها، ودوام الفقر، وقصر العمر؛ وأمّا اللواتي في الآخرة. فسخط الله جلّ ثناؤه، وسوء الحساب، والخلود في النّار" . المقيم على الزّنا كعابد وثنٍ
وعن الحارث بن النعمان قال: سمعت أنس بن مالك يقول أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: "المقيم على الزّنا كعابد وثن".
هؤلاء اللواتي يزنين
وعن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: "ليلة أسرى بي انطلق بي إلى خلقٍ من خلق الله ونساءٍ معلّقاتٍ بثديهنّ ومنهنّ بأرجلهنّ، منكّساتٍ، ولهنّ صراخٌ وخوار. فقلت: يا جبريل من هؤلاء? فقال: هؤلاء اللواتي يزنين ويقتلن أولادهن، ويجعلن لأزواجهنّ ورثةً من غيرهم".
الله يبغض ثلاثة
وعن أبي الدّرداء. أنّ النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: "أنّ الله عزّ وجل ليبغض ثلاثة. الشّيخ الزّاني، والمقلّ المختال، والبخيل المنّان".
أعظم الذّنوب أن تزاني حليلة جارك
وعن عمر بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أو قال غيري: أيّ الذّنوب أعظم عن الله? قال: "أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك." قلت: ثمّ أي? قال: "أن تقتل النّفس بغير حقٍّ"، ثمّ أي? قال: "أن تزاني حليلة جارك". قال: "ثمّ أنزل الله في كتابه تصديق ذلك" . ثمّ قال: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النّفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلّد فيها مهاناً".
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: "الزّاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه، ويقول أدخل النّار مع الدّاخلين".
مسؤوليّة الرّجل
وعن أبي هريرة، أنّه سمع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول حين نزلت آية الملائكة: "أيما امرأة أدخلت على قومٍ من ليس منهم فليست من الله في شيءٍ، ولن يدخلها الله جنّته. وأيما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأوّلين والآخرين".
الزّنا يجمع خصال الشّرّ كلّها
ذكر الزّنا عند يحيى بن خالد بن برمك فقال: الزّنا يجمع الخصال كلّها من الشّر. لا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاءً بعهد، ولا محافظةً على صديق؛ الغدر شعبةٌ من شعبه، والخيانة فنٌّ من فنونه، وقلّة المروءة عيبٌ من عيوبه، وسفك الدّم الحرام جنايةٌ من جناياته.
الملك زائلٌ وما تدين تدان
وحكى ابن الأعرابي قال: كان الحارث بن أبي شمر الغسّاني إذا أعجبته امرأة ووصفت له، بعث إليها واغتصبها نفسها، فأتاه أبوها فقال له:
يا أيّها الملك المخوف أما ترى

ليلاً وصبحاً كيف يختلـفـان
هل تستطيع الشّمس أن تأتي بها

ليلاً وهل لك بالمـلـيك يدان
فاعلم وأيقن أنّ ملـكـك زائلٌ

واعلم بأنّك مـا تـدين تـدان
كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان أكفر
وعن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن عبّاس يقول: كان في بني إسرائيل راهبٌ عبد الله زماناً من الدّهر، حتّى كان يؤتى بالمجانين يعوّذهم فيبرؤون على يديه. وأنه أتي بامرأةٍ من أشراف قومها قد جنّت وكان لها أخوة، فأتوه بها، فلم يزل الشّيطان يزيّن له حتّى وقع عليها، فحملت، فلمّا استبان حملها، لم يزل الشّيطان يخوّفه ويزيّن له قتلها ودفنها، فقتلها ودفنها.
وذهب الشّيطان في صورة رجلٍ حتّى أتى بعض أخوتها فأخبره بالذي فعل الرّاهب، ثمّ أتى بقيّة أخوتها رجلاً رجلاً فجعل الرّجل يلقى أخاه فيقول له: والله لقد أتاني آتٍ فذكر لي شيئاً كبيراً علينا. فأخبر بعضهم بعضاً بما قيل لهم، فأتوا إلى الرّاهب فقالوا: ما فعلت أختنا? قال: خرجت، ولست أدري أين ذهبت. فرفعوا ذلك إلى ملكهم، فسار إليه النّاس حتّى استنزلوه من صومعته، فأقرّ لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب على خشبةٍ، وتمثّل له الشّيطان فقال له: أنا الذي زيّنت لك هذا وألقيتك فيه، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك? قال: نعم. قال: تسجد لي سجدةً واحدةً فسجد له الرّجل، ثمّ قتل. فهذا داخلٌ تحت قول الله عزّ وجل: " كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريءٌ منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين" . ولم تزل أشراف العرب في الجاهليّة يتجنّبون الزّنا ويذمّونه، وينهون عنه.
الزّنا يورث الفقر

وروى هشام بن عروة عن أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق، رضي الله عنه، قالت: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل في الجاهليّة وهو مسندٌ ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريشٍ إيّاكم والزّنا، فإنّه يورث الفقر.
إيّاكم وفضيحة النّساء
وفي وصيّة دريد بن الصّمة: إيّاكم وفضيحة النّساء فإنّها عقوبة غدٍ، وعار أبدٍ، يكاد صاحبها يعاقب في حرمه بمثلها، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها.
راودته فامتنع فسمّته
وحكى بعضهم قال: وفد عبد المطّلب بن هاشم على بعض ملوك حمير فألطف منزلته وأكرمه. وكان تامّاً جميلاً، فقال له الملك: يا أبا الحارث، أحبّ أن ينادمني ابنك. فأذن له أبوه في ذلك. وكان الحميري أجمل ملوك حمير، وكانت زوجته أجمل منه. فكان إذا شرب مع الحارث خرجت زوجته فجلست معهما تسقيهما، فعشقت الحارث زوجة الملك، فكلفت به، فراسلته، فأعلمها أنّه محصن عن الزّنا ولا يخون نديمه. فألحّت عليه فكتب إليها:
لا تطعمي فيما رأيت فـإنّـنـي

عف منادمتي عفيف الـمـئزر
أسعى لأدرك مجد قـومٍ سـادةٍ

غمروا فطفن البيت عند المشعر
فافني خيالاً واعلمي أنّي امـرءٌ

أربى بنفسي أن يعيّر معشـري
ثمّ إنّه أخبر أباه، فصوّب رأيه وقال له: يا بني إنّ لنساء الملوك طفاحاً. فلمّا رأته قد عزفت نفسه عنها قالت: والله لا أدعه تتمتّع به امرأة أبداً. فدسّت إليه شربةً فشربها وارتحل مع أبيه، فلمّا قدم مكّة مات فجزع عليه عبد المطّلب جزعاً شديداً وقال يرثيه:
سقى الإله صدى واريته بـيدي

ببطن مكّة تعفوه الأعـاصـير
يا حارث الخير قد أورثتني شجناً

فما لقلبي عن ذكراك تـغـيير
فلست أنساك ما هبت شـآمـيّة

وما بدا علمٌ في الآل معمـور
راودته فامتنع فسمّه والدها
ولمّا قتلت بنو أسد بن خزيمة حجر بن الحارث أبا امرىءٍ القيس دار في أحياء العرب فلم ير منهم ما يحب، فمضى حتّى قدم على هرقل ملك الرّوم، فأقام عنده شهراً فأكرمه ونادمه، وأعجبه كماله وعقله. ثمّبعث معه ستّمائةً من أبناء الملوك ومن تبعهم. ونظرت إليه ابنة الملك فعشقته وأرسلت إليه أن يلقاها قبل خروجه، فجعل يعتذر لها ويعلّلها ولا يرضى أن يخون أباها فيها مع ما فعله معه. وخرج منصرفاً إلى بلده فقالت بنت هرقل لأبيها: ما صنعت بنفسك وجهت أبناء ملوك الرّوم مع ابن ملك العرب? لو قد استمكن ممّا أراد غزاك ونزع ملكك. فوجّه إليه الملك بحلّةٍ منسوجةٍ بالذّهب مسمومةٌ فلمّا لبسها تنفط جلده، وتساقط لحمه، فنظر إلى جبلٍ فسأل عنه، فقيل له: اسمه عسيب. فقال:
أجارتنا إنّ المزار قـريب

وإنّي مقيمٌ ما أقام عسـيب
أجارتنا إنّا غريبان ههـنـا

وكلّ غريبٍ للغريب نسيب
وقيل إنّه قال هذا لأنّه رأى قبراً عند هذا الجبل فسأل عنه فأخبر أنّه قبر امرأةٍ من بنات ملوك الرّوم. فمات هناك.
أفضل الثّلاثة: العفيف الجواد
وممّا فضل به بسطام بن قيس على عامر بن طفيل وعتبة بن الحارث بن شهاب. أنّ بسطاماً كان فارساً عفيفاً جواداً؛ وكان عتبة فارساً عفيفاً بخيلاً؛ وكان عامر فارساً جواداً عاهراً. فاجتمعت في بسطام ثلاث خصالٍ شريفةٍ فبذلك فضلهما بسطام.
ساد بعفافه
قال الشّعبي تنافر عامر بن الطّفيل بن ملك بن جعفر وعلقمة بن علاثة بن الأحوص إلى هرم بن قطبة بن سنان الذّبياني حكيم العرب فقال لعلقمة: بأيّ شيءٍ أنت أسود من عامر? قال: أنا بصيرٌ، وهو أعورٌ، وأنا أبو عشرة وهو عقيمٌ، وأنا عفيفٌ وهو عاهرٌ.
العوام أكثر النّاس عذراً

وإنّما أطلقت العرب حديث الرّجال إلى النّساء لمّا كانوا يرون من النّقص في الرّيب، ويأخذون أنفسهم بحفظ الجيران، وما يعرف بعضهم من بعضٍ من استعمال الوفاء، والتّحرّز من العار. لأنّ الرّجل منهم كان يصون حرمة جاره وصاحبه كصيانة الابنة والأخت والزّوجة من حرمه. لا يرى أحدٌ منهم لنفسه رخصةً في إضاعة ذلك، وإنّما يتحمّل الغدر، ويرخص نفسه فيه، من باين البوادي، وخالط الحضر، لأنّه رأى أجناس العبيد، وأخلاط العوام، وقد نشأوا على عادةٍ فجروا عليها ولن يستوي من كرم طبعه وصحّت بنيته وترك الفواحش وجانبها تنزّهاً عنها ولأنّها محظورةٌ عليه وغير مباحة له. وأحبّ شيءٍ إلى الإنسان ما منع عنه. فترك الأوّل طبعٌ، وترك هذا تكلّفٌ. وأمّا العوام وأخلاط النّاس فلا يكادون يتورّعون عن محرّمٍ، ولا يستحيون من عارٍ، وهم أكثر العالم غدراً.
شهادة المسح ع
قال المسيح عليه السّلام: لا يزني طرفك بما غضضت بصرك.
أحبلها بنظراته
ونظر أشعث إلى ابنه يوماً وهو يديم النّظر إلى امرأته فقال له يا بني أظنّ نظرك إليها قد أحبلها. أخذ هذا بعض الشّعراء فقال:
ولي نظرةٌ لو كان يحبل ناظرٍ

بنظرته أنثى لقد حبلت منّي
رشقوها بأبصارهم فعنّفتهم
مرّت امرأةٌ بقومٍ من بني نمير فرشقوها بأبصارهم وأداموا النّظر إليها، فقالت: قبّحكم الله يا بني نمير، فوالله ما أخذتم بقول الله تبارك وتعالى: " قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم" ولا بقول الشّاعر:
فغضّ الطّرف إنّك من نميرٍ

فلا كعباً بلغت ولا كلابـا
فخجل القوم ممّا قالت وأطرقوا.
أربعٌ لا يشبعن من أربع
وكان يقال: أربعٌ لا يشبعن من أربع: عينٌ من نظر، وأذنٌ من خبر وأرضٌ من مطر، وأنذى من ذكر.
يخاف عينيها
قال إسحاق بن بهيل: رأيت رجلاً في طريق مكّة وعديله في المحمل وجاريةٍ قد شدّ عينيها وكشف سائر وجهها فقلت له في ذلك، فقال: إنّما أخاف عينيها لا عيون النّاس.
حلقت شعرها لأنّه رآه خصي
وكان عند بعض القرشيين امرأةٌ عربيّةٌ فدخل عليها خصي لزوجها وهي واضعةٌ خمارها تمشّط شعرها، فحلقت شعرها، وقالت: لا يصحبني شعرٌ نظر إليه غير ذي محرّمٍ منّي.
الزّنا ليس فقط بإجهاد النّفس
وقال رجلٌ لأعرابي: ما الزّنا عندكم? قال: النّظرة، والقبلة. قيل له: ليس هذا الزّنا عندنا! قال: وما هو? قال: أن يجلس بين شعبها الأربع ثمّ يجهد نفسه. قال: بأبي أنت، ليس هذا زانياً هذا طالب ولد!.
ليلة الدّير وما ليلة الدّير?
قيل لأبي الطّمحان القبني: أخبرنا عن أقبح ذنوبك? قال: ليلة الدّير. قيل: وما ليلة الدّير? قال: نزلت على نصرانيّةٍ فأكلت طفشلاً بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت.
لو تمرّست به ما استعصمت
وقال الجاحظ: قرأ قارىء: قالت فذلكنّ الذي لمتني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. فقال إبراهيم بن عزوان: لا والله ما سمعت بأعدل من هذه الفاسقة، أمّا والله لو تمرّست بي ما استعصمت.
منعه ثلاثةٌ عندها
بات أعرابيٌّ ضيفاً لبعض الحضر فرأى امرأته، فهمّ أن يأتي إليها في الليل فمنعه الكلب؛ ثمّ أراد ذلك مرّةً أخرى، فمنعه ضوء القمر؛ ثمّ أرادت ذلك في السّحر، فإذا عجوزٌ قائمةٌ تصلّي. فلمّا رأى ذلك قال:
لم يخلق الله شيئاً كنت أبغـضـه

غير العجوز وغير الكلب والقمر
هذا يبوح، وهذا يستصـاء بـه،

وهذه سبحةٌ قوّامة الـسّـحـر
عيدان القيان أجمل
وصف أعرابيٌّ رجلاً ماجناً فقال: والله لو أبصرته عيدان القيان لتحرّكت أوتارها، ولو رأته مومسةٌ لطار خمارها.
بغت ثلاث مرّاتٍ

وحكى خريدة بن أسماء، قال: حججنا، ونحن في رفقةٍ، إذ نزلنا منزلاً ومعنا امرأةٌ نامت ثمّ انتبهت وحيّةٌ على عنقها لا تضرّها بشيءٍ، فلم يجترىء أحدٌ منّا أن ينحيها عنها، فلم تزل كذلك حتّى أبصرت الحرم فانسابت ومضت عنها، فحمدنا الله ودخلنا مكّة فقضينا نسكنا، ورأى الغريض المغنّي المرأة وقد سمع الحديث وما تحاكاه النّاس عنها فقال لها: يا شقيّة ما فعلت حيّتك? قالت: في النّار. قال: ستعلمين في النّار. قال فضحكت المرأة ولم تفهم ما أراد وارتحلنا منصرفين حتّى إذا كنّا بالموضع الذي حين نزلناه جاءت الحيّة حيث انسابت وتطوّقت عليها، فلمّا تألّمت المرأة عرفتها، ثمّ صفّرت الحيّة، فإذا الوادي يسل علينا من جنباته حيّاتٍ، فنهشتها حتّى بقيت عظاماً ونحن نرى ذلك. ثمّ انصرفنا جميعاً فقلنا للجارية التي معها: ويحك خبّرينا بخبر هذه المرأة، فقد والله رأينا منها عجباً? قالت: نعم بغت ثلاث مرّاتٍ، تلد في كلّ مرّةٍ غلاماً، فإذا وضعته حمت تنّوراً ورمته فيه وتكتم خبره. قال: فقلت سبحان الله ما أعجب هذا. وذكرت قول الغريض لها ستعلمين من في النّار، فزادنا ذلك تعجّباً منها.
على غير ذنبٍ جناه
قال أحمد بن يحيى: كان مرثد، عمّ عمرو بن قميئة الشّاعر، عنده امرأةٌ جميلةٌ، وكان قد كبر، وكان يجمع بني أخيه وبني عمّه في منزله للغداء كلّ يومٍ. وكان عمرو بن قمية شابّاً جميلاً، وكانت أصبع رجله الوسطى والتي تليها مفترقتين. فخرج مرثد يرمي بالقداح، فأرسلت امرأته إلى عمرو بن قميئة: ابن عمّك يدعوك. فجاءت به من دير البيوت، فلمّا دخل عليها لم يجد عمّه فأنكر أمرها، فراودته عن نفسها، فقال لها: لقد جئت بأمرٍ عظيمٍ، وما كان مثلي يدعى لمثل هذا! قالت: لتفعلنّ ما أقول لك أو لأسوأتك. قال: إلى المساءة دعوتني! ثمّ أنّه قام فخرج. وأمرت بجفنةٍ فكبّت على إثر رجله فلمّا رجع مرثد وجدها متغضّبةً فقال لها: ما لك? قالت: إنّ رجلاً من قومك قريب القرابة جاء يستامني نفسي ويريد فراشك منذ خرجت. قال: ومن هو? قالت: أمّا أنا فلا أسمّيه، ولكن قم فاقتف أثره تحت الجفنة. فلمّا رأى الأثر عرفه فأعرض عنه وجفاه، ولم يزده على ذلك، وكان أعجب الخلق إليه. وعرف ابن قميئة ذلك وكره أن يخبره فقال:
لعمرك ما نفسي بجـدٍّ رشـيدةٍ

تؤامرني شرّاً لأصرم مـرثـدا
عظيمٌ رماه القدر لا متـعـبّـسٌ

ولا مؤيس منها إذا هو أخمـدا
فقد ظهرت منـه بـوائق جـمّةً

وأفرغ في لومي مراراً وأصعدا
على غير ذنبٍ أن أكون جنّيّتـه

سوى قول باغٍ جاهد فتهـجّـدا
وبلغت الأبيات مرثداً فكشف عن الأمر حتّى تبين له، فطلّق امرأته وعاد على ما كان عليه لابن أخيه.
الله يعلم شأن ذاك الجار
وذكر هشام بن محمّد الكلبي، عن الحصين بن لبيد قال: كان الحطيئة نازلاً في بني المسند من بني ضبّة فرأى لبنة بنت قرطة أخت العلاء، وكانت فاسدةً، فأعجبته فكلّمها فأجابته، فوقع عليها، فحملت منه. ثمّ ارتحل الحطيئة، فلمّا بان حملها، زوّجها العلاء بن غالب بن صعصعة فولدت الفرزدق على فراشه فنسب إليه. ففي ذلك يقول جرير بن الخطفي.
كان الحطيئة جار أمّك مرّةً

والله يعلم شأن ذاك الجـار
لا تفخرنّ بغالبٍ ومحـمّـدٍ

وافخر بعبس يوم كلّ فخار
اختبره ونفاه
قال: وقدم الفرزدق على عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فأكرمه وأحسن ضيافته. فبلغه أنّه زانٍ أن يختبر ذلك، فقال لجاريةٍ له: انطلقي إلى الفرزدق، وعمر في حجرةٍ له ينظر ما يصنع الفرزدق، فأتته الجّارية بالغسل والدّهن، وذهبت لتغسل رأسه، فوثب عليها فركضته وقالت: لعنك الله من شيخ. ثمّ خرجت فأتت عمر فأخبرته فنفاه من المدينة. وقال جرير:
نفاك الأعزّ بن عبد العزيز

وحقّك تنفى من المسجـد
فقال الفرزدق:
فأوعني وأجلّني ثـلاثـاً

كما وعدت بمهلكها ثمود
ودخا الفرزدق يوماً على سليمان بن عبد الملك، وهو خليفةٌ، فقال: أنشدني يا أبا فراس! فأنشده قصيدته حتّى بلغ إلى قوله:
خرجن إليّ لم يطمثن قبلي

فملن أصحّ من بيض النعام
فبتن بجانبي مصـرعـاتٍ

وبت أفض أغلاق الختـام
قال ما لم يفعل
فقال له سليمان: ما أظنّك يا أبا فراسٍ إلاّ قد أحللت نفسك، أقررت عندي بالزّنا، وأنا إمامٌ، ولا بدّ من إقامة الحدّ عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحللت نفسي إن كنت تأخذ بقول الله وتعمل به. قال سليمان: فبقول الله نأخذ عليك الحد. قال الفرزدق: فإنّ الله يقول: "والشّعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون، وإنّهم يقولون ما لا يفعلون". وأنا، يا أمير المؤمنين، قلت ما لم أفعل. فتبسّم سليمان، وقال: تلافيتها يا أبا فراس، ودرأت الحدّ عن نفسك. وخلع عليه، وأمر له بجائزة.
طلب غنيمةً فوجد أيراً
قال أبو عبيدة: هوى أبو العبّاس الأعمى امرأةً ذات بعلٍ فراسلها فأعلمت زوجها، فقال لها: أطمعيه. فأطمعته، ثمّ قال: أرسلي إليه فليأتك. فأرسلت إليه، فأتاها، وجلس زوجها إلى جانبها، فقال لها أبو العبّاس: إنّك وصفت لنا فألمسينا. فأخذت يده فجعلتها على أير زوجها وقد أنعظ، فنثر يده وعلم أنّه قد كيد، فخرج من عندها وقال:
أتيتك زائراً فوضعت كفّي

على أيرٍ أشدّ من الحـديد
عليّ أليّة ما دمـت حـيّاً

أمسّك طائعـاً ألا أعـود
فخيرٌ منك من لا خير فيه

وخيرٌ من زيارتكم قعودي
طيّبة عليه حراماً
وكان بشّار الأعمى يرتع، فبلغ امرأته ذلك، فعاتبته مراراً فحلف لها. وإنّها سألت عن المكان الذي يمضي إليه فدلّت على امرأةٍ تجمع بين النّساء وبين الرّجال، فبذلت لها شيئاً وسألتها إذا جاءها بشّار أن تبعث إليها. ففعلت، وقالت: أبشّار قد وقعت اليوم امرأة من أجمل النّساء ووصفتها له فطرب إليها، فلمّا خلا بها وخالطها ضربت بيديها في لحيته وشتمته، وقالت: أين إيمانك الفاجرة? فقال لها: لعنك الله ألا تركتني حتّى أقضي حاجتي، فوالله ما رأيت أبرد منك حلالاً، ولا أطيب منك حراماً! !
زوجة الرّشيد ومخارق
قال إسحاق بن إبراهيم: كان مخارق يهوى البهار جارية أمّ جعفر وشغف بها حتّى أفضى غايته في حبّها. فبينما هو منصرفٌ ذات ليلةٍ من دار المأمون في دجلة، وقد عمل الشّراب فيه، وأمّ جعفر جالسة في دارها على دجلة إذ رفع عقيرته يغنّي شعر عبّاس بن الأحنف:
إن يمنعوني ممرّي قرب داركـم،

فسوف أنظر من بعدٍ إلى الدّار.
ما ضرّ جيرانكم، والله يكلؤهـم،

لولا شقائي إقبـالـي وإدبـاري
لا يقدرون على منعي، وإن جهدوا

إذا مررت، وتسليمي بإجهـاري.
فسمعت أمّ جعفر صوته فأمرت خدّامها فصاحوا بملاحة فقدم وصعد إليها، فدعت له بكرسيٍّ وصينيّةٍ فيها نبيذٌ فشرب، وخلعت عليه وقالت لجواريها: أضربن معه. فكان أوّل ما تغنّى به:
أغـيب عـنـك بـودٍّ لا يغـيره

نأي المحلّ ولا صرفٌ من الزّمن
فإن أعش فلعلّ الدّهر يجمعـنـا

وإن أمت فبطول الشّوق والحزن
قد حسّن في عينيّ ما صنـعـت

حتّى أرى حسناً ما ليس بالحسـن
قال، فاندفعت البهار تباريه في الصّوت وتغنّي:
تعتلّ بالشّغل عنّا لا تكلّـمـنـا

والشّغل للقلب ليس الشّغل للبدن
فضحكت أمّ جعفر، وقالت، ما رأيت ولا سمعت قط بأحسن من هذا. ووهبت له الجّارية فأخذها وانصرف.
أخذ الجّارية والعتيدة والدّنانير

قال إبراهيم بن الخطيب: حدّثني مخارق قال: كنت عند الرّشيد فلمّا أراد الانصراف قال لي: يا مخارق بكّر عليّ. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. فلمّا أصبحت بكّرت أريد ما ذكره، فإذا جارية راكبة وهي أحسن النّاس عينين في النّقاب، فنظرت إليها، ونظرت إليّ، فلم أملك نفسي وتعشّقتها وتبعتها حتّى دخلت منزل المعبدي الهاشمي، فقلت لغلماني: إذا كان المغرب فصيروا إليّ، فإذا كنت في الدّنيا خرجت إليكم، وإذا كنت متّ فقد قضيت وطراً. قال: واقتحمت ودخلت الدّار، فإذا جماعةٌ مجتمعون وقد أحضروا طعاماً فأكلت معهم، وأحضر الشّراب، وغنّت الجّارية فإذا هي أحذق النّاس وأطيبهم، فغنّيت، فقال المعبدي: ما أحسنه وأبهاه، فمن هو? فقال له القوم: ما نعرفه. فقال: ما أظرف هذا يدخل منزلي بغير أمري أبغوا إليّ صاحب الشّرطة. وكلّ ذلك بمسمعي، قالت الجّارية: يا مولاي لا تفعل، لعلّ له عذراً. فبحياتي هب لي جرمه فقد رحمته، وأحسب أنّ هذه صناعته. قال: فطابت نفسي فلمّا خرجت قال لي: يا فتى تغنّي? فقلت: نعم. فغنّيت، فطرب القوم وقال المعبدي: إن كان في الدّنيا مخارق فأنت هو! قلت: نعم أنا مخارق وحدّثته حديثي والسّبب في دخول منزله، فسرّ وفرح ودعا بدواةٍ وقرطاسٍ وأقبل يكتب ويعود إليه الجواب، ثمّ وزن مالاً ووجّه به.
فلمّا كان بالعشيّ قال: يا غلام هات تلك العتيدة. فأحضر عتيدةً مملوءةً طيباً، وقال: هات ذلك التّخت. فأحضره إيّاه، فقال: أتدري ما نحن فيه: قلت: لا. قال: قد اشتريت لك الجّارية بأربعين ألف دينار، وهذه عتيدةٌ فيها طيب، وتخت ثياب. فأخذت بيدها وانصرفت بها عروساً، فلمّا أصبحت بكّرت على الرّشيد فقال لي: يا ابن الفاعلة أين كنت? فحدّثته الحديث فسرّ به، وقال: ما توهّمت أنّ في أهلي مثل هذا. وأمر من ساعته أن يحمل إليه أربعون ألف دينار.
أخذ الجّارية لشعره وأدبه
وكان ليوسف بن القاسم، وهو أبو أحمد بن يوسف، وزير المأمون، غلامٌ أسودٌ متأدّبٌ نشأ في الأعراب فهوى جاريةً لرجلٍ قرشيٍّ، فشكاه القرشيّ لمولاه، فضربه وحبسه، وحلف أن لا يطلقه إلاّ بعد شفاعة من شكاه، فقيل له: ويحك أتحبّك كما تحبّها? فقال:
كلانا سواءٌ في الهوى غير أنّها

تجلد أحياناً وما بي من تجلّـد
تخاف وعيد الكاشحين وإنّـمـا

جنوني عليها حين أنهي وأوعد
فبلغ مولاه شعره فقال: وإنّ فيه لهذا الفضل! فركب من وقته إلى القرشيّ فقال له: أسألك أن تبيعني هذه الجّارية بأيّ ثمنٍ شئت. فقال: ما أفعل حتّى أعرف السّبب في ذلك. فعرّفه الخبر وأنشده البيتين، فقال: أشهدك إنّي قد وهبت له الجّارية، وأنا أعطي الله عهداً أن أخذت لها ثمناً أبداً، لشفاعتك وأدب الغلام. ووجّه الجّارية معه فدفعها إلى الغلام.
المتوكّل يعيش همّ المحبّين
قالوا كان المتوكّل جالساً يوماً في القصر الذي يقال له المختار إذ مرّ خادمٌ أسودٌ لفتيحة مبادراً يريد الدّخول إلى دار النّساء، فسقط منه كتابٌ مختومٌ، فأمر من جاءه بالكتاب وفتحه فإذا فيه مكتوبٌ:
أكثري المحو في الكتاب ومحّه بريق اللسان لا بالبنان

وأمرّي الختام فوق ثنايا

ك الـعـذاب الـمـفـلـجـات الـحــســـان
إنّـنـي كـلّـمــا مـــررت بـــحـــرفٍ

فيه مـحـوٌ لـطـعـتـه بـلــســـانـــي
فأراهـا تـقـــبـــيلة مـــن بـــعـــيدٍ

أهـديت لـي ومـا بـرحـت مـكـــانـــي
فقال: يا فتح ما ترى? قلد اجترأ ليّ من كتب هذا الشّعر! عليّ بالخادم. فأتي به، وقد علم الخادم إنّ الكتاب سقط منه فطار عقله خوفاً ورعباً، فقال له: من دفع هذا الكتاب إليك وأنت آمن? فإن صدقت نجوت، وإن لم تصدق ضربت عنقك. قال: يا مولاي إنّ لمولاتي فتيحة وكيلاً يتصرّف في أمرها من أبناء البرامكة وهو يحبّ جاريتها نسيم الكاتبة، وأنا أسعى بينهما بالكتب التي يتكاتبان بها. فقال له: امض بلا خوف عليك. ثمّ قام المتوكّل فدخل على فتيحة وقال لها خذي في أمر جاريتك نسيم الكاتبة فإنّي قد زوّجتها من فلان وكيلا وأنقدت عنه عشرة آلاف درهمٍ. وأمر بإحضار الوكيل فقال له: هل لك في نسيمٍ? فذهب عقله، وطار قلبه، وخاف خوفاً شديداً، فقال له: تكلّم وأنت آمن، فقد زوّجتك بها، ومهرتها عشرة آلاف درهمٍ وأمرت لا بعشرة آلاف تولم بها. وسأل فتيحة تعجيل زفافها إليه ففعلت.
خدعها القوّاد

وحكى الهيثم بن عدي، عن ابن عبّاس، قال: كانت عاتكة بنت يزيد بن معاوية تحت عبد الملك بن مروان، وكان يجد بها ويحبّها حبّاً شديداً، فغضبت عليه، فطلب رضاها بكلّ أمرٍ، فأبت حتّى أضرّ به ذلك وشكا إلى خاصّته. فقال له عمر بن الأسدي: ما لي إن أرضيتها? قال له: حكمك. قال، فخرج فأتاها وجلس بين يديها يبكي. فقال له حاضنتها: ما لك يا أبا حفص? قال: لقد جئت إلى بنت عمّي في أمرٍ مهمٍّ عظيمٍ، فاستأذني لعلّها تقضي حاجتي. فقالت: ما بالك? فقال لها: قد عرفت حالي مع أمير المؤمنين عبد الملك، ولم يكن لي غير ابنين، فتعدّى أحدهما على الآخر فقتله. فقلت: أنا وليّ الدّم وقد عفوت. فقال أمير المؤمنين: ما أحبّ أن أعوّد رعيّتي هذا. وهو قتله بالغداة فنشدتك الله ألا كلّمته فيه، وسألته في إبقائه لي، فإنّك تجمعين في ذلك إحياءه وإحياء نفسي. فإنّه إن قتله قتلت نفسي. فقالت: ما أكلّمه. فقال لها: ما أظنّك تكسبين شيئاً أحبّ من إحياء نفسين. . . وبكى بكاءً شديداً: فلم يزل بها صواحبها وخدمها وحاشيتها حتّى قالت: عليّ بثيابي. فلبست، وكان بينها وبينه بابٌ قد ردمته. فأمرت بفتحه ثمّ دخلت. فأقبل أحد الغلمان فقال: يا أمير المؤمنين هذه عاتكة. قال: ويلك رأيتها? قال: نعم يا أمير المؤمنين. وإذا هي قد أقبلت وعبد الملك على سريره. فسلّمت، فسكت، فقالت: أمّا والله لولا مكان عمر ابن بلال ما فعلت، ولا أتيتك والله. إن عدا أحد بنيه على الآخر فقتله، وهو الوليّ وقد عفا عنه، لتقتله? قال: أي والله، وهو راغمٌ. قالت: أنشدك الله أن لا تفعل. فدنت فأخذت بيده،فأعرض عنها، فأخذت أرجله فقبّلتها، فأكبّ عليها وضمّها إلى نفسه ورفعها إلى سريره، وقال: قد عفوت عنه. فتراضيا.
وراح عبد الملك فجلس مجلس الخاصّة، فدخل عمر بن بلال، فقال: يا أبا حفص ألطفت الحيلة في القيادة فلك حكمك! فقال: يا أمير المؤمنين، ألف دينارٍ ومزرعة بما فيها من الرّقيق والآلة. قال: هي لك. قال: ومرابض لولدي وأهل بيتي. قال: وذلك كلّه لك. . . وبلغ عاتكة الخبر فقالت: ويلي على القوّاد خدعني.
حسب الاتّفاق بعد حين
ويروى أنّ معاوية بن أبي سفيان، رحمه الله، رأى، كاتباً له يكلّم جاريةً لامرأته فاختة بنت قريظة، في بعض طرق داره، فقال له: أتحبّها? قال: أي والله، يا أمير المؤمنين. قال: أخطبها من فاختة. فخطبها. وكلّم معاوية فاختة فأجابته، فزوّجها منه، فدخل معاوية وبين يديه عتيدة من العطر لعرس جاريتها، فقال: هوّني عليك يا بنت قريظة، إنّي أحسب الاتّفاق كان بعد حين.
يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام
قال عمر بن شبّة: كان الأحنف بن قيس يوماً جالساً مع معاوية،إذ مرّت بهما وصيفة فدخلت بيتاً من البيوت، فقال معاوية: يا أبا بحر، أنا والله أحبّ هذه الجّارية وقد أمكنتني منها لولا الحياء من مكانك. فقال الأحنف: فأنا أقوم. بل تجلس لئلّا تستريب بنا فاطمة. فقال الأحنف: شأنك. فقام معاوية إليها. فبينا هو يماجنها إذ خرجت بنت قريظة فقالت للأحنف: يا قوّاد، أين الفاسق. فأومأ الأحنف إلى البيت الذي هو فيه، فأخرجته ولحيته في يدها، فقال لها الأحنف: أرفقي بأسيرك، رحمك الله. فقالت: يا قوّاد، وتتكلّم أيضاً? فقال معاوية: يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام.
ثقبها ثقب اللؤلؤ
قال ابن شبّة: كانت بالمدينة امرأةٌ يقال لها صهباء، من أحسن النّاس: وكانت من هذيل. وكانت رتقاء. فتزوّجها ابن عمٍّ لها. فمكث حيناً لا يقدر عليها لشدّة ارتقاقها، فأبغضته بغضاً شديداً، فطلبت منه الطّلاق فطلّقها. ثمّ إنّه أصاب أهل المدينة مطرٌ شديدٌ، في الخريف، وسيلٌ عظيمٌ. فخرج أهل المدينة، وخرجت صهباء مع أهلها، وخرج ابن جحشٍ وأصحابٌ له للنزهة. فلمّا انتصف النّهار وخلا الوادي، خرجت صهباء واستنقعت في السّيل، وخرج ابن جحشٍ ولم تشعر به صهباء، فرآها وأحبّها وتهالك عليها.
وكان بالمدينة دلّالةٌ على النّساء يقال لها قطبة. وكانت تداخل القرشيين بنسائهم: فلقيها ابن جحشٍ فسألها عن صهباء فقال: اخطبيها عليّ. قالت: قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد الله، وأنعم له بها أهلها ولا أراهم يتخطّون عيسى إليك. . فشتمها ابن جحشٍ وقال: كلّ مملوكٍ لي حرٌّ لوجه الله إن تحتالي فيها حتّى أتزوّجها، لأضربنّك ضربةً بالسّيف- وكان مقداماً جسوراً- ففزعت منه فدخلت على صهباء وأهلها، فتحدّثت معهم، ثمّ ذكرت ابن عمّها، فقال لعمّة صهباء: ما باله فارقها? فأخبرتها خبره فأصغت إلى عمّتها فقالت لها، وأسمعت صهباء: أمّا والله لو كان ابن جحشٍ لنقبها نقب اللؤلؤة. ثمّ خرجت من عندهم.
فأرسلت إليها صهباء أن مري ابن جحشٍ فليخطبني. فلقيت قطبة ابن جحشٍ فأخبرته الخبر. فخطبها، فأنعمت له، وأبى أهلها إلاّ عيسى بن طلحة. وأتت صهباء إلى ابن جحشٍ فتزوّجها وأفتضها من ساعته. وفيها يقول:
دار الصّهباء الذي لا ينتـهـي

عن ذكرها أبداً ولا ينهـاهـا
صفراء يطويها الضّجيع لطافةً

طيّ الجمانة ليّناً مثـنـاهـا
نعم الضّجيع إذا النّجوم تغوّرت

بالقرب أخراها على أولاها.
ألحقوا النّساء بأكفائهنّ
قالوا: كان رجلٌ من تجّار أهل المدينة من ذوي النّعمة، في ليلةٍ من شهر رمضان، في المسجد يصلّي إذ عرض له في منزله بعض الأمر. فانصرف من التّراويح فأصاب بابه مفتوحاً، وإذا رجلٌ مع ابنته في محلّها يحدّثها. فأخذ بيده وذهب به إلى منزل ابن أبي عتيق. فدقّ عليه، فأشرف عليه، فقال: أردت أن أكلّمك، جعلت فداك. قال، فانحدر إليه فقال له: إنّ هذا الفتى وجدته في منزلي على حال كذا. فسألته فزعم أنّه ابنك. فأقبل ابن عتيقٍ فأخذ بيد التّاجر فشكره وجزاه خيراً، وقال: لن يعود إلى شيءٍ تكرهه أبداً إن شاء الله. فأخذ الفتى ولكزه وشتمه. فلمّا ولّى الرّجل قال للفتى: من أنت ويلك? قال: أنا ابن فلانٍ التّاجر وابتليت بابنة هذا التّاجر فدخلت عليها هذه الليلة أتحدّث عندها. فما راعني إلاّ أنّه واقفٌ على رأسي. فلم أجد ملجأً إلاّ أن اعتزيت إليك، لمّا علمت من قدرك وشرفك وكرمك. قال: أخبرني عن الجّارية، أتحبّك? قال: نعم. قال: فهل يمكنك أن تأتي بها إلى منزلي هذا? قال: نعم. قال: فعدها وأت بها. وأمر غلاماً له، وقال: إذا جاءت المرأة التي يأتيك بها هذا الفتى فأدخلها، واجلس أنت مع الفتى، وأرسل إليّ من يعلمني. ففعل الفتى، وأتى بالجّارية إلى المكان. وأرسل إلى ابن أبي عتيقٍ فعرّفه. فأرسل إلى أبي الجّارية: إنّك اصطنعت إلى فتانا يداً، وقد أحببنا أن نصنع إليك مثل ذلك في فتاتكم.
فأدخله عليها، فلمّا رآها استرجع، فقال له ابن أبي عتيقٍ: ما هذا? أهون عليك هذا الأمر وأقبل وصيّة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، حين قال: " ألحقوا النّساء بأكفائهنّ" . إنّ هذا الفتى ليس والله بولدي، ولكن هو قد انتسب إليّ لما أدرك من النّجاة منك، وهو فلان ابن فلان التّاجر، وهو من نظرائها وأكفائها. فهل لك أن تزوّجه إيّاها وأصدقها عنه من مالي مائة دينارٍ. قال: نعم.
ولم يبرحوا حتّى زوّجها منه وأصدقها وأخرج المهر من عنده، وسأله التّعجيل بزفافها إليه.
أحييت نفسي بقتل نفسك
وحكي عن ابن أبي ورقاء الجبلي قال: خرجت من الكوفة أريد بغداد. فلمّا صرت بأوّل مرحلةٍ نزل غلماننا ففرشوا بسطهم، وهيّأوا عداءهم، ونزلت. ولم يجء أحدٌ بعد. فرمانا الطّريق برجلٍ حسن الهيئة، فاره البرذون فصمت بالغلمان. فأخذوا دابّته. ودعوت بالغداء فبسط يده غير محتشمٍ. وجعلت لا أكرمه بشيءٍ إلاّ قبله. وكنّا كذلك ساعةً، إذ جاء غلمانه. ثمّ تناسبنا فقال الرّجل: أتا طريح بن إسماعيل الثّقفي. فلمّا ارتحلنا كنّا كذلك في قافلةٍ لا تدرك طرقها. فقال لي طريح: ما حاجتنا إلى زحمة النّاس، وليست بنا إليهم وحشة ولا مخافة. فتأخّر بنا بعد القوم. فنزلنا إلى جانب نهرٍ مظللٍ بالشّجر فتغدّينا ثمّ قمنا إلى النّهر نستنقع فيه. فلمّا نزع ثيابه إذ آثار داهيةٍ في جنبيه يلج فيها الكف، فوقع في نفسي منه شيءٌ، فنظر إليّ وفطن وتبسّم، وقال لي: قد رأيت عجباً منك لما رأيت ما بي وأنا أحدّثك حديثه إذا سرنا العشيّة.
فلمّ ركبنا قلت له: الحديث? قال: نعم، قدمت من عند الوليد بن يزيد بالدّنيا وما فيها، وركبت إلى يوسف بن عمر، مع قرابتي منه، فملأ يدي. فخرجت من عنده إلى الطّائف. فلمّا اشتدّ بي الطّريق، وليس يصحبني فيه خلق، عنّ لي أعرابيٌّ على قعودٍ له، وهو حسن الحديث قد روى الشّعر، وأنشدني لنفسه. فقلت له: من أين أقبلت? قال: لا أدري والله. قلت: فإلى أين يمّمت? قال: لا أدري والله. قال، فقلت: ما قصّتك? فقال: أنا عاشقٌ بجارية من قومي، قد أفسدت عيشتي وتلفت، فأنا أستريح بأن أنحدر في الطّريق مع منحدريه، وأصعّد مع مصعّديه. قال، فقلت له: وأين هي? قال: غداً تنزل بإزائها. وأخذ يحدّثني بحديثه معها.
فلمّ جئنا إلى الموضع قال لي: انزل ذلك المكان فإنّها عنده منقطعةً. فأدركتني أريحيّة الحداثة، وأخذت منه علامة ما بينهما، وقصدت حيث أشار إلي. فإذا ببيتٍ جديدٍ على الطّريق، وإذا امرأةٌ جميلةٌ حديثةٌ ظريفةٌ. فذكرته لها ووريت رسالته وأمارته. فزفرت زفرةً كادت تتفتت أضلاعها، وقالت: أو حيٌّ هو? قلت: نعم تركته في رحلي وراء هذا الجبل ونحن بايتون ومصطحبون قالت: فإنّي أرى لك وجهاً يدلّ على الخير، فهل لك في الأجر? فقلت:فقيرٌ إليه. قالت: فالبس ثيابي وادخل في أريكتي ودعني حتّى آتيه. فإنّك تحيي نفسين، وتغنم أجراً عظيماً. قلت: أفعل ما تريدين. قالت: إنّك إذا أصبحت أتاك زوجي في هجعته فقال يا فاجرة، فأوسعك شتماً، فأوسعته صمتاً ولا تجعل إنّك سمعته فإنّ يقول في آخر كلامه: اقمعي سقاك يا عدوّة. فضع المقمع في ذلك السّقاء الأخر فإنّه منخرق. قال: ومضت. فجاء زوجها ففعل ما قالت. وقال إقمعي سقاك فحببني الله أن تركت الصّحيح وقمعت الواهي، فما شعر إلاّ واللبن يتسيّب بين رجليه. فعدا إلى زاوية البيت فتناول حبلاً ثمّ ثناه على اثنين فصار على ثمانٍ، فجعل لا يتّقي بع رأساً ولا وجهاً ولا جنباً فخشيت أن يبدو له وجهي فألزمته الأرض، فعمل بجنبي وظهري ما ترى، ومضى عنّي.
فلمّ كان الصّباح جاءت فرأت ما حلّ بي من الشّرّ فأكبّت عليّ وقالت: بأبي أحييت نفسي بقتل نفسك. ودخلت تعتذر وتتلهّف لما بي، وتدعو لي وتتضرّع. فأخذت ثيابي وانصرفت ولا يعدل ظفرهما عندي شيء.
طلّق لبنى وزوّجها لقيس
قد قدمنا في أخبار قيس بن ذريح كيف كان سبب تطليقه لبنى وندمه عليها ثمّ ساءت حاله، ولف عقله، واشتدّ مرضه، وأشرف على حتفه. فقال أهله: لو زوّجتموها إيّاه ليئس منها، وسلا عنها. فخطبها رجلٌ من قريش وحكم أباها في المهر. فزوّجه إيّاها، فحملها معه إلى المدينة. فقال قيس:
وقالوا تراها فتنةً كنت قبلـهـا

بخيرٍ، فلا تندم عليها وطـلّـق
فليت، وبيت الله، أنّي عصيتهـم

فأنبت في رضوانها كلّ مونـق
وكلّفت خوض النّار سبعين حجّةً

وكنت على أثباج بحرٍ مغـرّق
كأنّي أرى النّاس المقيمين بعدها

نقاعة ماء الحنظل المتغـلّـف
وتكره عيني بعدها كلّ منظـرٍ

ويكره سمعي بعدها كلّ منطق.

قال: وخرج أبي عتيق يريد العمرة. فنزل بحيّ قيس بن ذريح فسألهم عنه، فقال: دلّوني عليه. فدلّوه فلمّا رآه قيس أقبل عليه ورحّب به وقال: من أنت، حيّاك الله وعافاك? قال، فانتسب له ابن عتيقٍ وقال له: بيّن حديثك لي تجدني معيناً لك على أمرك إن شاء الله. فاستحى قيس من ذلك وامتنع ساعةً، ثمّ جعل يحدّثه حتّى بلغ إلى خبر القرشي. فقال:يا هذا، إنّي خرجت من منزلي أريد العمرة التماساً للثّواب. وقد عزمت، عندما سمعت، أن أترك ما خرجت إليه فارجع معك احتساباً للأجر، فبكّر فامض معي أيّها الرّجل، وأكتم شأنك، ولا يعلم أحدٌ من أهلك. فحمله معه وأقبل راجعاً نحو المدينة فاستقبله أهله وإخوانه يسألونه عن سبب رجوعه. فجعل يعتذر وهو يقول لهم: عاقني عن ذلك عائقٌ. وأخفى قيساً في منزله أيّاماً ثمّ سأل عن منزل القرشي فدلّ عليه. فبعث مولاة له عجوزاً إلى لبنى تخبرها بقيس وبما صار له من عشقها. فقالت: يعزّ عليّ، وما حيلتي له. أطاع أباه وفارقني في غير جرمٍ. وقد صرت الآن عند غير هولا سبيل لي على نفسي. وإنّ كبدي عليه لحرّا، وإنّ عيني لغبرا مذ فارقته وإنّها لمّا علمت بمكانه إشتدّ ولهها حتّى أنكر زوجها شأنها فسألها عن خبرها وهل رأت شيئاً تنكره. فجعلت لا تجيب جواباً. وجعل يعتذر إليها، فقال لها: ما أراك إلاّ ذكرت قيساً. فقالت له: هيهات وأين أنا من قيس، وأين قيس منّي? أله عن هذا الحديث.
قال: وبلغت العجوز ابن أبي عتيق ما سمعت من لبنى فقال لها: عودي إليها فقولي لها: إن كنت على العهد فإنّك ستصلين إلى ما تريدين. قالت: أي والله لا أزال على عهده مقيمةً أو يفارق روحي جسدي؛ ولا أكافئه بسوء فعل كان منه إليّ.
قال: وأقبل ابن أبي عتيق ومعه جماعة من أشراف قريشٍ وغيرهم حتّى أتوا منزل القرشي زوج لبنى فأكبر مجيئهم. فقالوا: إنّا جئناك في حاجةٍ ولا سبيل إلى ردّنا عنها. قال لهم: قضيت حاجتكم.قال ابن عتيق: كائنة ما كانت? قال له: نعم. قال فإنّ حاجتنا أن تجعل أمر لبنى في يدي. قال القرشي: وهل رأيت أحداً سأل مثل هذا? قال: فهي حاجتنا، وقد جئت إليها. قال:فإنّي قد فعلت. قال: فيشهدون عليك أنّ أمرها في يدي. قال: نعم. قال ابن عتيق: فأشهدوا إنّها طالقٌ ثلاثاً. قال: قد أجزت: قال: فما برحوا حتّى نقلها ابن أبي عتيق إلى منزله. فلمّا انقضت عدّتها زوّجها من قيس وأصدق عنه وجهّزها بأحسن جهاز، وحملها معه إلى منزله. فما لبثت عنده إلاّ يسيراً حتّى نهشته الأفعى كما قدّمنا في حديثه فمات وماتت بعد.
هكذا رواه أحمد بن أبي طاهر. ولست أدري صحّة هذا الحديث، لأنّا كنّا قدّمنا في حديثه ما يخالف هذا من أنّه لم يتزوّج بها ثانياً.
مكر به في امرأته
حكى الهيثم بن عدي، عن الكلبي قال: كان ملك النّعمان بن المنذر أربعين سنةً لم ير منه في ملكه سقطةً غير هذه: وذلك أنّه ركب يوماً فنظر إلى امرأةٍ خارجةٍ من الكنيسة فأعجبه جمالها وحسنها وهيئتها فقال: علي بعدي بن زيد، وكان كاتبه وخاصّته فقال له: يا عدي، قد رأيت امرأةً لئن لم أظفر بها إنّه هو الموت. فلا بدّ في أن تتلطّف في الجميع بيني وبينها. قال: ومن هي? قال: قد سألت عنها فقيل لي امرأة حكم بن عوف، رجلٌ من أشراف أهل الحيرة. قال: فهل أعلمت بذلك أحداً? قال: لا فاكتمه، فإذا أصبحت فجد بكلّ كرامةٍ لنزيلك، يريد حكم بن عوف.
فلمّا أذن للنّاس بدأ به وأكرمه وأجلسه معه على سريره. فأعجب النّاس حاله، وتحدّثوا به. فلمّا أمسى فأذن للنّاس بدأ به فأكرمه وأجلسه معه وكساه وجمّله. ففعل به ذلك أيّاماً. ثمّ قال له عدي: أيّها الملك عندك عشر نسوةٍ فطلّق أقلّهنّ عنك منزلةً ثمّ قل له فليتزوّجها. ففعل. فلمّا دخل عليه قال له: يا حكم إنّي قد طلّقت فلانةً لك فتزوّجها. فقال حكم لعدي: ما صنع الملك بأحد ما صنع بي ولا أدري بما أكافئه? فقال له عدي طلّق امرأتك كما طلّق امرأته. ففعل. وحظي عدي بها عند الملك: وعلم الرّجل أنّه مكر به في امرأته. وفيها يقول بعض أهل الحيرة:
ما في البرّيّة من أنثى تعادلها

إلاّ التي أخذ النّعمان من حكم
ريّا وعمرو وبساط النّوم

وحدّث الزّبير: إنّه كان فتىً من بني عذرة يقال له عمرو بن عود، وكان عاشقاً لجاريةٍ من قومه تسمّى ريّا بنت الرّكين. فتزوّجها رجلٌ منهم يقال له دهيم. فأبت ريّا إلاّ حبّ عمرو بن عود، وأبى إلاّ حبّها وقول الشّعر فيها، والوجد بها حتّى أتى اليمن فنزل في بني الحارث بن كعب فطلبها عمرو، فخفي عليه أمرها ولم يعلم لها خبراً ولا موضعاً. فمكث حيناً لما به، يبكي له من عرفه، لولهه وشدّة ما أصابه. فخرج به أهله إلى مكّة لعلّه يتعلّق بأستار الكعبة عسى أن يرحمه ربّه ويذهب ما في قلبه من حبّها.
فلمّا كان بمنىً نظر إليه فتىً من بني الحرث بن كعب فتعجّب ممّا به، وجلس يتحدّث معه، وسأله عن حاله فشكا إليه عمرو وجده بها، وأنشد ما قال فيها، فرقّ له الفتى ورحمه. وسأله عن صفتها وصفة زوجها. فوصفها له. فقال له الفتى: عندي خبر هذه المرأة وهذا الرّجل منذ سنسن قليلة فخرّ عمرو ساجداً ثمّ سأله عن حالها، فأخبره أنّها سالمةٌ وأنّها باكيةٌ لا يهينها شيءٌ من العيش. قال عمرو: فهل لك في صنيعةٍ عندي? فقال له الفتى: إذن افعل ما بدا لك. قال: تتخلّف عن أصحابك، وأتخلّف عن أصحابي حتّى لا يكون عند أحدٍ منهم علم. ثمّ أمضي معك متنكّراً حتّى تخفيني في موضعٍ؛ ثمّ تعلمها بمكاني. فقال الفتى: لك ذلك في عنقي.
فلمّا كان السّفر، تخلّف كلّ واحدٍ منهما عن أصحابه. فجهد أصحاب عمرو أن لا يتخلّف وأن يمضوا به فأبى عليهم فودّعوه ومضوا. ثمّ مضيا حتّى وصل به الفتى فأدخله مع أخته وامرأته في سترهما. ومضى إلى ريّا فأخبرها. فكانت تجيء إليه كلّ يومٍ فيشكوان ما كانا فيه من البلاء، ويتحدّثان. فاستراب زوجها غشيانها ذلك البيت. ولم تكن تغشاه ولا تعرف أهله، واستراب أيضاً تطبيب نفسها وأنّها ليست كما كانت.
وخرجت رفقةً له إلى حرّان فأخبرها أنّه خارجٌ معها. فخرج وأقام ليلتين مختفياً في موضع. وأقبل راجعاً في الليلة الثّالثة، وقد أمنّاه وظنّاً أنّه قد خرج، فأتى عمرو إلى ريّا فبسطت له بساطاً قدام البيت وتحدّثا حتّى غلبهما النّوم، وهي مضطجعةٌ إلى جانب البساط وعمرو إلى الجانب الآخر. وأقبل الرّجل حتّى وجدهما على تلك الحال. فنظر في وجه عمرو، فانتبه فزعاً. فقال له: ويلك يا عمرو، وما ينجيني منك برٌ ولا بحرٌ! فقال: يا ابن عمّي، ما أنا والله على ريبةٍ، ولا يسألني الله عن أهلك عن قبيحٍ؛ ولكن نشأت أنا وهي وألفتها ونحن صبيان، ولست أستطيع عنها صبراً، وما بيننا أكثر من هذا الحديث الذي ترى. قال: أمّا أنا فلم أهرب إلى هذا البلد إلاّّ منك.
فانصرفنا راجعين وهي معهما حتّى قدما على وطنهما، فأقاما بعده بيسير.




مواعيد بثينة وجميل
حكى سنة بن عقال، عن الشّعبي قال: حدّثني رجلٌ من بني أسدٍ، قال: إنّي لذات يومٍ في الحيّ إذ أقبل فتىً نظيف الثّوب، حسن الوجه، حتّى وقف بي، فقال: يا فتىً، هل نزا بك حيٌّ من بني عذرة? قال، قلت: نعم، وتيك بيوتهم. قال: وهل أحسست لي بكرةً صفتها كذا وكذا? قال، قلت: لا. فنزل ثمّ قال: أأنت منشدها لي في أبات الحي? قال فخرجت وأنا أنشدها حتّى مررت بالبيوت وأنا أنشد. فقالت لي جاريةٌ: عند الأكمة. فأشرفت على الأكمة فلم أر شيئاً فأخبرته، فأخرج سفرةً معه ودعاني فأكلنا، ثمّ نام. وجعلت أراعيه حتّى ظنّ أنّي قد نمت. فأخرج من رحله فلبسها، ثمّ اشتمل على سيفه وخرج حتّى أتى الأكمة وأنا أتبعه من حيث لا يراني. فإذا بها قاعدةٌ كأنّها مهرةٌ عربيّةٌ. فسلّم عليها وسلّمت عليه ثمّ قال لها: يا بثينة قلت فيك كذا. ولقيت فيك كذا.
ولك يزل يحدّثها وينشدها، وتحدّثه حتّى إذا كان في السّحر وضع رأسه في حجرها فنام ساعةً. فلم يشعر إلاّّ بالفجر قد برق. فقالت: قم يا جميل، لا يفضحنا الصّبح.
قال: فرجعت مبادراً حتّى رميت بنفسي في الرّحل. وجاء فأيقظني، ثمّ عمل إلى ثوبٍ من ثيابه فكسانيه، فلم يزل جميل يغشاني في كلّ نهارٍ وليلٍ، فأطير إلى الحيّ وآتيه فآخذ ميعاد بثينة إلى موضعٍ يجتمعان فيه ويتحدّثان إلى أن فطن بعض الحيّ بأمري. فقالت لي بثينة. أنج بنفسك، فإنّ الحيّ قد شعروا بك، وقل لجميل موعدك وسكن البطن. وأتيته فأخبرته، فمضى وانقطع عنّي خبره
دخل وأجبر على تركها

وروي عن يحيى بن خالد بن برمك قال: كنت أهوى جاريتي دنانير، وهي لمولاتها زهراء، فلمّا وضع المهدي الرّشيد في حجري اشتريتها؛ فلم أسرّ بشيءٍ من الدّنيا مثل سروري بها وبملكها، فما لبثت إلاّّ يسيراً حتّى وجّه المهدي ابنه الرّشيد غازياً إلى بلد الرّوم، فخرجت معه، فعظم على فراقها، فأقبلت لا أتهنّأ بطعانٍ ولا شرابٍ صبابةً بها وذكراً لها. فأنا ليلةً في مضربي، وقد أصابني بردٌ شديدٌ وثلجٌ كثيرٌ، وأنا أتقلّب على فراشي أذكر الجّارية، إذ سمعت غناءً خفيّاً وصوت عودٍ بالقرب منّي. فأنكرت ذلك وجلست على فراشي فأشجاني الصّوت من غير أن أفهم حتّى أبكاني. فقمت، ولم أوقظ أحداً من العسكر، حتّى انتهيت إلى خيمةٍ صغيرةٍ من خيام الجند، فإذا فيها سراجٌ، فدنوت منها، فإذا فتىً جالسٌ، وإذا بين يديه ركوةٌ فيها شرابٌ وفي حجره عودٌ يضرب عليه ويتغنّى بهذا الصّوت:
ألا يا لقومي أطلقوا غلّ مرتـهـن

ومنّوا على مستشعر الهمّ والحزن.
ألم ترها بيضاء، روداً شبـابـهـا

لطيفةٌ طيّ البطن كالشّادن الأغن
قال: فكلّما غنّى بيتاً بكى وتناول قدحاً فصبّ فبه من ذلك الشّراب، وشرب، ثمّ يعود إلى مثل ذلك.
قال: فأقمت طويلاً أرى ما يفعل وأبكي لبكائه، ثمّ سلّمت فردّ السّلام، واستأذنت فأذن لي فدخلت، فلمّا رآني أجلّني وأوسع لي. فقلت: يا فتى خبّرني بخبرك، وما أنت فيه، وما سبب هذا البكاء? قال: أنا فتىً من الأبناء، لي ابنة عمٍّ قد نشأنا جميعاً فعلقتها وعلقتني، ثمّ بلغنا فحجبت عنّي، فسألت عمّي ليزوّجنيها فأجاب، فمكثت حيناً أحتال لمهرها حتّى تهيّأ فأدّيته، فدخلت بها، فلمّا أن كان يوم سابعها ضرب عليّ البعث وخرجت وبي من الشّوق إليها ما لا أجده، فحملت معي هذا العود، فإذا أصبت شراباً في بعض هذا القرى أخذت منه شيئاً، ثمّ أفعل ما ترى تذكاراً إليها.
فقلت: فهل تعرفني? فأنكرني، فما أدري أتعمّداً أم حقيقةً.
قال، فقلت له: أنا يحيى بن خالد، فلمّا قلت له ذلك نهض قائماً. فقلت: اجلس، فإذا كان غداً فألقني، فهذا مضربي بالقرب منك، فإنّي أصير منك إلى ما تحب.
قال: ووافق ذلك رسولاً قد هيّأناه إلى المدينة، فما كان أسرع شيءٍ حتّى دنا الصّبح وتهيّأ النّاس للرّحيل، فأوّل من لقيني ذلك الفتى، فأثبت وجهه وقلت له: من أنت، وفي قيادة من أنت? فخبّرني، فمضيت حتّى دخلت على الرّشيد ومعي المؤتمرات، فكنت آمرها على سمعة من عنوانٍ يكون له فيها، فقلت وفتىً من الأنباء فلان بن فلان يطلق سراحه ويعطى عشرة آلاف درهمٍ معونةً له ويصحب فلاناً الرّسول. ففعل ذلك وانصرف إلى أهله.
الزّنا بالجملة
وحكى إبراهيم بن إسحاق الموصلي، عن أبي السّائب المخزومي قال: تعشّق العرجي امرأةً من قريش فجعلني رسولاً إليها، فأتيتها برسالةٍ وأخذت موعدها لزيارته إلى موضعٍ سمّاه، ثمّ بكرت أنا فأتت على أتانٍ ومعها جاريتها، وجاء على حمارٍ ومعه غلامٌ. فتحدّثنا ساعةً ثمّ قمت عنهما، فوثب عليها، ووثب الغلام على الجّارية، والحمار على الأتان، وقعدت أسمع النّخير من كلّ ناحية.
قال، فقال لي العرجي: يا أبا السّائب، هذا يومٌ غابت عواذله، قال أبو السّائب: فما لي حسبةً أرجو ثوابها رجائي لذلك اليوم وثوابه.
حلف ألاّ يجتمع بها ثانيةً
وقال: كان عمر بن أبي ربيعة يتعشّق امرأةً يقال لها أسماء، فوعدته أن يزورها، فتهيّأ لذلك يوماً فأبطأت عليه، فنام، فلم يلبث أن جاءت ومعها جاريةٌ، فضربت الباب فلم يستيقظ، فانصرفت وحلفت أن لا تأتيه حولاً. فقال عمر قصيدته التي أوّلها:
طال ليلي وتعنّاني الـطّـرب

واعتراني طول همٍّ ونصـب
أشهد الرّحمان لا يجمـعـنـا

سقف بيتٍ رجباً على رجـب
فبـعـثـنـا طـبّةً عـالـمةً

تخلط الجدّ مراراً بالـلـعـب
ترفع الصّوت إذا لانت لـهـا

وتراخي عند سورات الغضب
فأجابت يا فتى وابـتـسـمـت

عن منيف اللون صافٍ كالثّغب
فلمّا سمع ابن أبي عتيقٍ هذه الأبيات قال له النّاس في طلب إمامٍ مثل قيادتك هذه مذ قتل علي، فما يقدرون عليه.
قال حمّاد الرّاوية: استنشدني الوليد بن يزيد شعراً كثيراً فما استعادني إلاّّ هذه الأبيات. وقال لي: يا حمّاد اطلب لي مثل هذه وأرسلها إلى سلمى.
كفى أخاه العذري ما أصابه
ويروى عن حمّاد قال: أتيت مكّة فجلست إلى جماعةٍ في حلقةٍ فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وإذا هم يتذكّرون العذريين وعشقهم وصيانتهم، قال عمر: أحدّثكم عن بعض، وذلك: أنّه كان لي خليلٌ من بني عذرة، وكان مشتهراً بحديث النّساء فيتشبب بهنّ وينشد فيهنّ، على أنّه لا عاهر الخلوة ولا سريع السّلوة وكان يوافي الموسم في كلّ سنةٍ، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار وألّفت له الأشعار حتّى يقدم فيتحدّث حديث محزونٍ كئيبٍ. وإنّه راث ذات سنةٍ، حتّى قدم وفد عذرة، فأتيت القوم وأنا أنشد عن صاحبي وإذا غلامٌ قد تنفّس الصّعداء ثمّ قال: عن أبو المسهر تسل? قلت نعم عنه سألت قال هيهات هيهات أصبح والله أبو المسهر لا ميؤوساً فيهمل ولا مرجوّاً فيعلل؛لا أصبح والله كما قال الشّاعر:
لعمرك ما حبّي لأسماء تاركي

صحيحاً ولا أقضي به فأموت
قلت له: وما الذي به? قال لي: هو ميتٌ مولّهٌ! قلت: ومن أنت يا ابن أخي? قال: أنا أخوه. قلت وما يمنعك أن تركبلا طريق اخيك الذي ركبه، وتسلك مسلكه. ألا إنّك وأخاك كالوشي والنّجّار لا ترفعه ولا يرفعك. ثمّ انصرف وأنا أقول:
أرائحةٍ حـجـاج عـــذرة روحةً

ولمّا يرح في القوم جعد بن مهجـع
خليلان نشكو ما نلاقي من الـهـوى

متى ما يقل أسمع، وإن قال يسمـع
فلا يبعدنك الـلـه خـلاً، فـإنّـنـي

سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي
فلمّا كان في العام الآتي وقفت في الموضع الذي كنّا نقف فيه بعرفات، فإذا شابٌ قد أقبل وقد تغيّر لونه، وساءت هيئته فما عرفته إلاّّ بناقته، فأقبل حتّى اعتنقني وجعل يبكي. قلت: ما هذا وما دهاك وما غالك? قال برّح الغرام وطول السّقام. وأخذ يشكو إليّ فقلت: يا أبا مسهر، إنّها ساعةٌ عظيمةٌ، فلو دعوت الله كنت تظفر بحاجتك. فجهل يدعو حتّى إذا بدت الشّمس للغروب وهمّ النّاس أن يفيضوا، سمعته يهمهم بشيءٍ، فأصغيت إليه مستمعاً فجعل يقول:
يا ربّ عذوة وروحة
من محرمٍ بعد الضّحى واللواحة
أنت حسيب الخطب يوم الدّوحة.
قلت: يا أخي، وما الدّوحة? قال سأخبرك إن شاء الله. فلمّا قضينا حجّنا وأحللنا قلت له: حدّثني بخبرك! قال: نعم، أعلمك أنّي امرؤٌ ذو مالٍ كثيرٍ من نعمٍ وشاءٍ، وإنّي خشيت على مالي التّلف فأتيت أخوالي فأوسعوا لي عن صدر المجلس فكنت في عزّ أخوالي، فخرجت يوماً إلى مالي وهو ببعض مياههم، وركبت فرسي، وعلّقت معي شراباً أهدي إلي. فانطلقت حتّى إذا كنت بين الحيّ ومرعى النعّم رفعت لي دوحةٌ عظيمةٌ فقلت: لو نزلت تحت الشّجرة وتروّحت مبرّداً! فنزلت وشددت فرسي بغصنٍ من أغصانها، ثمّ جلست وقدّمت شرابي، فإذا بغبارٍ قد سطع من ناحية الحيّ فبدت لي ثلاثة شخوصٍ، وإذا فارسٌ يطرد عنزاً وأتاناً، فلمّا قرب منّي إذا عليه درعٌ أصفرٌ وعمامة خز سوداء، وإذا فروع شعره تنال كعبه. فقلت في نفسي: غلامٌ حديث السّنّ راكبٌ على فرسٍ أعجلته لذّة الصّيد، فأخذ ثوب امرأته ونسي ثوبه. فما لبث أن لحق بالعنز فطعنه ثمّ عطف على الأتان فقتلها، ثمّ قال:
نطعنهم سلكاً ومخلوجةً

كركّ الأمين على نائل.
فقلت له: إنّك قد تعبت وأتعبت فرسك، فلو نزلت. فثنى رحله، وشدّ فرسه بغصنٍ من أغصان الشّجرة، ثمّ أقبل حتّى جلس قريباً منّي فجعل يحدّثني حديثاً كأنّه الدّرّ، ذكرت به قول الشّاعر:
وإنّ حديثاً منك لو تـبـذلـينـه

جنى النّحل في ألبان عودٍ مطافل
قال، فبينما هو كذلك إذ نقر بالسّوط على ثنيته، فرأيت والله خلل السّوط بينهما فما ملكت نفسي إن قبضت على السّوط وقلت: أخاف أن تكسرهما فإنّهما رقيقان. وقال: وهما مع ذلك عذبتان. قال، ثمّ رفع عقيرته وجعل يغنّي:
إذا قبّل الإنسان ممّـن يحـبّـه

ثناياه لم يأثم وكان لـه أجـرا
فإن زاد زاد الله في حسنـاتـه

مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا

ثمّ قال لي: ما هذا الذي علّقت على سراجك? قلت: شرابٌ أهداه إليّ بعض أهلي، فهل لك فيه? قال: وما أكره منه? فأتيت به فوضعته بين يديه. فلمّا شرب منه نظرت إلى عينيه كأنّهما عينا مهاةٍ قد أضلّت ولداً فأذعرهما قانص. فعلم نظري فرفع عقيرته وجعل يغنّي:
إنّ العيون التي في طرفها حـورٌ

قتلننا ثمّ لـم يحـيين قـتـلانـا
يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به

وهنّ أضعف خلق الله إنسـانـا.
فقلت له: من أين لك هذا الشّعر? قال: وقع رجلٌ منّا باليمامة فأنشدنيه.
قال: ثمّ قمت لأصلح شيئاً من أمر فرسي، فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلامٌ كأنّما وجهه الشّمس حسناً، فقلت: سبحانك اللهمّ ما أعظم قدرتك، وأجلّ صنعك. قال: فكيف? قلت له: ممّا راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال: وما الذي يروّعك من رهن ترابٍ ورزق دوابٍ ثمّ لا تدري أينعم بعد ذلك أم لا? قلت: بل يصنع الله بك خيراً إن شاء الله.
ثمّ أقبل على فرسه؛ فلمّا أقبل برقت له بارقة من الدّرع، فإذا ثديٌ كأنّه حقّ، فقلت: نشدتك الله امرأةً? قالت: أي والله امرأةٌ تكره العهر وتحبّ الغزل. فقلت: وأنا والله كذلك. فجلست والله تحدّثني ما أفقد من أنسها شيئاً حتّى مالت على الدّوحة سكرى، فاستحسنت، والله يا ابن ربيعةٍ، الغدر، وزيّن في عيني، ثمّ إنّ الله عصمني. فما لبثت أن انتبهت مرعوبةً، فلاثت عمامتها برأسها وأخذت رمحها وجالت في متن فرسها، فقلت: زوّديني منك زاداً. فأعطتني ثوباً من ثيابها، فشممت منه كالرّوض الممطور. ثمّ إنّي قلت: أين الموعد? فقالت: إنّ لي أخوةً شوساً وأباً غيوراً؛ والله لأن أسرّك أحبّ إليّ من أن أضرّك.
قال، ثمّ مضت فكان والله آخر العهد بها إلى يومي هذا. فهي التي بلغت بي هذا المبلغ، وأحلّتني هذا المحل. قلت له: والله يا أبا المسهر، والله ما كان يحسن بك الغدر إلاّّ بك. فإذا به قد اخضلّت لحيته بدموعه باكياً. فقلت: والله ما قلت هذا إلاّّ مازحاً. ودخلتني له رقّة. فلمّا انقضى الموسم شددت على ناقتي وشدّ وحملت غلاماً لي على بعيرٍ وحملت عليه قبه أدمٍ حمراء كانت لأبي ربيعة، وأخذت معي ألف دينارٍ ومطرفاً ثمّ خرجنا حتّى أتينا كلباً فسألناه عن الشّيخ فإذا هو في نادي قومه، فسلّمت فقال: وعليك السّلام، من أنت? قلت عمر بن ابي ربيعة المخزومي. قال: المعرف غير المنكر؛ فما الذي جاء بك? قلت: خاطباً. قال: أنت الكفء الذي لا يرغب عن حسبه، والرّجل الذي لا يردّ عن حاجته. قلت له: إنّي لم آتك عن نفسي، وإن كنت موضع الرّغبة، ولكن أتيتكم في ابن أخيكم العذري. وقال: والله إنّه لكفء الحسب، غير إنّ بناتي لا يقعن إلاّّ في هذا الحيّ من قريش. فعرف الجزع في نفسي وتبيّن له في وجهي، وقال: أنا أصنع لك شيئاً لا أصنعه لغيرك. قلت: ما هو? قال: أخبرها لأنّك أنت تختار لغيرك.
فأومأ إليّ صاحبي أن أمره أن يخبرها. فقلت: افعل. ثمّ مضى الشّيخ. وقد أتى وقال لي إنّها قالت: إنّ الأمر أمرك والرّأي للقرشي يختار لي ما رأى. فحمدت الله عزّ وجلّ وصلّيت على نبيّه، صلّى الله عليه وسلّم وقلت: قد زوّجت الجّارية بجعد بن مهجع وأصدقتها ألف دينارٍ، وهي هذه، وجعلت كرامتها الغلام والبعير والقبّة وكسوت الشّيخ المطرف فقبله، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك. وضربت القبّة في وسط الحيّ وأهديت إليه ليلاً. وبتّ عند الشّيخ خير مبيتٍ.
فلمّا أصبحت غدوت فقمت بباب القبّة، فخرج إليّ، فقلت له: كيف كنت بعدي? وكيف هي? فقال: أبديت لي كثراً ممّ أخفت يوم رأيتها. فقلت: عليك أهلك، بارك الله فيهم. وانطلقت إلى أهلي وأنا أقول:
كفيت أخي العذريّ ما قد أصابه

ومثلي لأثقال النّوائب أحـمـل
أما استحسنت منّي المكارم إنّها

إذا عرضت إنّي أقول وأفعـل
نساؤهم شرّ النّساء والفرع يجري على الأصل

وحكى المدائني: أنّ رجلاً من بني عقيلٍ كان يسمّى صخراً، وكانت له ابنة عمٍّ تدعى ليلى، فكان بينهما حبٌّ مبرّحٌ ولم يكن أحدهما يصبر عن الآخر ساعةً واحدةً، وكان لهما مكانٌ يجتمعان فيه للحديث في كلّ ليلةٍ. ثمّ إنّ أبا صخرٍ زوّج صخراً لامرأةٍ من الأزد، وصخرٌ لذلك كارهٌ؛ فلمّا بلغ ليلى الخبر قطعته، فمرض مرضاً شديداً. فكان أهله يقولون سحرته ليلى، لما كانوا يرونه يصنع بنفسه. وكانت ليلى أشدّ وجداً به وحبّاً له. فأرسلت جاريتها إليه وقالت لها: اذهبي إلى مكاننا وانظري هل تري صخراً، فإذا رأيته قولي له:
تعساً لمن بغير ذنـبٍ يصـرم

قد كنت، يا صخر، زماناً تزعم
إنّك مشغـوفٌ بـنـا مـقـيمٌ

حتّى بدا منك لنا المجمـجـم
قال:فأتته الجّارية فأبلغته قولها،ووجدته كالشّن البالي وجداً وحزناً، فقال: قولي لها:
فهمت الذي عبّرت، واللـه شـاهـدٌ

لما كان عن رأيي ولا كان عن أمري
فإن كنت قد سمّيت صخراً فـإنّـنـي

لأضعف عن حمل القليل من الهجر
ولست، وربّ البيت، أبغي سـواكـم

حبيباً ولو عشنا إلى ملتقى الحشـر.
فقالت له الجّارية: يا صخر، إن كنت كارهاً لتزويج أبيك لك فاجعل أمر إمرأتك بيدي لتعلم ليلى أنّك لغيرها خالٍ ولعهدها راعٍ، وإنّك مكرهاً. قال: قد فعلت. قالت: فهي طالقٌ منك ثلاثاً. وأخبرت ليلى، فأظهرت من ذلك جزعاً وتراحعاً إلى ما كانا عليه من اللقاء، والجّارية تختلف بينهما. ولم يظهر صخر طلاق امرأته حتّى قال له أبوه: يا صخر ألا تبتني بأهلك? قال: وكيف وقد بانت منّي في يمينٍ حلفت بها. فأعلم أبوه أهل المرأة فقالت المرأة تهجو ليلى:
ألا بلّغا عـنّـي عـقـيلاً رسـالةً،

فما لعقيلٍ من حـياءٍ ولا فـضـل:
نساؤكـم شـرّ الـنّـسـاء، وأنـتـم

كذلك، إنّ الفرع يجري على الأصل.
أما فيكـم حـرّ يغـار بـأخـتـه?

وما خير حرٍّ لا يغار على الأهـل!
قال، وهجتها ليلى حتّى شاع خبرها، وسعت الجّارية إلى أهل صخر وأهل ليلى وما هما عليه، وإنّهما يخاف عليهما من لؤم الفعل. ولم تزل حتّى جمعت بينهما وتزوّجها.
المهدي وحديث العشّاق
وحكى الأصمعي قال: خرج المهديّ حاجّاً، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق، إذا أعرابيٌّ يقول: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، أنا عاشقٌ- وكان المهدي يحبّ العشّاق وحديثهم- موكلٌ به بعض الغلمان. فلمّا نزل أمر بإحضاره، قال: أنت المنادي? قال: نعم، يا أمير المؤمنين. قال له: ما اسمك? قال: أبو ميّاس. قال أمير المؤمنين: من عشيقتك? قال له: ابنة عمّي، وقد أبى عليّ أبوها أن يزوّجنيها. قال: لعلّه أكثر منك مالاً? قال: أنا أكثر منه مالاً! قال له: فما قصّتك? قال له: ادن رأسك منّي. فجعل المهدي يضحك، وأصغى إليه برأسه. قال له: إنّي هجينٌ. قال له: ليس يضرّك ذلك أخو أمير المؤمنين وأكثر أولاده هجناء! ثمّ قال له وأين عمّك? قال له: على ثلاثة أميالٍ.
قال: فأرسل أمير المؤمنين في طلبه فجيء به فقال له: ما لك لا تزوّج أبا ميّاس، فإنّي أرى عليه نعمةً? قال: متاع سوءٍ، وليس مثلي يزوّج مثله. قال: فإنّ الذي كرهت ليس ممّا يعاب به عندنا، وأنا معطٍ صداق ابنتك عشرة آلاف درهمٍ، ومعوّضك ممّا ذكرت عشرة آلاف درهمٍ! قال: فذلك لك! قال فخرج أبو ميّاس وهو يقول:
واتّبعت ظبيةً بالغلاء وإنّـمـا

يعطي الغلاء لمثلها أمثـالـي
وتركت أسواق القباح لأهلهـا

إنّ القباح وإن رخصن غوالي.
المنتصر بالله وجارية سعيد الصّغير
قال سعيد الصّغير: كان المنتصر بالله في أيّام إمارته وجّهني إلى مصر في بعض أمور السّلطان، فاعترضن عند بعض النّخّاسين جاريةً تامة المحاسن حاذقةً بالغناء. فأبى مولاها أن يأخذ منّي إلاّّ ألف دينارٍ. ولم تكن تحضرني، ولا وجدت أن أقرضها، وأزعجني الشّخوص، وقد علقها قلبي وأخذني المقيم المقعد من حبّها. فلمّا قدمت إلى المنتصر وعرّفته ما بعثني فيه? سألني عن حالي وخبري. فأخبرته بمكان الجّارية وكلفي بها، وقصّتي مع مولاها. فأعرض عنّي وصار ما بي يزداد.
ولم أملك صبراً. وجعل المنتصر، كلّما دخلت وخرجت من عنده، يذكرها ويهيج أشواقي إليها، ويعيّرني بقلّة الصّبر عنها. وكان قد أمر ابن الخطيب أن يكتب إلى مصر في شراها وحملها إليه من حيث لا أعلم ولا أدري.
فلمّا سارت إليه، وعرضت عليه أمرها، فغنّت وعذرني، فأمر قيّمة جواريه فأصلحت من شأنها. فلمّا ذهب عنها ألم السّفر استجلسني يوماً وهو على فراشه. فلمّا غنّى جواريه كانت آخرهن. فلمّا سمعتها عرفتها وكرهت أن أعلمه حتّى ظهر عليّ ما كتمت، وغلب عليّ الصّبر، فقال لي: ما لك يا سعيد? قلت: خيراً أيّها الأمير!.
قال، فاقترح عليها صوتاً كنت أعلمته أنّي سمعته منها فاستحسنه من غنائها، فغنّته، فقال: هل تعرف هذا الصّوت? قلت: أي والله أيّها الأمير، فما تكون المعرفة وقد كنت أطمع في صاحبته! فأمّا الآن فقد يئست منها وكنت كقاتل نفسه بيده، وجالب حتفه إلى حياته. قال: والله يا سعيد ما اشتريتها إلاّّ لك، وما يعلم الله إنّي رأيت لها وجهاً إلاّّ السّاعة التي أدخلت عليّ، وأنا تركتها حتّى استراحت من تعب السّير، وهي لك. . فأكببت على رجليه، ودعوت له بما أمكنني من الدّعاء؛ وشكره عنّي من حضر من الجلساء، وأمر بها فحملت إلى منزلي. فما أحدٌ أحظى عندي منها، ولا لي ولدٌ أحبّ من ولدها.
من أحاديث المؤلّفين
ذكاء السّفهاء والقوّادين
من أحاديث المؤلّفين: ما حكاه أبو الحسن المدائني، قال: كان بمكّة سفيهٌ يجمع بين النّساء والرّجال على أقبح الرّيب؛ وكان من قريش، ولم يذكر اسمه، قال: فشكا أهل مكّة ذلك إلى الوالي فنفاه إلى عرفات. فأخذ بها منزلاً، ودخل مكّة مستتراً. فلقي حرفاءه من الرّجال والنّساء فقال لهم: وماذا يمنعكم منّي? قالوا له: وأين بك وأنت بعرفات! قال لهم: حمارٌ بدرهمين وقد صرتم إلى الأمن والنّزهة والخلوة واللذة. قالوا: نشهد بأنّك صادقٌ. فكانوا يأتونه، فكثر ذلك حتّى أفسد على أهل مكّة أحداثهم وسفهاءهم، فعادوا بالشّكاية على أميرهم، فأرسل وراءه، فأتي به فقال: أي عدوّ الله، طردتك من حرم الله عزّ وجلّ فصرت إلى المشعر الأعظم تفسد وتجمع بين الخبائث!! فقال: أصلح الله الأمير يكذبون عليّ ويحسدونني. فقالوا للوالي: بيننا وبينه واحدة تجمع حمير المكّارين وترسلها نحو عرفات، فإن قصدت داره لمّا اعتادت من السّير لها، فالقول كما قلنا، وإلاّّ فالقول كما قال. . . فقال للوالي: إنّ في ذلك دليلاً. وأمر بحمير المكّارين فجمعت ثمّ أرسلت فقصدت نحو منزله، وجاءه بذلك أمناؤه. فأمر بتجريده. فلمّا نظر إلى السّياط بكى، فقال له: ما يبكيك يا عدوّ الله? قال: والله، أصلح الله الأمير، ما من الضّرب جزعت، ولكن يسخر منّا أهل العراق ويقولون إنّ أهل مكّة يجيزون شهادة الحمير. فضحك الوالي وأمر بتخليته.
كان يمزح
قال المدائني: كان مزيد يسبق الحجّاج في كلّ عامٍ إلى الحجّ، وكان يأتي إلى المدينة في ثلاثة أيّامٍ على راحلته. فتأخّر مرّةً عن وقته الذي كان يجيء فيه لعلّةٍ أصابته، وكان لامرأته صديقٌ صوّافٌ. فلمّا تأخّر ظنّ الصّوّاف أنّه قد مات فأقام عندها ولم يبرح، وجاء مزيد فدخل على الوالي فأخبره ودنا إلى منزله. فلمّا رأى أنّه قرب من الباب تطلّع من كوّةٍ وإذا الصّوّاف مع امرأته في البيت، فلم يستفتح، فمضى إلى المخنّثين فدعاهم، فأتوا معه، فوقفوا على بابه، وأمرهم فضربوا طبولهم وزمروا، فاجتمع النّاس من كلّ ناحيةٍ، فأقبلوا يقولون له: يا أبا إسحاق، أشيءٌ حدث? فيقول لهم: تزوّجت امرأتي. فقالوا له: ما بك: وما هذه القصّة? فلم يخبرهم بشيءٍ. فوقف الصّوّاف خلف الباب وقال: يا أبا إسحاق أدن أكلّمك. فدنا منه فقال: إتّق الله في الفضيحة، وأنا أفتدي منك. فقال له: أردد عليّ مهرها ونفقتي عليها فقد أفسدتها. قال: وكم ذلك? قال خمسون ديناراً. فكتب رقعةً إلى غلامه في السّوق فبعث بها من قبض المال وجاء به. فقال: أي بني تفرّقوا. إنّما كنت أمزح. فقنّع رأس الصّوّاف وأنزله، وقعد مع امرأته وسكت.
من أخبار المخنّثين

قال أبو عثمان الجاحظ: كان عندنا بالبصرة مخنّثٌ يجمع بين الرّجال والنّساء في منزله. وكان بعض المهالبة يتعشّق غلاماً. فلم يزل المخنّث يتلطّف له حتّى أوقعه. قال: فلقيته من غدٍ، وقد بلغني الخبر، فقلت له: كيف كانت وقعة الجعرانة، فقد بلغني خبرها? قال: لمّا تدانى الأقوام وقع الالتزام، ورقّ الكلام، والتفّت السّاق بالسّاق، ولطّخ باطنها بالبصاق، وجعلت الرّماح تمور، وقرع البيض بالذّكور، وشفيت حرارات الصّدور، ومال كلّ واحدٍ فأصيبت مقاتل كلّ هجرٍ، وانعقد الوصل واتّصل الحبل. فلو كان أعدّ هذا الكلام لمسألتي قبل ذلك بدهرٍ كان قد أجاد وملح.
حبابة وسليمان بن عبد الملك
وحكى محمّد بن سلام، عن يونس، قال: حجّ سليمان بن عبد الملك فاشترى حبابة بألف دينارٍ، وكان اسمها العالية، فلمّا رجل بها قال الحارث بن خالد المخزومي:
ظعن الأمير بأحسن الخلق

وغدا بليلٍ مطلع الشّـرق
وبدت لنا من تحت كلّتهـا

كالشّمس أو كغمامة البرق
قال: وبلغ خبرها يزيد بن عبد الملك فقال: لقد هممت أن أحجر على سليمان. فبلغ سليمان ذلك فاتقاه وردّها إلى مولاها، فاشتراها رجلٌ من أهل مصر من مولاها بأربعة آلاف دينارٍ ورحل بها إلى مصر، وكانت في نفس سليمان إلى أن ولّي الخلافة. فقالت له يوماً سعدى بنت عبد الله بن عمر بن عثمان زوجته: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك شيءٌ تتمنّاه? قال: نعم، حبابة. فأرسلت سعدى رجلاً إلى مصر فاشتراها بخمسة آلاف دينارٍ وسار بها إلى سعدى، فاستأذنت سليمان أن تتنزّه في بستانه بالغوطة، وأن يزورها إذا استزارته. فأذن لها، فصيّغت حبابة وهيّأتها وأعلمتها بمكانها من قلب سليمان، وضربت له قبّة وشيٍ وفرشتها. ثمّ أرسلت إلى سليمان تستزيره، فزارها.وقد أجلست حبابة وراء سريرٍ وقالت له: يا أمير المؤمنين إنّي قد أخذت لك جاريةً ذكرت أنّها قد أخذت عن حبابة، فهل لك أن تسمعها? فقال: إن شئت. قالت: غنّي يا جارية. فغنّت سليمان صوتاً كان سليمان قد سمعه منها بالمدينة.
قال، فلمّا سمعه قال: حبابة وربّ الكعبة. فقالت: هي حبابة، ولك اشتريتها، فشأنك بها. فقامت وانصرفت وخلّتهما، فكان سليمان لا يزال يشكر سعدى على ذلك.
حديث سميّة الزّانية
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنّى: أنّ عليّاً عليه السّلام ولّى زياداً فارساً حين أخرج منها سهل بن حنيف فضرب بعضهم ببعضٍ حتّى غلب عليها، وما يزال يتنقّل في كورها حتّى أصلح أمر فارس. ثمّ ولاّه على اصطخر، وكان معاوية يتهدّده، ثمّ أخذ بشر بن أرطاة ابنته وكتب إليه يقسم عليه ليقتلها إن لم يدخل في طاعة معاوية. وتوفّي عليٌّ عليه السّلام، فكتب معاوية يدعوه إلى طاعته وأن يقرّه على عمله ويستخلفه إذا كان أبو مريم السّلولي شهد عنده أنّه جمع بين أبي سفيان وسميّة في الجاهليّة على الزّنا. وكانت سميّة من الزّانيات بالطّائف تؤدّي الضّريبة إلى الحارث بن كلدة. وكانت تنزل بموضعٍ ينزل فيه البغايا بالطّائف. فقال له: كره ترك المشورة من العيّ. فشاور زياد المغيرة بن شعبة قال: إرم الغرض الأقصى ودع عنك الفضول، فإنّ هذا الأمر لا يمدّ أحدٌ إليه يداً إلاّّ الحسن بن علي. وقد بايع لمعاوية، فخذ لنفسك، وانقل أصلك إلى أصله، وصل حبلك بحبله، وأعر النّاس منك أذناً صمّاء، وعيناً عمياء. فقال له زياد: يا ابن شعبة، لقد قلت قولاً لا يكون غرسه في غير منبته، لا أصلٌ يغذّيه ولا ماءٌ يسقيه. وعزم على ذلك، وقبل رأي المغيرة، وقدم على معاوية. فأرسلت إليه جويريّة، عن أمر معاوية، فأتاها ودنت له وكشفت شعرها بين يديه وقالت: أنت أخي، أخبرني بذلك أبي.
ثمّ أخرجه معاوية إلى المسجد وجمع النّاس، فقام أبو مريم السّلولي فقال: أشهد أنّ أبا سفيان قدم علينا بالطّائف، وأنا خمّارٌ بالجاهليّة، فقال: إبغني بغياً فقلت له: لم أجد إلاّّ سميّة جارية الحارث بن كلدة! فقال: إئتني بها على ذفرها وقذرها. فقال زياد مهلاً، إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً. فقال أبو مريم: لو كنتم أبغضتموني كان أحبّ إليّ، فما شهدت إلاّّ بما عاينت ورأيت،فوالله لقد أخذ بكمٍّ درعها وأغلق الباب عليها، وقعدت، فلم ألبث أن خرج عليٌّ يمسح جبينه، فقلت: مه يا أبا سفيان? فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم، لولا استرخاءٍ من ثديها وذفر مرفقيها. فقال زياد: أيّها النّاس، هذا الشّاهد قد ذكر ما سمعتم، ولست أدري حقّ ذلك من باطله، ومعاوية والشّهود أعلم بما قالوا. فقام يونس بن الثّقفي فقال: يا معاوية، قضى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بالولد للفراش؛ وشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان. فقال معاوية: والله يا يونس لتنتهين أو لأطيرنّ بك طيرةً يطيب وقوعها، هل إلاّّ إلى الله أقع، قال: نعم، فاستغفر الله. فقال ابن مفزع، ويقال أنّها لعبد الرّحمن بن أمّ الحكم ونحلها ابن مفزع:
ألا أبلغ معاوية بن صـخـرٍ

مغلغلةً على الرّجل اليماني
أتغضب أن يقال: أبوك عفٌّ

وترضى أن يقال: أبوك زان
فاشهـد أن آلـك مـن زيادٍ

كآل الغيل من ولـد الأتـان
هل حفصة كذلك?!
وروى الهيثم بن عدي، أنّ الحسن بن علي تزوّج حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه، وكان المنذر بن الزّبير يهواها، فبلغ الحسن عنها شيئاً أنكره فطلّقها، فخطبها المنذر فأبت أن تتزوذجه، وخطبها عاصم بن عمر بن الخطّاب فتزوّجته، فرمى إليه المنذر بن الزّبير شيئاً فطلّقها، وخطبها المنذر فأبت أن تتزوّجه فدسّ لها امرأةً من قريش، فأتتها فتحدّثت معها ثمّ ذكرت لها المنذر، وأعلمتها أنّه قد شهّر بحبّها، فقالت: قد خطبني فآليت أن لا أتزوّجه. قالت: ولم ذلك? فوالله إنّه لفتى قريش وشريفها وابن شريفها. قالت: شهّرني وفضحني! قالت لها: والآن ينبغي أن تتزوّجيه ليعلم النّاس أنّ كلامه كان باطلاً. فوقع في نفسها كلامها، وجاءت المرأة إلى المنذر فقالت: أخطبها فقد أصلحت لك قلبها. فخطبها فنزوّجته، فعلم النّاس أنّه كان يكذب عليها.
وكان في نفس الحسن منها شيءٌ، وكان إنّما طلّقها لما أبلغه عنها الزّبير. فقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق? قال: نعم. فعدل الحسن إلى منزل حفصة فدخل عليها فتحدّثا طويلاً، ثمّ خرج، ثمّ قال لابن عتيقٍ يوماً آخر: هل لك في العقيق يا ابن أبي عتيقٍ? فقال له: ألا تقول هل لك في حفصة فتصير إليها على علمٍ، وأسعى لك منها فيما تحب?! فقال الحسن: أستغفر الله.
عاتكة المزواجة
ويروى أنّ عبد الله بن أبي بكرٍ الصّدّيق، رضي الله عنه، تزوّج عاتكة بنت زيد بن عمر بن نفيل فعشقها وأحبّها حبّاً شديداً حتّى منعته عن حضور الصّلوات في جماعة. فأمره أبو بكرٍ، رضي الله عنه. بطلاقها، ففارقها، فوجد عليها وجداً عظيماً، فأمره أن يراجعها، فراجعها وكانت عنده حتّى توفّي عنها. وكان قد أخذ عليها يميناً أن لا تتزوّج بعده، فجاءها عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فأفتاها أن تنكح، فقالت: لست أقبل في هذا كلامك وحدك. لأنّه قد بلغها أنّه يريد أن يتزوّجها فجاءت بعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فأفتاها بذلك، فخطبها عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فتزوّجته، فبعث إليها بعشرين ديناراً كفّرت بها عن يمينها، ثمّ توفّي عنها فخطبها طلحة بن عبيد الله، فلقي الزّبير بن العوّام هناد بن الأسود، وكان لهناد امرأة كانت صديقةً لعاتكة فقال له الزّبير: ما أنا عنك براضٍ حتّى تزوّجني عاتكة بنت زيد. قال، فحلف هناد لامرأته إن هي لم تزوّج الزّبير لعاتكة ليجلدنّها مائة جلدة.
فانطلقت امرأة هنادٍ لعاتكة، وكانت عندها حتّى أتاها رسول طلحة بن عبيد الله فقالت له: فديتك ومن يردّ طلحة لقدمه وشرفه وسخائه? ولكن ردّي رسوله اليوم فإنّه سيزيدك ضعفاً ما أراد أن يعطيك. فردّته، فقالت امرأة هنادٍ لهناد: إلق طلحة فقل له: أما تستحي أنّ عاتكة ردّتك وحلفت أن لا تتزوّجك? ففعل ذلك، فقال طلحة: لا أتزوّجها أبداً. فأمرت الزّبير أن يرسل إليها، فجاءها رسوله وهي عندها فقالت لها امرأة هناد: قد بلغك ما في حقّ الزّبير من الشّدّة؛ أمّا والله لو تزوّجته ثمّ غلبت عليه ليكوننّ لك بذلك الشّرف في نساء قريش.
ثمّ لم تزل بها حتّى تزوّجت الزّبير. وسنذكر بقيّة خبرها بعد هذا إن شاء الله.
ابن زهير المخنّث القوّاد
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان ابن زهير المدايني مخنّثاً، وكان يؤلّف بين الرّجال والنّساء، وكانت له قبّة خضراء وكان فتيان قريشٍ يقولون من يدخل قبّة ابن زهير لم يصنع في الفتوّة شيئاً.
قال: فواعد رجلٌ صديقةً له إلى قبّة ابن زهير فجاءت بعد العتمة، وجاء الرّجل، فتعشيّا، فقالت المرأة: أشتهي نبيذاً. فقال صاحبها لابن زهير: أطلب لنا نبيذاً. قال: من أين لنا في هذه السّاعة?! قال: لا بدّ منه. فلمّا ألحّ عليه عمد إلى حضضٍ فضربه بماءٍ وصيّره في قنّينةٍ ثمّ جاءه به فقال: والله ما وجدنا غير هذا فصبّ الرّجل منه في قدحٍ فذاقه فوجده مرّاً فكره أن يعيبه فيكرهه إليها فشرب ثمّ صبّ فسقاها. فلمّا صار في بطنه تحرّك. فقال لابن زهير: أين المخرج، فصعد إلى أن حرّكها بطنها فصعدت إلى أن تحرّك بطنه فصعد، فلم يزالا كذلك ليلتهما. فقال ابن زهير: امرأته طالقٌ إن كانا التقيا إلاّّ على الدّرجة حتّى أصبحا ممّا يختلفان، وجاء الصّبح ولم يقضيا حاجةً لأنّهما يطلبان النّبيذ في منزل ابن زهير القوّاد بعد العتمة.
جميل وبثينة، وكثيّر وعزّة
وكان جميل أيضاً لما اشتهر في بثينة توعّده أهلها، فكان يأتيها سرّاً فجمعوا له جميعاً يرصدونه، فقالت بثينة: يا جميل، احذر القوم. فاستخفى وقال في ذلك:
ولو أنّ ألفاً دون بثـينة كـلّـهـم

غيارى وكلّ حارب مزمعٌ قتلي?
لحاولتها، إمّا نهـاراً مـجـاهـراً

وإمّا سرى ليلٍ وإن قطّعوا رجلي.
فالتقى جميل وكثيّر فشكا كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه أنّه محصورٌ لا يقدر أن يزور. فقال جميل لكثير: أنا رسولك إلى عزّة. قال: فأتهم فأنشدهم ثلاث نوقٍ سودٍ مررن بالقاع، ثمّ احفظ ما يقال لك. قال فأتاهم جميل ينشدهم فقالت له جاريتها: لقد رأينا ثلاثاً سوداً مررن، عهدي بهنّ تحت الطّلحة فانصرف حتّى أتى كثير فأخبره. فأقاما، فلمّا نصف الليل أتيا الطّلحة فإذا عزّة وصاحبة لها. فتحدّثا طويلاً، وجعل كثير يرى عزّة تنظر إلى جميل. وكان جميل جميلاً وكان كثير دميماً فغضب كثير وغار، وقال لجميل: انطلق بنا قبل أن نصبح. فانطلقا: ثمّ قال كثير لجميل: متى عهدك ببثينة? قال في أوّل الصّيف، وقعت سحابة بأسفل وادي الدّوم فخرجت معها جارية ترخّص ثياباً. قال، فخرج كثير حتّى أناخ بآل بثينة فقالوا: يا كثير حدّثنا كيف قلت لزوج عزّة حين أمرها بسبّك قال كثير: خرجنا نرمي الجمار فوجدني قد اجتمع النّاس بي فطالعني زوجها، فسمع منّي إنشاداً، فقال لعزّة: اشتميه. فقالت: ما أراك إلاّّ تريد أن تفضحني? فألحّ وحلف عليها، فقالت مكرهةً: المنشد يعضّ بظر أمّه: فقلت:
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخـامـرٍ

لعزّة من أعراضنا ما استحلت.
فقالت بثينة: أحسنت يا كثير. وقلت أبياتاً لعزّة أعاتبها فيهنّ وأنشدتها:
فقلت لها يا عزّ أرسل صاحبي

على بعد دارٍ والموكّل مرسل
?بأن تجعلي بيني وبينك موعداً=وأن تأمريني بالذي فيه أفعل
وآخر عهدٍ منك يوم لـقـيتـكـم

بأسفل وادي الدّوم والثّوب يغسل.
فقالت بثينة: يا جارية، أبغنا خطباً من الرّوضات لنذبح لكثير غريضاً من البهم: فراح إلى جميل فأخبره.
ثمّ إنّ بثينة قالت لبنات خالتها، وكانت اطمأنّت إليهنّ وتطلعهنّ على حديثها: أخرجن بنا إلى الدّومات فإنّ جميلاً مع كثيرٍ، وقد وعدته. فخرج جميل وكثير حتّى أتيا الدّومات، وجاءت بثينة وصواحبها. فما برحن حتّى برق الصّبح. وكان كثير يقول: ما رأيت مجلساً قط أحسن من ذلك المجلس، ولا فهماً أحسن من فهم أحدهما من صاحبه، ما أدري أيّهما كان أفهم!??????????????????????????? . ? ???????
??شروط الزّواج عند الجاحظ
قال أبو عثمان الجاحظ: إذا ابتلى الرّجل بمحبّة امرأةٍ لنظرةٍ نظر إليها، ولمحةٍ منها، لم يكن يزوّج مثله مثلها وكانت ممتنعةً، فالحيلة في ذلك أن يرسل إليها امرأةً قد كملت فيها سبع خصالٍ منهنّ: أن تكون كتومة السّرّ؛ وأن تكون خدّاعةً لها معرفةٌ بالمكر؛ وأن تكون فطنةً متيقظةً؛ وأن تكون ذات حرصٍ؛ وأن تكون ذات حظٍّ من مالٍ ولا تحتاج إلى النّاس ولا ينكر النّاس اختلافها ودخولها عليها، بأن تكون إمّا بيّاعة طيبٍ، أو قابلةً، أو صانعةً لآلة العرائس، وتقدّم إليها أرقّ وألطف ما تقدر عليه، ولا تدع شيئاً من الشّكوى واللطف، وتخبرها أنّ نفسه في يدها، وأنّها متمثّلةٌ بين عينيه، وأنّه لا ينسى ذكرها، وأنّه يراها في المنام كلّ ليلةٍ تضربه وتخاصمه، وأنّه إن لم ير منها نظرةً أو خلوةً هلك، وإنّه لم يمنعه من خطبتها إلاّّ خشية الامتناع من أهلها إن كان دونهم في الحسب والجاه والمال وخوف التّمنّع منها هي أيضاً. فإنّها إذا سمعت هذا وأمثاله مرّةً أو مرّتين لم تدع أن تمكنه بمالٍ إن قدرت عليه وأذنت له في خطبتها من أوليائها، فإذا شاوروها في ذلك. رضيت، وقد تمكّن قوله من قلبها، توصّل منها إلى ما أراد بحلال التّزويج دون حيلةٍ من حيل الحرام.
?ليس لهنّ من يعشقهنّ
وقال هارون بن المنذر: رأيت عطيطا المفتي يضرب جواريه على أنّ ليس لهنّ من يعشقهنّ. فقلت له? ويحك، أما تتقي الله? أيّ ذنبٍ لهنّ في هذا? ما أهون عليك! قال: إذا أردت أن أشتري كسوتهنّ أين قلت تكوهن لأنك مولاهن فقال وما لهن الزواني ألا تجعل كسوتهم عليهم?!? فقلت: إنّكنّ سمعتنّ ما قال? قلن: نعم، والله، ونجعل له أولاداً? قال: فتنفّس وقال: يقولون ما لا يفعلون!
?????????????سمّاها ليلى
قال الزّبير بن بكار: خرج أبو السّائب المخزومي وعبد الله بن جندب إلى موضعٍ يتنزّهان فيه، فلقيا ابن المولى الشّاعر، فصلح به ابن جندب. فقال: ما شأنك? وأنشد:
وأبكي فلا ليلى بكت من صبابةٍ

لما بي ولا ليلى لذي الودّ تبذل
واخضع للعتبى إذا كنت مذنبـاً

وإنّي إذ نبت كنت الذي أتنصّل
وقد زعمت أنّي سلوت وأننـي

ثباتي عن إتيانها متـعـلّـل.
قال ابن جندب: من ليلى هذه? امرأته طالقٌ إن لم أفدها. قال: هي والله يا أخي فرسي سمّيتها ليلى.
?أمرته بتقوى الله
قال الزّبير بن بكار: قال عمر بي أبي ربيعة المخزومي:
أحنّ إذا رأيت حجال سعـدى

وأبكي إن سمعت لها حنينـا
وقد أزف المسير فقل لسعدى

فديتك أخبري ما تأمـرينـا.
قال، فسمعه ابن أبي عتيقٍ فخرج حتّى أتى الحيّان من أرض غطفان، ثمّ أتى خيمة سعدى، فاستأذن عليها وأنشدها البيتين ثمّ قال لها: ما تأمريه به? قالت: آمره بتقوى الله.
?النّساء فتن الرّجال
أبو غسّان المهدي قال: مرّ أبو بكر الصّدّيق، رضي الله عنه، في خلافته بطريقٍ من طرق المدينة، فإذا جارية تطحن وتنشد:
وعشقته من قبل قطع تمائمي

متمايساً مثل القضيب النّاعم
وكأنّ نور البدر سنّة وجهـه

ينمى ويصعد في ذؤابة هاشم
فدقّ عليها الباب فخرجت إليه، فقال: ويلك أحرّةً أم مملوكةً? قالت: مملوكةٌ يا خليفة رسول الله. قال: فمن هو? قال فبكت ثمّ قالت: يا خليفة رسول الله بحقّ الغير ألا انصرفت عنّي?! قال: وحقّه لا أريم مكاني أو تعلميني! . فقالت:
وأنا التي لعب الغرام بقلبهـا

فبكت بحبّ محمّد بن القاسم،
قال، فسار إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه: وبعث إلى محمّد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقال: هؤلاء فتن الرّجال، فكم مات بهنّ كريمٌ، وعطب عليهنّ سليم!!. رأى القطع خيراً من فضيحة عاشقٍ
وكان فتىً من أهل الكوفة عاشقاً لجاريةٍ، وكان أهلها قد أحسّوا به فتوعّدوه ورصدوه، فلم يقدر على الوصول إليها فواعدها في ليلةٍ مظلمةٍ أن تسير إليه. وأتى فتسوّر عليها حائطاً. فعلم به أهلها فأخذوه وأتوا به خالد بن عبد الله القسري وقالوا له: إنّه لصٌّ تسوّر علينا من الحائط. فسأله خالد عن ذلك فكره أن يجحد السّرقة فيفضح الجّارية، فقال: أسارقٌ أنت? قال:نعم، أصلح الله الأمير. فأمر بقطه يمينه. وكان للجارية ابن عمٍّ من أهل الفضل قد اطّلع على بعض شأنه فأخذ رقعةً وكتب فيها هذه الأبيات:
أخالدٌ قد، واللـه، أوطـئت عـشـوةً

وما العاشق المظلوم فينا بـسـارق
أقرّبمـا لـم يجـن عـمـداً لأنّـه

رأى القطع خيراً من فضيحة عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفّـه

لألفيت في أمر الهوى غير ناطـق
إذا مدّت الغابات في السّبق للعـلـى

فأنت ابن عبد الـلـه أوّل سـابـق
ثمّ حذف الرّقعة فوقعت في حجر خالد فقرأها ثمّ أمر بالفتى إلى السّجن، وصرف القوم. فلمّا خلا مجلسه دعا به فسأله عن قصّته فعرّفه، فبعث إلى أبي الجّارية فقال: قد عرفت قصّة هذا الفتى فما يمنعك من تزويجه? قال: خوف العار. قال: لا عار عليك في ذلك، والعار أن لا تزوّجه فتشف أمره! . فسأله أن يزوّجه ففعل، فدفع إليه عن الفتى خمسة آلاف درهمٍ، وأمره بتعجيل إهدائها إليه.
كانت تنزيه بين يديها.
سأل رجلٌ بعض العلماء عن الواصلة، فقال: إنّك لمنفّر. قال، قالت عائشة، رضي الله عنها: ليست الواصلة كما تعنون، لأنّهم كانوا يقولون: الواصلة هي أن تكون المرأة بغياً في شبيبتها فإذا شابت وصلته بالقيادة. وكانت كلمة التي يضرب بها المثل في القيادة صبيّةٌ في الكتّاب تسرق أقلام الصّبيان فلمّا شبّت قادت، فلمّا أقعدت اشترت تيساً وكانت تنزيه بين يديها.
القوّادة لا يشفع فيها إلاّّ زانٍ
ذكر المدائني أنّ بعض عمّال البصرة كان لا يزال يأخذ قوّادةً فيحبسها، فيأتي من يشفع فيها فيخرجها. فأمر صاحب شرطته وكتب رقعةً يقول فيها: فلانة القوّادة تجمع بين النسّاء والرّجال، لا يتكلّم فيها إلاّّ زانٍ. فكان إذا كلّمه فيها أحدٌ قال: أخرجوا قصّتها. حتّى إذا قرئت قام الرّجل مستحياً.
هل ينبت الحبّ إلاّّ أن يزرع
وحكى يقظان بن عبد الأعلى قال: رأيت القين يضرب جاريته سلمى المغنّية ويقول: ما جئتني بهديّةٍ، ما جئتني بخلعةٍ قط، هل هو إلاّّ هذا الكرى? فهبك لم تقدري على شيءٍ، فما تقدرين على ولدٍ?. فقالت: هذه المرّة أجيئك بابنٍ. فقال: يا زانية إن لم تصدقي لأضربنّك ألف سوطٍ. فرأيتها بعد ذلك ولها ابنٌ متحرّكٌ تخدمه. فقلت لها: وقد وفيت لمولاك? قالت: نعم، ولكن ما ناكني رجلٌ حتّى جاءني هذا الولد! فقال مولاها: صدقت، فهل ينبت الحبّ إلاّّ أن يزرع? فعجبت من كشخنة المولى وطيب نفس الجّارية.
باب ما جاء في ما لا يحاط به
وهذا باب، أعزّك الله، أكثر من لا يحاط به. ولكنّي اختصرت من ملح أحاديثهم ما فيه مستمتعٌ. وستقف في الأخر التي أفردناها من أخبار القيان على كثيرٍ منه. وقد قالت الشّعراء في الرّسل في الجاهليّة والإسلام. ومن ذلك قول حميد بن ثور الهلالي:
خليليّ إنّي مشتكٍ ما أصـابـنـي

لتستقينا ما قد لقيت وتعـلـمـا،
أمنتكما، إنّ الأمـانة مـن يخـن

بها يحتمل يوماً من الله مأثـمـا.
فلا تفشيا سرّي، ولا تخـذلا أخـاً

أبثّكما منه الحديث المكـتّـمـا،
لتتخذا لي، بارك اللـه فـيكـمـا،

إلى أهل ليلى العامريّة سلّـمـا.
فإن كان ليلاً، فألوناه هـديتـمـا،

وإن خفتما أن تعرفا فتلـثـمـا،
وقولا: خرجنا تاجرين فأبـطـأت

ركابٌ تركناهـا بـثـد قـيّمـا.
فإن أنتما أطمأننتما وأمـنـتـمـا

وأخليتما ما شئتما فتـكـلّـمـا،
وقولا لها: ما تأمرين بصـاحـبٍ

لنا قد تركت القلب منه متـيّمـا?
أبيني لنا إنّا رحلـنـا مـطـيّنـا

إليك، وما نرجوك إلاّّ توهّـمـا.
ألا هل صدا، أمّ الولـيد مـكـلّـمٌ

صداي، إذا ما كنت رمساً وأعظما
المأمون: يا ليتني كنت الرّسول
وقال المأمون لرسولٍ بعث له:
بعـثـتـك مـرتـاداً، فـــفـــزت بـــنـــظـــرةٍ

وأغـفـلـتـنـي، حـتّـى أسـأت بـك الــظّـــنّـــا،
ونـاجـيت مـن أهـدى وكـنـــت مـــقـــرّبـــاً.

فيا لـيت شـعـري، عـن دنـوّك مـــا أغـــنـــى?
وردّدت طـرفـاً فـي مـحـاســن وجـــهـــهـــا،

ومـتّـعـت بـاسـتـمـتـاع نـغـمـتـهـــا الأذنـــا.
أرى أثراً منها بعينيك لم يكن، لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا.


فيا ليتني كنت الرّسول فأشتفي،

وكـنـت الـذي يعـصـي وكـنــت الـــذي أدنـــى.
المتنبّي: أنا أهوى وقلبك المتبول
وقال أبو الطّيّب المتنبّي في مثل ذلك:
ما لنا كلّنا جوىً، يا رسول،

أنا أهوى، وقلبك المتبـول
كلّما عاد من بعثت إلـيهـا،

غار منّي، وخان فيما يقول.
أفسدت بيننا الأمانات عـينـا

ها وخانت قلوبهنّ العقـول
وإذا خامر الهوى قلب حبٍّ

فعليه لكلّ قـلـبٍ دلـيل.
بعض المحدّثين: شغلتني وشغلت عنّي
وقال بعض المحدّثين:
يا سوء منقلب الرّسول مخبراً بخلاف ظنّي
إنّي أعيذك أن تكون شغلتني وشغلت عنّي
أبو نواس: شمّر ثيابك
وأنشد لأبي نواس:
يا من أتى من دون حاجته

باباً، وأحراس به وكلوا:
شمّر ثيابك، قد شغلت بما

لو عمّ خلق الله لاشتغلوا،
وانظر رسولاً ذا ملاطفةٍ

لولا مرارة غمّه عسـل
ممّن عليه غباوةٌ، وتـرى

أفعاله كالنّار تشتـعـل
لا يحلفون به إذا خرجوا

الابتذال ولا إذا دخـلـوا
رأي الأهوازي في القوّادة
وأنشد أحمد بن عيسى الأهوازي في قوّادة:
تكاد لو لـم تـكـن أنـسـيّةً

تجري من الإنسان مجرى الدّم
لا يعصم المقدار من كـيدهـا

محلّه في الموضع الأعظـم
شروط مناجاة الغادة
وأنشد لآخر أيضاً:
إذا أردت أن تناجـي غـادةً

من الغواني صعبة المنقده
فادسس لها عجـيزاً قـوّادة

أدبّ في الظّلماء من جرادة
قد انحنت من شدّة العبـادة

تلوح في جبينها السّجّـادة
كالحسن البصري أو قتـادة

في يدها سبحتها الصّـيّادة
قد أحكمت من شدّة المرادة

قد ألفت غرائب الـقـيادة
فإنّها تدخل، كالـمـرتـادة،

بذكر كلّ غافـلٍ مـعـادة
وتصف الشّقاء والسّـعـادة

حتّى إذا نصبت لها الوسادة
ولاحظت عـقـلة وقّـادة

ثمّ خلت بالغادة الـمـرادة
تروّضها باللّجم الـمـقـادة

حتّى ترى طاعتها سعـادة
زهدها يغرّ العيون
وقال أحمد بن أبي طاهر:
فأرسلتها أمضى من السّيف مقدمـاً

وأسرع من سيلٍ بليلٍ إذا احتـفـل
تدبّ دبيب النّمل في كلّ مفـصـل

لطافتها في الرّأي والقول والحـيل.
يذلّ لها الصّعب الجـمـوح قـياده

وتهدي إلى طرق الضّلال فلا تضل
يرى الفطن الدّاهي عليهـا عـبـادة

إذا ما رآها وهي أختل من خـتـل
يؤلّف بين الأسد والشّاء لطـفـهـا

ويستنزل العصماء من شغف القلل
ولو أنّها شاءت، بأهون سـعـيهـا،

لألّفت الذّئب الأزل مع الـحـمـل
ولو جبـلٌ رامـت إزالة ركـنـه

برقيتها يوماً لزلّ بهـا الـجـبـل
يغرّ العيون زهدها وخشـوعـهـا

وتسبيحها عند الشّروق وفي الأصل
تسهّل ما قد كان وعـراً طـريقـه

وتفتح ما قد كان غلقاً وما قـفـل.
قامتها غصن بانٍ ممطور
وأنشد لابن بشير:
وزولةٍ في الذي رامت يتاح لـهـا

مت التّجارب أسباب المـقـادير
لا تحزر الخود منها أن تدبّ لهـا

مشيّدٌ محكم البـنـيان والـسّـور
كأنّ في قلب من يصغي لمنطقهـا

من حرّ ما نعتت لسب الزّنـابـير
أخفى من الرّوح في تأليف معصيةٍ

إذا تأمّلت من لطـفٍ وتـقـدير
قد ناطت الدّهر مصباحاً بمعصمها

تشيمها بذوات الـبـرّ والـخـير
خلت بواضحة الخدّين مخـطـفةٍ

كغصن بانٍ رشيق القدّ ممطـور
باتت تعلّمها في طول ليلـتـهـا

تقارب الخطو في ميل وباطـير
رفقاً، وتقليب عينٍ عند كلّ فتـىً

يرنو بمقلتها أنفـاس مـبـهـور
ما زلت أسألها حظّاً وترفـع لـي

في السّوم، حتّى أجابت بعد تعسير
لبذلٍ أصغر، دهراً كنت أدخـره،

أزهو برؤيته زهو المـياسـير.
الماشية على الماء
وأنشد لإسحاق بن خلف البصري:
لو أنّ رقيتها في صخرةٍ نطـقـت

أو أذن خرساء أضحت غير خرساء
أخفى من الرّوح إذ دبّت لحاجتـهـا

ولو تشاء مشت رفقاً على المـاء.
عيبه إصلاح شأن العشائر
وأنشد الخمّار:
ظلم النّاس، حسـبـنـا

ورموه بـالـكـبـائر
ما له عيبٌ سوى، إصلا

حه بين الـعـشـائر
قوّادٌ يخلي منزله بدرهمين
وأنشد لعبد بن وهب:
قالوا ابن عثمة قوّادٌ، فقلت لهم:

كذبتم، ما أبو حفص بـقـوّاد
لكنّه رجلٌ يخلـيك مـنـزلـه

بالدّرهمين وما يبقى من الزّاد
المتكامل
وأنشد ابن الأعرابي:
هل من رسول لطيف

إلى غزالٍ عـنـيف
له ســـريرة ذئبٍ

وسمت قسّ عفـيف
تكامل الظّرف فـيه

ففاق كـلّ ظـريفٍ
نحن منصرفان
ومن ملح ما قيل في هذا المعنى قول ابن الدّمينة:
خليليّ سيرا مسعدين فسلّـمـا

على حاضر الماء الذي تردان
ومرّا فقولا: نحن نطلب حاجةً

ومرّا فقولا: نحن منصرفـان
باب ما جاء في خلق النّساء
أوصاف النّساء
إذا كانت المرأة ضخمةً في تعمّدٍ وعلى اعتدالٍ فهي: رمجلة. فإذا زاد ضخمها ولم تقبح فهي: مسبحلة. فإذا كانت طويلةً قيل: جاريةٌ سبطةٌ وعيطبول. فإذا كانت بها مسحةٌ من جمالٍ فهي: جيلةٌ ووضيئةٌ. فإذا أشبه بعضها في الحسن بعضاً فهي: حسّانةٌ. فإذا استغنت بجمالها عن الزّينة فهي: غانيةٌ. فإذا كانت لا تبالي أن تلبس ثوباً حسناً ولا قلادةً فاخرةً فهي: معطالٌ. فإذا كان حسنها ثابتاً كأنّها رسمت به فهي: وسيمةٌ. فإذا قسم لها حظٌّ وافرٌ من الحسن فهي: قسيمةٌ.
وقالوا: وقال الصّباحة في الوجه الوضّاءة في البشرة. الجمال في الأنف. الحلاوة في العينين. الملاحة في الفم. الظّرف في اللّسان. الرّشاقة في القدّ. اللّباقة في الشّمائل. كمال الحسن في الشّعر.
والمرأة الرّعبوبة: البيضاء. الزّهراء: التي يضرب بياضها إلى صفرةٍ كلون القمر والبدر. والهجان: الحسنة البياض.
والمرأة طفلةٌ ما دامت صغيرةً؛ ثمّ وليدةٌ إذا تحرّكت؛ ثمّ كاعبٌ إذا كعب ثديها؛ ثمّ ناهدٌ إذا زاد؛ ثمّ معصرٌ إذا أدركت؛ ثمّ خودٌ إذا توسّطت الشّباب.
والزّجاء: الدّقيقة الحاجبين الممتدّتهما حتّى كأنّهما خطّا بقلمٍ. والبلج: إن يكون بينهما فرجةً، وهو يستحبّ، ويكره القرن وهو اتّصالهما. والدّعج: أن تكون العين شديدة السّواد مع سعة المقلة. والبرج: شدّة سوادهما وشدّة بياضهما. والنّجل: سعتهما. الكحل: سواد جفونهما من غير كحلٍ. الحور: اتّساع سوادهما.
الشّنب: رقّة الأسنان واستواؤهما وحسنها. الرّتل: حسن تنضيدها واتّساقها. التّفليج: تفرج ما بينهما. الشّتت: تفرّقها في غير تباعدٍ في استواءٍ وحسنٍ يقال منه، ثغرٌ شتيتٌ. الأشر: تحديدٌ في أطراف الثّنايا يدلّ على الحداثة. الظّلّم: الماء الذي يجري على الأسنان من البريق. الجيد: طول العنق. التّلع: إشرافها.
وإذا كانت المرأة شابّةً حسنة الخلق فهي: خود. فإذا كانت جميلة الوجه حسنة المعرى فهي: بهنكة. فإذا كانت دقيقة المحاسن فهي: مملودةٌ. فإذا كانت حسنة القدّ، ليّنة العصب: فهي: خرعبةٌ. وإذا كانت لم يركب بعض لحمها بعضاً فهي: مبتلةٌ. فإذا كانت لطيفة البطن فهي خمصانةٌ. فإذا كانت لطيفة الكشحين فهي: هضيمٌ. فإذا كانت لطيفة الخصر مع امتداد القامة فهي: ممشوقةٌ. فإذا كانت طويلة العنق في اعتدالٍ وحسنٍ فهي: عطبول. فإذا كانت عطيمة العجيزة فهي: رداحٌ. فإذا كانت سمينةً ممتلئة الذّراعين والسّاقين فهي خدلجةٌ.
فإذا كانت سمينةً ترتجّ من سمنها فهي مرمادةٌ. فإذا كانت ترعد من الرّطوبة والغضاضة فهي برهرهةٌ: فإذا كانت كأنّ الماء يجري في وجهها فهي رقراقةٌ. فإذا كانت رقيقة الجلد ناعمة البشرة فهي: بضّةٌ. فإذا عرفت في وجهها نضرة النّعيم فهي: نظرةٌ. فإذا كان فيها فتورٌ عند القيام لسمنها فهي: أناةٌ ووهنانةٌ. فإذا كانت طيّبة الرّيح فهي بهنانةٌ. فإذا كانت عظيمة الخلق مع جمالٍ فهي عرهرةٌ. فإذا كانت ناعمةً جميلةً فهي: عبقرةٌ: فإذا كانت مثنيّةً للينٍ وتعمّدٍ فهي: غيداء وغادةٌ. فإذا كانت طيّبة الفم فهي: رشوفٌ. فإذا كانت طيّبة ريح اليد فهي: أنوفٌ. فإذا كانت طيّبة الخلوة فهي: رصوفٌ. فإذا كانت لعوباً ضحوكاً. فهي: شموعٌ. فإذا كانت تامّة الشّعر فهي: فرعاء. فإذا لم يكن لمرفقيها حجمٌ من سمنها فهي: درماء. فإذا ضاق ملتقى فخذيها لكثرة لحمها فهي: لفّاء.
فإذا كانت حييّةً فهي: خفرةٌ وخرّيدةٌ. فإذا كانت منخفضة الصّوت فهي: رخيمةٌ. فإذا كانت محبّةً زوجها متحببّةً إليه فهي: عروبٌ. فإذا كانت نفوراً من الرّيب فهي: نوارٌ. فإذا كانت تجتنب الأقذار فهي: قذورٌ. فإذا كانت عفيفةً فهي: حصانٌ. وإذا كانت عاملة الكفّين فهي صناع.
فإذا كانت كثيرة الولد فهي: بنون. فإذا كانت قليلة الولادة فهي: نزورٌ. فإذا كانت تلد الذّكور فهي: مذكارٌ. فإذا كانت تلد الإناث فهي: مئناثٌ. فإذا كانت تلد مرّةً ذكراً ومرّةً أنثى فهي: مهابٌ. فإذا كانت لا يعيش لها ولدٌ فهي: مقلاتٌ. فإذا كانت تلد النّجباء فهي: منجابٌ. فإذا كانت تلد الحمقاء فهي: محمقةٌ.
فإذا كانت يغشى عليها عند الجماع فهي: ربوخٌ. والممكورة: المطويّ الخلق. واللّدنة: اللّينة النّاعمة. والمقصدة: التي لا يراها أحدٌ إلاّّ أعجبته. والخبرنجة: الجّارية الحسنة الخلق في استواءٍ. والمسبطرّة: الجسيمة. والعجزاء: العظيمة العجيزة. والرّعبوبة: الرّطبة. والرّجراجة: الدّقيقة الجلد. والرّتكة: الكثيرة اللّحم؛ والطّفلة النّاعمة. والرّود: المتثنّية اللّينة. والأملود: النّاعمة؛ ومثلها الخرع- مأخوذٌ من نبت الخروع وهو نبتٌ ليّنٌ- والبارقة: البيضاء الثّغر. والدّهثمة: السّهلة. والعاتق: التي لم تتزوّج. والبلهاء: الكريمة، والمفضّلة عن السّره الغرّيرة. والعيطموس: الفطنة الحسناء.
والسّلهبة: الخفيفة اللّحم، والمجدولة الممشوقة. والسّرعوفة: النّاعمة الطّويلة. والفيصاء والعفّاء: الطّويلة العنق. والتّهنانة أيضاً: الضّحّاكة المهللّة.
والغيلم: الحسناء. والخليق: الحسنة الخلق؛ وقال الفرّاء هي أحسن النّاس حيث نظر ناظرٌ، أي هي أحسن النّاس وجهاً. وقال أبو عمرو: ويقال للمرأة إذا كانت حسناء: كأنّها فرسٌ شرهاء- والشّرهاء: الحديدة النّفس- وامرأةٌ حسنة المعارف- ومعارفها: وجهها- والمتحرّية: الحسنة المشية في خيلاء. والشّموس: التي لا تطمع الرّجل في نفسها، وهي الذّعور. وامرأةٌ ظمياء: إذا كانت سمراء، وشفّةٌ ظمياء كذلك. ويقال لها إنّها لحسنة العطل أي الجسم. ويقال عبقةٌ أي التي يشاكلها كلّ النّاس.
اختلاف النّاس في أمورٍ عدّةٍ
ونذكر اختلافات النّاس في الثّدي والعجز والمجدولة من النّساء والضّخمة الطّويلة، والغضيضة. واختلاف شهواتهم في الممسوحة والمفلكة والكاعب والنّاهد والمنكسرة. ومن استحسن الثّدي الضّخم الذي يملأ الكفّين، ومن ذمّ ذلك.
وممّن وصف الشّحم عبد بني الحسحاس حيث يقول:
توسّدني كفّاً وترفع مـعـصـمـاً

عليّ وتحنو رجلهـا مـن ورائيا
أميل بها ميل النّـزيف، وأتّـقـي

بها القطر، والشّقّان من عن شماليا
فسحيم لم يتّخذها هدفاً تستر عنه الرّيح والقطر إلاّّ وهي في غاية الضّخم.
لا يريدها خنّاء قبّاء
وقال أبو عبيدة: دخل مالك الأشتر على عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، في صبحة بنائه على نسائه فقال: كيف وجد أمير المؤمنين أهله! قال كالخير من امرأةٍ، لولا أنّها خنّاء قبّاء قال: وهل يريد الرّجال من النّساء إلاّّ ذلك يا أمير المؤمنين? قال: كلاّ، حتّى تدفىء الضّجيع، وتروي الرّضيع.
تفضيل المرأة المجدولة
وهذا يدلّ على العجب بالضّخم والشّحم. وأكثر البصراء بجواهر النّساء الذين هم جهابذة هذا الأمر يقدّمون المجدولة، فهي تكون في منزلةٍ بين السّمينة والممشوقة مع جودة القدّ وحسن الخرط. ولا بدّ أن تكون كاسية العظام. وإنّما يردون بقولهم مجدولةً جدولة العصب وقلّة الاسترخاء، وأن تكون سليمةً من الزّوائد والفضول، لذلك قالوا خمصانةً وسيفانةً، وكأنّها جدل عنانٍ وغصن بانٍ وقضيب خيزران.
والتّثنّي من مشية المرأة أحسن ما فيها. ولا يمكن ذلك الضّخمة والسّمينة. ووصفوا المجدولة فقالوا: أعلاها قضيبٌ، وأسفلها كثيبٌ.
وقال بعض الأعراب:
لها قسمةٌ من خوط بانٍ ومن نقـىً

ومن رشأ الغزلان جيد ومـذرف
يكاد كليل الطّرف يكلـه خـدّهـا

إذا ما بدت من خدرها حين تطرف
وقال آخر:
ومجدولةٍ جدل العنان إذا مشت

تنوء بخصريها ثقال الرّوادف
وقال آخر:
ومجدولةٌ، أمّا مجال وشاحهـا

فغضٌّ، وأمّا ردفها فكثـيب؛
لها القمر السّاري نصيبٌ، وإنّها

لتطلع أحياناً لـه فـيغـيب.
وقال أبو نواس. وقد أحسن ما شاء:
أحللت من قلبي هواك محـلّةً

ما حلّها المشروب والمأكول.
بكمال صورتك التي في مثلهـا

يتحيّر التّشبيه والـتّـمـثـيل.
فوق القصيرة، والطّويلة فوقها؛

دون السّمين، ودونها المهزول.
وأمّا قول الأعشى حيث يقول:
غرّاء فرعاء مصقولٌ عـوارضـهـا

تمشي الهوينا كما يمشي الوحى الوجل
كأنّ مشيتها مـن بـيت جـاريتـهـا

مرّ السّـحـابة لا ريثٌ ولا عـجـل
فقد وصفها كما ترى بالضّخم، ولكنّه يذكر أفراطاً.
وقال الأحوص:
من المدمجات اللّحم جدلاً كأنّها

عنانٌ ضاع أنعمت أن تجوّدا
قال أبو عثمان الجاحظ: كان أبو معمر بن هلال يقول: عذرت الرّجل الطّويل الأير حتّى يتمنّاها ضخمةً. ولكن ما عذر الصّغير الأير في ذلك?.
وفي اختلافهم في الثّدي
أنشد للمرار بن سعيد
صلبة الخدّ طويلٌ جيدها

سجمة الثّدي ولمّا ينكسر
وقال النّابغة في النّهود:
يحططن بالعيدان في كلّ مقعدٍ

ويخبّأن رمّان الثّديّ النّواهـد
وأنشد لمسلم بن الوليد:
فأقسمت أنسى الدّاعيات إلى الصّبى

وقد فجأتها العين والشّـرّ واقـع
فغطّت بأيديها ثمـار صـدورهـا

كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامـع
وذمّ أعرابيٌّ امرأةً فقال: والله ما بطنها بوالدٍ، ولا شعرها بواردٍ، ولا ثديها بناهدٍ، ولا فوهها بباردٍ.
وكتب الحجّاج بن يوسف إلى الحكم بن أيّوب قال: اخطب على عبد الملك امرأةً جميلةً من بعيدٍ، مليحةً من قريبٍ، شريفةً في قومها، ذليلةً في نفسها، أمةً لبعلها. . فكتب إليه: أصبتها، وهي خولة بنت مسمع، لولا عظم ثديها! فكتب إليه الحجّاج: لا يحسن بدن المرأة حتّى يعظم ثدياها فتدفي الضّجيع، وتروي الرّضيع.
وقال آخر يذمّ عظم الثّدي:
لعمري لبيضٌ يحتللن بـقـفـزةٍ

لطائف ثدي الصّدر غيد السّوالف
أحبّ إلينا من ضخام بطـونـهـا

لآباطها تحت الثّدي تعـاطـف
في الممسوحة الصّدر
وقال آخر في الممسوحة التي لم يبد بصدرها شيءٌ:
وعلّقت ليلى وهي بكـرٌ خـريدةٌ

ولم يبد للأتراب من ثديها حجـم
صغيرين نرعى البهم، يا ليت أنّني

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وقال نصيب:
ولولا أن يقال: صبا نصيبٌ.

لقلت: بنفسي النّشو الصّغار؛
بنفسي كلّ مهضومٍ حشاهـا

إذا ظلمت فليس لها انتصار.
إذا ما الزّلّ ضاعفن الحشـايا

كفاها أن يلاث بهـا الإزار
وقال ذو الرّمّة:
بعيدات مهوى كلّ قرطٍ عقدنـه

لطاف الحشا تحت الثّدي الفوالك
وذكر آخر ابتداء النّهود فقال:
نظرت إليها نظرةً وهي عاتـقٌ

على حين شبّت واستبان نهودها
وليس في الحيوان شيءٌ واسع الصّدر غير الإنسان. ولا في جميع الحيوان أنثى في صدرها ثديٌ إلاّّ المرأة والفيلة، وكذلك الرّجل. والعرب تمدح الرّجال والنّساء بطول الأعناق. قال الشّاعر:
آراءٌ في طول الأعناق
ومن كلّ شيءٍ قد قضيت لبانتـي

سوى ضخم أعجازٍ ثقال الرّوادف
وهصري أعناقاً تلين وتنـثـنـي

كما كان خيطان الأراك الصّعائف
وقيل لإبراهيم بن النّظام: أيّ مقادير الثّدي أحمد? قال: وجدت النّاس يختلفون في الشّهوات، وسمعت الله تبارك وتعالى حين وصف حور العين جعلهنّ كواعب أتراباً. ولم يقل فوالك ولا نواهد. وقالت العرب: يسار الكواعب. ولم تقل يسار النّواهد ولا يسار الفوالك.
ولم أرهم يختلفون في مدح عظم الرّكب كما اختلفوا في مقادير النّدي في طول الأعناق. يقول الشّمردل.
ويشبهون ملوكاً في مهابتهـم

وطول أنصبة الأعناق والأمم
وقال آخر:
طوال أنصبة الأعناق لم يجدوا

ريح الإماء إذا راحت بأذفار.
وهوة حسنٌ ما لم يطل جدّاً، فإذا أفرط كان عيباً. كما عيب بذلك واصل بن عطاء رئيس المعتزلة فسمّي عنق نعامة، وعيب بذلك جعفر بن يحيى البرمكي.
وكذلك قال فيه الحسن بن هانىء:
ذاك الوزير الذي طاولت علاوته

كأنّه ناخرٌ في السّيف بالطّـول
وقد زعموا أنّه أوّل من اتّخذ هذا الأطواق العراض، فاستحسنها النّاس بعده، فاتّخذوها.
آراءٌ في صفة الأعكان
وفي صفة الأعكان يقول يزيد بن معاوية:
لها عكنٌ بيضٌ كأنّ غضونها

إذا شفّ عنها السّابري فداح
وقال أبو الطّيّب المتنبّي:
يضمّها المسك ضمّ المستهام بها

حتّى يصير على الأعكان أعكانا
وقال آخر:
غرّاء واضحة أقراب خرعـبة

طوع العناق فلا بكرٌ ولا نصف
وقال النّابغة الذّبياني:
والبطن ذو عكنٍ لـطـيفٍ طـيّه،

والنّحر ينفجه بـثـدي مـعـقّـد
محطوطة المتنين غير مـفـاضةٍ

ريّا الرّوادف بضّة المـتـجـرّد
وإذا لمست، لمست أجثم جاثـمـاً

متحيّزاً بمـكـانـه مـلء الـيد
وإذا نزعت، نزعت عن مستحصفٍ

نزع الحزوّر بالرّشاء المخـضـد
وأنشد لأعرابيٍّ آخر:
لمّا رأيت أنّ الرّحيل قد حان

قامت تهادى في رقيق الكتّان
بواضح الوجه قليل الخـيلان

وعكن مثل متون الغـزلان
وقال الفرزدق:
إذا بطحت فوق الأثافي رفعتهـا

بثديين في صدرٍ عريضٍ وكعثب
فزعم أنّها إذا بطحت على وجهها لم تمسّ الأرض بشيءٍ من سائر جسدها إلاّّ نهود ثدييها وعظم ركبها فصارت لبدنها كأثافي القدر.
وقال عبد بني الحسحاس:
من كلّ بيضاءٍ لها كعثب

مثل سنام البكرة المائل
وحلف ابن مطيع اللّيثي الشّاعر أنّ جاريته خردانة كانت تستلقي على ظهرها فتشخص كتفاها ومنكباها حتّى لقد كان يتدحرج الرّمّان والأترج من تحت خصريها.
قالوا: كانت الزّبّاء بنت عبد الله تصبّ جرّة الماء على رأسها فلا يصيب فخذيها للبد عجيزتها.
وقال الشّاعر:
نفج الجفينة لا ترى لكعوبهـا

حجماً وليس لساقها ظنبـوب
عظمت روادفها وسهّل وجهها

والوالدان نجـيبةٌ ونـجـيب
ومن مليح ما قيل في هذا، قول الأعرابي:
أبت الرّوادف والثّديّ لقمصهـا

مسّ البطون وإن تمسّ ظهورا
وإذا الرّياح مع العشيّ تناوحت

نبّهن حاسدةً وهجـن غـيورا
والعرب تمدح الملوك بسعة العيون كما يصفون ذلك النّساء ويستحسنونه.
قال ذو الرّمّة:
ومختلقٌ للملك أبيض قد غمز

أشمّ ألجّ العين كالقمر البدر
لمّا أنشد بشّار بن برد قول الشّاعر:
ألا إنّما ليلى عصا خيزرانةٍ

إذا لمسوها بالأكفّ تلـين
ضحك بشّار من قوله عصا خيزرانةٍ وقال: لو زعم أنّها عصا رندٍ أو عصا ندّ لهجّنها وكان ذلك خطأً بعد أن جعلها عصاً. فهلاّ قال كما قلت:
إذا قامت لسبحتها تثـنّـت

كأنّ عظامها من خيزران
وكانت ميمونة عند هشام بن عبد الملك، خلف عليها بعد العزيز قال: لو أنّ رجلاً ابتلع ميمونة ما اعترض في حلقه منها شيءٌ للينها. وقال بشّار:
إذا مشت نحو بيت جارتهـا

خلت من الرّمل خلفها حقف
يرتجّ من مرطها مؤزّرهـا

وفوقه غصن بانةٍ قصـف.
ما قيل في الضّخمة
وقد قيل في الضّخمة:
قليلة لحم النّـاظـرين يزيّنـهـا

شبابٌ ومخفوضٌ من العيش بارد
أرادت لتنتاش الرّواق فلم تـقـم

إليه ولكنّ طأطـأتـه الـولائد.
وقال آخر أيضاً:
ضوء برقٍ بدا لعينيك أم شبّت بذي الأثل من سلافة نار
أوقدتها بالمسك والعنبر اللّدن فتاةً يضيق عنها الإزار
وأنشد أيضاً:
وتبدي على المتن من شعرها

عناقيد كرمٍ تـدلّـين سـودا
ويجري السّواك على بـاردٍ

لذيذٍ من الدّرّ يبدي نضـيدا
وما زانها العقد لـكـنّـهـا

تزيّن بالنّحر منها العقـودا
كشمس الضّحى بين أترابهـا

موافين يوماً ليشهدن عـيدا
فكم من قتيلٍ بتلك الـعـيون

وكم من قتيلٍ تولّى عمـيدا
فإن يك عنّي قسا قلـبـهـا

فلم يجعل الله قلبـي حـديدا
أعيذك بالله أن تـشـتـمـي

بنا واشياً أو تطيعي حسـودا
وقال جران العود، وقد تزوّج فلقي منها برحاً، وكانت حسنة الشّعر فقال:
ألا لا يغـرّنّ امـرؤٌ نـوفـلـيّةً

على الرّأس منها أو ترائب وضّح
ولا فاحمٌ يشفي الدّهـان كـأنّـه

أساود يزهاها بعينـيك أفـطـح
وأنشد لآخر:
لا تنه قلبك أن يتوق إلى الحما

إنّ القلوب إلى سعاد تتـوق
فرعاء تسحب من قيامٍ شعرها

وتغيب فيه وهو جثل مونـق
فكأنّه ليلٌ عليهـا مـغـدفٌ

وكأنّها فيه نهـارٌ مـشـرق
وأنشد لآخر:
مقدورةٌ مـا أن لـهـا مـثـل

لي عندها العبرات والـخـبـل
فلشعرها من شعـرهـا زجـل

ولعينها من عينـهـا كـحـل
إن شئت قلت، إذا هي انصرفت،

بين الرّوادف والحشا نـصـل
وأنشد لآخر وذكر طول العنق:
وأعجبتني فيها غداة لقيتهـا

تبلبل أردافٍ لها ومحاجـر
وجيدٍ كأملود الرّخامى رعايةً

بمنهلّةٍ صبّت عليه الغـدائر
وقد وصفوا الأفواه والرّيق والشّفاه
قال بعضهم:
ومقبّلٌ عذب المذاق كـأنّـه

بردٌ تحدّر من غمام ماطـر
هنّ الدّواء لدائنا، وشفـاؤنـا

من كلّ داءٍ باطنٌ أو ظاهر.
وقال ذو الرّمّة:
لمياء في شفتيها حوةٌ لعسٍ

وفي اللّثاة وفي أنيابها شنب
العلاقة بين الرّيق وطيب الرّيح
والعرب يزعمون أنّ أطيب الأفواه أفواه الظّباء؛ كما أنّ أبعارها أطيب رائحةً من سائر الأباعر. ويزعمون أنّ ليس في السّباع أطيب أفواهاً من الكلاب. وفي النّاس أطيب أفواهاً من الزّنج. ويزعمون أنّ علّة ذلك كثرة الرّيق، لأنّ علّة الخلوف، جفوف الرّيق، والبخر يحدثه الكبر وقد اعترى إشرافاً من النّاس.
الشّيخ البخر
قال: سارر أبو الأسود الدؤولي عبيد الله بن زياد، فلمّا أدنى فاه من أنف عبيد الله خمر أنفه عبيد الله فجذب أبو الأسود يده فنحّاها، وقال: إنّك والله لن تسود حتّى تصير لسرار الشّيخ البخر. فعجب النّاس من جلده ومراسه. والأفواه الموصوفة بالنّتن أفواه الأسود وأفواه الصّقور.
النّهي عن استعمال المسواك
والشّعوبيّة وغيرهم ينهون عن السّواك. وقالوا: إنّما يعتري الخلوف من يستاك، والمره من يكتحل والشّعث من يدّهن. وزعموا السّواك يقلّل الأسنان ويأكل ما عليها من اللّحم، أني اللثّة، ويذهب العمور التي بينها ويرخيها.
وقال حسين بن مطير:
بمرتجّة الأرداف هيفٌ خصورها

عذابٌ ثناياها عجافٌ قـيودهـا
يريد أنّها صلابٌ عجافٌ غير وارمةٍ ولا مسترخيةٍ والسّواك يوهنها ويزيلها عن أماكنها.
الدّفاع عن السّواك
وزعموا أنّ السّواك يجلب ماء الوجه فيغني على الأيّام نضرة اللون وحمرة الوجنات، كما يصنع رضاع الطّفل في لبة المرأة وفي لون وجهها فإذا تحلب الماء المستكن في الغلاصم والأفواه أعقب ذلك في الأفواه جفوفاً، فإذا جفّت لعد الرّيق أدرثها خلوفاً. فقال من ردّ على هؤلاء: قد علمنا أنّ من أعظم الأمم التي عليها مدار الأمور في العقل والعلم والرّضا قد اجتمعوا على السّواك والخضاب فلو كان السّواك يورث البخر لم تكن هاتان الأمّتان مع ما فيهما من بعد الغور وشدّة الغزل بالنّساء والتّقرّب إلى قلوبهنّ والاستهتار بهنّ ليجهل هذا القدر من العيب الفاحش. فمن أحبّ أن يعرف إفراط العرب في الغزل والصبابة بالنّساء فليقرأ أشعارهم وأحاديثهم الإسلاميّة، وليقرأ كتب الهند في الباه، ولو تتبّعت أشعارهم في استعمال النّساء للسّواك لطال به الكتاب.
عمر والمرأة
وعن عمر بن دينار، قال: سمعت الحسن بن علي ، عليهما السّلام يقول لذريح بن سنّة: حل لك أن فرّقت بين قيسٍ ولبنى! أما إنّي سمعت عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، يقول: ما أبالي مشيت إلى الرّجل بالسّيف أو فرّقت بينه وبين امرأته! .
إثمه في عنقها
قال الزّبير بن بكار: دخلت عزّة على أمّ البنين بنت عبد العزيز فقالت: أقسمت عليك بأيّ شيءٍ وعدت كثيراً حيث يقول:
قضى كلّ دينٍ فوفّى غريمـه

وعزّة ممطولٌ معنّى غريمها
قالت لها: وعدته فمطلته سنةً، فلمّا ألحّ في التّقاضي هجرته، فضمّني وإيّاه طريقٌ بعد حينٍ فاستحييت منه فقلت: حيّاك الله يا جمل، ولم أحيّه، فقال:
حيّتك عزّة بعد الهجر وانصرفت

فحيّ ويحك من حيّاك يا جمـل
ليت التّحيّة كانت لي فأجعلـهـا

مكان: يا جملٌ؛ حيّاك يا رجـل
وهو على تقاضيه إلى اليوم. قالت: أقسمت عليك، ألاّ قضيته إيّاه وإثمه في عنقي?.
أريحيّة عبد الملك بن مروان
أبو عبيدة قال: كان بأرض الحجاز رجلٌ له ابنةٌ جميلةٌ فهويها ابن عمٍّ لها فبذل لها أربعة آلاف درهمٍ، فأبى أبوها أن يزوّجها منه، وأجدبت البادية، فدخل ابن عمّها على عمّه ذات يومٍ فشكا إليه ما يلقى. فقال له: قد كنت بذلت لنا أربعة آلاف درهمٍ، فأعطنا إيّاها، فأنت أحبّ إلينا لقرابتك. قال له: أجّلني شهراً. فأجّله، ولم يكن مع الفتى إلاّّ ناقةً، فركبها ومضى إلى عبد الملك بن مروان فطلب الإذن فلم يؤذن له. فقال: إنّي رسول فلانٍ عامل أمير المؤمنين على الحجاز. فأدخل عليه من ساعته. قال: معك كتابٌ من فلان? قال: لا، قال فرسالةٌ? فأنشأ يقول:
ماذا يقول أمير المؤمـنـين لـمـن

أدلى إليك بلا قـربـى ولا سـبـب
مدلّهٌ، عقـلـه مـن حـبّ جـاريةٍ

موصوفةٍ بكمال الـحـسـن والأدب
خطبتها إذ رأيت النّاس قد لـهـجـوا

بذكرها، والهوى يدعو إلى العطـب
فقلت، لي حسبٌ زاكٍ، ولي شـرفٌ

قالوا: الدّراهم خيرٌ من ذوي الحسب،
إنّـا نـريد ألـوفـاً مـنـك أربـعةً

ولست أملك غير الحسّ والقـتـب.
فامنن عليّ، أمير المؤمنـين، بـهـا،

واجمع بها شمل هذا البائس العـرب
فما وراءك، بعد اللـه، مـطّـلـبٌ،

أنت الرّجاء وأقصى غاية الطّـلـب
فضحك عبد الملك وأمر له بأربعة آلاف درهمٍ، وقال هذا صداق أهلك، وزاده أربعةً أخرى وقال له أولم بهذه، وأنفق عليها منها. فقبضها ومضى. فتزوّج بالجّارية.
خبلت عقله

وكان إسحاق بن سليمان بن علي شابّاً ظريفاً، محبّاً للشّعر. فخرج ذات يومٍ، وأبوه يلي البصرة، لأبي جعفر المنصور، متنزّهاً إلى ناحية البادية. فلقي أعرابيّاً فصيحاً إلاّّ أنّه شاحب اللون، مصفرّاً، ظاهر النّحول فاستنشده، فمضى عنه، فقال له ما بالك، فوالله، إنّك لفصيحٌ! قال له أما ترى الجبلين? قال: قلت بلى. قال: في طلابهما ما شغلني عن إنشادك. قلت: وما ذاك? قال: ابنة عمٍّلي قد تيّمتني، وأذهلت عقلي، وتالله أنّه يأتي عليّ لا أدري أفي السّماء أنا أم في الأرض. قال: قلت وما يمنعك منه? قال: قلّ ذات يدي!. قلت: وكم مهرها? قال خمسون ناقةً. قال: قلت: فيزوّجونك إذا دفعتها? قال: نعم. فقلت له أنشد لي ممّا قلت فيها! فأنشدني:
سعى العلم الفرد الذي في طلاله

غزالان مكحـولان يرتـعـيان
أرعتهما صيداً فلم أستطعهـمـا

وخبلاً ففاتاني وقد خبـلانـي.
قال. فقلت له: يا أعرابي، لقد قتلتني بقتلك، فنفيت من العبّاس إن لم أقم بأمرك. فرجع إلى البصرة فأخذ جماعةً من أهله وما أحتاج إليه، وحمل معه الأعرابي، وسار إلى الجّارية فخطبها إلى الفتى، فزوّجه، وساق إليه خمسين ناقةً وأقام عندهم ثلاثة أيّامٍ نحر فيها ثلاثين جزوراً، ووهب للأعرابي وللجارية مثل ذلك، وانصرف إلى البصرة.
لا يخفى عنه مخاطبة الكاتب والحائك
قال نفطويه: لمّا فرغ المهدي من بناء قصره ركب للنّظر إليه، فدخله فجأةً وأخرج من هناك من النّاس، فبقي رجلان خفيّان عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وهو دهش ممّا يفعل فقال له: ممّن أنت? قال: أنا أنا قال: ويلك: لا أدري! قال: لك حاجةً? قال: لا. قال أخرجوه أخرج الله نفسه فدفع في قفاه، فلمّا أخرج قال لبعض الغلمان: اتبعه من حيث لا يعلم حتّى يصل إلى منزله، فاسأله عن صنعته فإنّي أخاله حائكاً. فخرج الغلام يقفوه ثمّ أتى الآخر فاستنطقه فأجابه بقلبٍ جريءٍ، ولسانٍ طلقٍ، قال له: من أنت? قال: رجلٌ من أبناء رجال دعوتك. قال: فما جاء بك إلى ههنا? قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء الحسن، وأتمتّع بالنّظر إليه، وأكثر الدّعاء لأمير المؤمنين بطول البقاء ودوام العزّ، وهلاك الأعداء. قال: ألك حاجةً? قال: نعم، خطبت ابنة عمّي فردّني وقال: لا مال لك. وإنّي لها عاشقٌ، وبها وامقٌ، قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم قال: جعلني الله فداك، يا أمير المؤمنين، قد وصلت فأجزلت الصّلة، ومننت فأعظمت المنّة. فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيّامك خيراً من أوّلها، وأمتعك بما به أنعم عليك، وأمتع بك رعيّتك. فأمر أن تعجّل صلته ووجّه بغلامٍ آخر معه قال: سل عن مهنته فإنّي أخاله كاتباً: فرجع الرّسولان جميعاً فقال الرّسول الأول: وجدت الرّجل حائكاً، ولم يرجع إليه قلبه، ولا ثاب إلى نفسه. وقال الآخر: وجدت الرّجل كاتباً. فقال المهدي أنا إبن المنصور لا يخفى عنّي مخاطبة الكاتب والحائك.
أريحيّة الجّارية برير?
قال أحمد بن أبي خثعمة: أخبرتني مولاة، كانت لآل جعفر بن أبي جعفر المنصور، قالت: علق عيسى بن جعفر جاريةً لأمّ ولده فمنعته إيّاها غيرةً عليه، وتبعتها نفسه، فدسّت جاريةً لعيسى يقال لها برير إلى مولاتها في أن تبيعها منها، وأرغبتها، فباعتها منها، فأخذتها برير فصنعتها وكانت لبرير من عيسى ليلةً فوجّه إليها بخلعةٍ وبقدحٍ غاليةٍ تضمخ به شعرها.
فلمّا كانت ليلتها ألبست الجّارية الخلعة وضمخت رأسها ووجّهت بها إليه، فلمّا رآها سألها عن حالها فأخبرته بالخبر. وإنّها آثرت هوى نفسه على هوى نفسها. فسرّ بذلك ودعا ببرير فأعتقها وتزوّج بها ومهرها ضياعاً بالكوفة لها قدر. فقالت برير: إنّ من شكر الله على ما وهب لي من رأي أمير المؤمنين أن أجعل ما أعطاني من هذه الضّياع قربةً لله عزّ وجل، تجري للأمير وليّ أجرها. فأوقفها على أهل بيتٍ من الأنصار منهم ابن معاذٍ فلم يزل ذلك يجري عليهم.
زوّجها الرّشيد وأمر لها بالمال

قال إبراهيم بن المهدي: حجبت مع الرّشيد، فلمّا كنّا بالمدينة خرجت إلى العقيق أسير على دابّتي وليس معي غلامٌ، فوقفت على بئر عروة وعليها جاريةٌ سوداء وفي يدها دلوٌ تملأ قربةً لها، فقلت: يا هذه اسقني. فنظرت إليّ وقالت: أنا مشغولةٌ عنك. فقرعت قربوسي بمقرعتي موقّعاً بها على القربوس، وغنّيت. فلمّا سمعت ذلك منّي ملأت دلوها وبادرت به إليّ وقالت: اشرب يا عمّ فشربت، فقالت: بالله يا عم أين أهلك أحمل إليهم هذه القربة? فقلت: بين يدي. فمضت معي حتّى أتت المضرب فلمّا رأت الولدان والخدم ذعرت، فقلت لها: لا بأس عليك. وأخذت الماء وأمرت من وصله، فقال لي الغلمان: قد جاء رسول أمير المؤمنين مراراً فمضيت إليه، فقال لي: أين كنت? فأخبرته بخبر الجّارية، فأمر بطلبها، فأتي بها، فأمر بابتياعها من مولاها، وأعتقها، وقال لها: هل من تودّينه يودّك وتحبّينه يحبّك? قالت: نعم عبدٌ لآل فلان. فأمر بابتياعه وأعتقه ثمّ زوّجها إيّاه، وأمر لهما بمالٍ.
أرجعه من اليمن وزوّجه من يحب
حجّ الرّشبد سنة إحدى عشرة من خلافته، فلمّا نزل بالكوفة، بعد قفوله من الحج، دعا إسماعيل بن صبيح فقال: إنّي أردت الليلة أن أطوف في محال الكوفة وقبائلها فتأهبّ لذلك، قلت: نعم. فلمّا مضى ثلث الليل قام وقمت معه، وركب حماراً وركبت أنا آخر، ومعي خادمٌ ومعه خادمٌ من خاصّة خدمه. فلم نزل نطوف المحال والقبائل حتّى انتهينا إلى النّخع فسمعنا كلاماً. فقال الرّشيد لأحد الخادمين: أدن من الباب وتعرّف ما هذا الكلام? فتطلّع من موضعٍ في الباب فرأى نسوةً يغزلن حول مصباحٍ وجاريةٍ منهنّ تنشد شعراً وتردّد أبياته وتتبّع كلّ بيتٍ برنةٍ وأنّةٍ، وتبدي زفرةً: وتفيض عبرةً، والنّسوان اللواتي معها يبكين لبكائها فحفظ الخادم من شعرها هذه الأبيات:
هل أرى وجـه حـبــيبٍ شـــفـــنـــي،

بعـد فـقـدانـيه، أفـــراط الـــجـــزع؛
قد برى شوقي إليه أعظمي، وبلى قلبي هواه وفزع.


ليت دهراً مرّ، والقلب به

جذلٌ، والـعـيش حـلـــوٌ قـــد رجـــع؛
وعــفـــت آثـــاره مـــنـــه فـــيا،

ليت شـعـري، مـا بـه الـدّهـر صـنـــع?
قد تـمـسّـكـت عـلـــى وجـــدي بـــه

بجـمـيل الـصّـبـر، لـو كـان نـــفـــع.
فقال للخادمين: أعرفا الموضع إلى غد. ورجعنا إلى البصرة، فلمّا طلع الفجر وفرغ من صلاته وتسبيحه، قال للخادمين: أمضيا إلى الدّار فإن كان فيها رجلٌ من وجوه الحيّ فجيئا به حتّى أسأله عمّا أريده. فسار الخادمان إلى الدّار فلم يجدا فيها رجلاً، فدخلا إلى مسجد الحيّ فقالا لأهله: أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام ويقول لكم: أحببت أن يجيئني منكم أربعةً أسألهم عن أمرٍ. قالوا: سمعاً وطاعةً. وقاموا معهما فدخلوا على الرّشيد، فقرّبهم وأدناهم، وقال لهم: طفت البارحة في بلدكم تفقّداً لأحوالكم، فسمعت في دارٍ من دياركم امرأةً تنشد شعراً وتبكي. وقد خفت أ تكون مغيبةً، وأنّ نزاع النّفس أهون من نزاع الشّوق، وقطع الأوصال أهون من قطع الوصال، وقد أحببت أن أعرف خبرها منكم.
قالوا: يا أمير المؤمنين، هذه البارعة بنت عوف بن سهم كان أبوها زوّجها ابن عمٍّ لها يقال له سليمان بن همام على عشرة آلاف درهمٍ، فهلك أبواهما من قبل أن يجتمعا، فاكتتب زوجها مع عاملك إلى اليمن لقلّة ذات يده، وخرج منذ خمس سنين، فحزنت عليه، وطال شوقها إليه، فهي تنشد الأشعار فيه وتستريح إلى ذكره. فأمر الرّشيد من ساعته أن يكتب إلى عامله باليمن في حمل سليمان بن همام على البريد إلى حضرته إلى بغداد.
فما مضت أيّامٌ بعد وصول الرّشيد حتّى دخل عليه إسماعيل بن صبيح، فقال: يا أمير المؤمنين قد وصل النّخعي الذي أمرت بحمله إليك. فأمر بإدخاله عليه، فنظر إلى رجلٍ معتدل القامة، ظاهر الوسامة، ذرب اللسان، حسن البيان، فقال: أنت سليمان بن همام? قال: نعم، يا أمير المؤمنين. قال له: أقصص عليّ خبرك! فقصّ عليه الخبر فوجده مطابقاً لمّا خبّره به الأربعة النّفر، فأمر له بعشرين ألف درهمٍ، فأخذ ذلك من يومه ورحل إلى الكوفة فدخل بأهله وكان الرّشيد يتعاهده ببرّه.
تمّ الكتاب بعون الله وتوفيقه
قال إبراهيم بن المهدي: حجبت مع الرّشيد، فلمّا كنّا بالمدينة خرجت إلى العقيق أسير على دابّتي وليس معي غلامٌ، فوقفت على بئر عروة وعليها جاريةٌ سوداء وفي يدها دلوٌ تملأ قربةً لها، فقلت: يا هذه اسقني. فنظرت إليّ وقالت: أنا مشغولةٌ عنك. فقرعت قربوسي بمقرعتي موقّعاً بها على القربوس، وغنّيت. فلمّا سمعت ذلك منّي ملأت دلوها وبادرت به إليّ وقالت: اشرب يا عمّ فشربت، فقالت: بالله يا عم أين أهلك أحمل إليهم هذه القربة? فقلت: بين يدي. فمضت معي حتّى أتت المضرب فلمّا رأت الولدان والخدم ذعرت، فقلت لها: لا بأس عليك. وأخذت الماء وأمرت من وصله، فقال لي الغلمان: قد جاء رسول أمير المؤمنين مراراً فمضيت إليه، فقال لي: أين كنت? فأخبرته بخبر الجّارية، فأمر بطلبها، فأتي بها، فأمر بابتياعها من مولاها، وأعتقها، وقال لها: هل من تودّينه يودّك وتحبّينه يحبّك? قالت: نعم عبدٌ لآل فلان. فأمر بابتياعه وأعتقه ثمّ زوّجها إيّاه، وأمر لهما بمالٍ.
أرجعه من اليمن وزوّجه من يحب
حجّ الرّشبد سنة إحدى عشرة من خلافته، فلمّا نزل بالكوفة، بعد قفوله من الحج، دعا إسماعيل بن صبيح فقال: إنّي أردت الليلة أن أطوف في محال الكوفة وقبائلها فتأهبّ لذلك، قلت: نعم. فلمّا مضى ثلث الليل قام وقمت معه، وركب حماراً وركبت أنا آخر، ومعي خادمٌ ومعه خادمٌ من خاصّة خدمه. فلم نزل نطوف المحال والقبائل حتّى انتهينا إلى النّخع فسمعنا كلاماً. فقال الرّشيد لأحد الخادمين: أدن من الباب وتعرّف ما هذا الكلام? فتطلّع من موضعٍ في الباب فرأى نسوةً يغزلن حول مصباحٍ وجاريةٍ منهنّ تنشد شعراً وتردّد أبياته وتتبّع كلّ بيتٍ برنةٍ وأنّةٍ، وتبدي زفرةً: وتفيض عبرةً، والنّسوان اللواتي معها يبكين لبكائها فحفظ الخادم من شعرها هذه الأبيات:
هل أرى وجـه حـبــيبٍ شـــفـــنـــي،

بعـد فـقـدانـيه، أفـــراط الـــجـــزع؛
قد برى شوقي إليه أعظمي، وبلى قلبي هواه وفزع.


ليت دهراً مرّ، والقلب به

جذلٌ، والـعـيش حـلـــوٌ قـــد رجـــع؛
وعــفـــت آثـــاره مـــنـــه فـــيا،

ليت شـعـري، مـا بـه الـدّهـر صـنـــع?
قد تـمـسّـكـت عـلـــى وجـــدي بـــه

بجـمـيل الـصّـبـر، لـو كـان نـــفـــع.
فقال للخادمين: أعرفا الموضع إلى غد. ورجعنا إلى البصرة، فلمّا طلع الفجر وفرغ من صلاته وتسبيحه، قال للخادمين: أمضيا إلى الدّار فإن كان فيها رجلٌ من وجوه الحيّ فجيئا به حتّى أسأله عمّا أريده. فسار الخادمان إلى الدّار فلم يجدا فيها رجلاً، فدخلا إلى مسجد الحيّ فقالا لأهله: أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام ويقول لكم: أحببت أن يجيئني منكم أربعةً أسألهم عن أمرٍ. قالوا: سمعاً وطاعةً. وقاموا معهما فدخلوا على الرّشيد، فقرّبهم وأدناهم، وقال لهم: طفت البارحة في بلدكم تفقّداً لأحوالكم، فسمعت في دارٍ من دياركم امرأةً تنشد شعراً وتبكي. وقد خفت أ تكون مغيبةً، وأنّ نزاع النّفس أهون من نزاع الشّوق، وقطع الأوصال أهون من قطع الوصال، وقد أحببت أن أعرف خبرها منكم.
قالوا: يا أمير المؤمنين، هذه البارعة بنت عوف بن سهم كان أبوها زوّجها ابن عمٍّ لها يقال له سليمان بن همام على عشرة آلاف درهمٍ، فهلك أبواهما من قبل أن يجتمعا، فاكتتب زوجها مع عاملك إلى اليمن لقلّة ذات يده، وخرج منذ خمس سنين، فحزنت عليه، وطال شوقها إليه، فهي تنشد الأشعار فيه وتستريح إلى ذكره. فأمر الرّشيد من ساعته أن يكتب إلى عامله باليمن في حمل سليمان بن همام على البريد إلى حضرته إلى بغداد.
فما مضت أيّامٌ بعد وصول الرّشيد حتّى دخل عليه إسماعيل بن صبيح، فقال: يا أمير المؤمنين قد وصل النّخعي الذي أمرت بحمله إليك. فأمر بإدخاله عليه، فنظر إلى رجلٍ معتدل القامة، ظاهر الوسامة، ذرب اللسان، حسن البيان، فقال: أنت سليمان بن همام? قال: نعم، يا أمير المؤمنين. قال له: أقصص عليّ خبرك! فقصّ عليه الخبر فوجده مطابقاً لمّا خبّره به الأربعة النّفر، فأمر له بعشرين ألف درهمٍ، فأخذ ذلك من يومه ورحل إلى الكوفة فدخل بأهله وكان الرّشيد يتعاهده ببرّه.
تمّ الكتاب بعون الله وتوفيقه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلا

رحـلات وجـولات ورسائل لا تنـتهى للعقـل والـروح وأحـيانا للجـسـد عــبر نـوافــذ الادراك المعـروفـة والمجهولة تتـخطـى المكان والـزمان تـخـوض بحـار العـلم و تـكشـف أسـرار المـعرفة حربـا علـى الظــلام والتحاقا بالنـور بحـثا عـن الخيــر والجـمـال ووصــولا الى الـحـق