الأحد، 25 ديسمبر 2011

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ج2

الجزء الثاني من أربعة أجزاء 

تأليف
الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
ت 1285 هـ.

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه التكلان .
 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، كالمبتدعة والمشركين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه أجمعين .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد: فإن  هذا شرح  ل   كتاب التوحيد الذى ألفه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب


قوله : (من قال لا إله إلا الله وكفر يما يعبد من دون الله) اعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم فى هذا الحديث بأمرين .
الأول : قول لا إله إلا الله عن علم ويقين ، كما هو قيد فى قولها فى غير ما حديث كما تقدم .
والثانى : الكفر بما يعبد من دون الله ، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى ، بل لابد من قولها والعمل بها .
قلت : وفيه معنى '2 : 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" .
قال المصنف رحمه الله تعالى : (وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله ، فإنه لم يجعل اللفظ بها عاصماً للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه . فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه ، وحجة ما أقطعها للمنازع) انتهى .
قلت : وهذا هو الشرط المصحح لقوله : لا إله إلا الله فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التى ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً . قال تعالى : '8 : 39' "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" وقال : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً .
وفى صحيح مسلم عن "أبى هريرة مرفوعاً أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بى وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وفى "الصحيحين عن ابن عمر قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وهذان الحديثان تفسير الآيتين : آية الأنفال ، وآية براءة . وقد أجمع العلماء على أن من قال : لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها . أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفى والإثبات .
قال أبو سليمان الخطابى رحمه الله فى قوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان ، دون أهل الكتاب ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف .
وقال القاضى عياض : اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال  لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان ، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان ، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد ، فلا يكتفى فى عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها فى كفره.
انتهى ملخصاً .
وقال النووى : لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء فى الرواية ويؤمنوا بى وبما جئت به .
وقال شيخ الإسلام ، لما سئل عن قتال التتار فقال : كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه . كما قاتل أبو بكر والصحابة رضى الله عنهم مانعى الزكاة . وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم . قال : فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام ، أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء ، أو الأموال أو الخمر ، أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار . أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التى لا عذر لأحد فى جحودها أو تركها ، التى يكفر الواحد بجحودها . فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء . قال : وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة ، بل هم خارجون عن الإسلام . انتهى .
قوله : (وحسابه على الله) أي الله تبارك وتعالى هو الذى يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة ، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم ، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم . وأما فى الدنيا فالحكم على الظاهر ، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهراً والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه .
قلت : وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول لا إله إلا الله ولا يكفر بما يعبدون من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث .
قوله : (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب) قلت : وأن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى لا إله إلا الله وفيه أيضاً : بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع ، مما تركه من مضمون  لا إله إلا الله فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله وما دلت عليه من الإخلاص ونفى الشرك ، وبضدها تتبين الأشياء ، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافى للتوحيد ، وأما الأصغر فإنما ينافى كماله ، فمن اجتنبه فهو الموحد حقاً ، وبمعرفة وسائل الشرك والنهى عنها لتجتنب تعرف الغايات التى نهى عن الوسائل لأجلها ، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه . وفيه أيضاً من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده ، وأن العبادة لا تصلح إلا له ، وهذا هو التوحيد ، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله .

من الشرك اتخاذ الحلقة والخيط ونحوهما
قوله : (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما ، لرفع البلاء أو دفعه)
رفعه : إزالته بعد نزوله . دفعه : منعه قبل نزوله .
قال : (وقول الله تعالى : '36 : 38' " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ") .
قال ابن كثير : أي لا تستطيع شيئاً من الأمر (قل حسبى الله) أي الله كافى من توكل عليه (عليه يتوكل المتوكلون) كما قال هود عليه السلام حين قال قومه '11 : 54 - 56' " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " قال مقاتل فى معنى الآية : فسألهم النبى صلى اله عليه وسلم فسكتوا . أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها.
وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله ، لا على أنهم يكشفون الضر ، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده . كما قال تعالى : '16 : 53 ، 54' " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون " .
قلت : فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله فى جلب أو دفع ضر ، وأن ذلك شرك بالله . وفى الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله . والتوحيد ضد ذلك . وهو أن لا يدعو إلا الله ، ولا يرغب إلا إليه ، ولا يتوكل إلا عليه ، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شئ لغير الله . كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم .

حديث عمران بن حصين في تعليق الحلقة وأنها لا تزيد صاحبها إلا وهناص
قال : ("وعن عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً فى يده حلقة من صفر فقال : ما هذه ؟ قال: من الواهنة. قال : انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً ، فإنك لو مت وهى عليك ما أفلحت أبداً " رواه أحمد بسند لا بأس به) .
قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن "الحسن قال : أخبرنى عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة - قال أراها من صفر - فقال : ويحك ما هذه ؟ قال : من الواهنة . قال : أما إنها لا تزيدك إلا وهناً . انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً " رواه ابن حبان في صحيحه فقال : فإنك لو مت وكلت إليها والحاكم وقال: صحيح الإسناد ، وأقره الذهبي ، وقال الحاكم : أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران ، وقوله في الإسناد : أخبرني عمران يدل على ذلك .
قوله (عن عمران بن حصين) أي ابن عبيد خلف الخذاعي ، أبو نجيد -بنون وجيم- مصغر ، صحابي عن صحابي ، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة .
قوله (رأى رجلاً) في رواية الحاكم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر ، فقال : ما هذه الحديث فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث .
قوله (ما هذه) يحتمل أن الاستفهام للاستفسار عن سبب لبسها ، ويحتمل أن يكون للإنكار وهو أشهر .
قوله : (من الواهنة) قال أبو السعادات : الواهنة عرق يأخذ في المنكب واليد كلها ، فيرقى منها ، وقيل هو مرض يأخذ في العضد ، وهي تأخذ الرجال دون النساء وإنما نهى عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم ، وفيه اعتبار المقاصد .
قوله(انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) النزع هو الجذب بقوة ، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً ، وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالباً وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه .
قوله (فإنك لو مت وهو عليك ما أفلحت أبداً) لأنه شرك ، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة .
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فيه شاهد لكلام الصحابة : إن الشرك الأصغر أكبر الكبائر ، وأنه لم يعذر بالجهالة . وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك ) .
قوله : ( رواه أحمد بسند لا بأس به ) هو الإمام أحمد بن حنبل بن هلال ابن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسعد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان _ الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي ، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث ، وأشدهم ورعاً ومتابعة للسنة ، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة : عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته الدنيا فأباها ، والشبه فنفاها ، خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول .
وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك ، وهي سنة تسع وسبعين فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هرون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد . روى عنه ابناه صالح وعبد الله ، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوى ، وهو آخر من حدث عنه ، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر ، ومن أقرانه علي المديني ويحيى بن معين . قال البخاري : مرض أحمد لليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه ، وقال حنبل : مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة . وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد : مات في ثاني عشر ربيع الآخر رحمه الله تعالى .

حديث من تعلق تميمة فلا أتم الله له إلخ
قوله : ( وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً  من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له  وفي رواية :  من تعلق تميمة فقد أشرك  ) الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف ، ورواه أيضاً أبو يعلى والحاكم وقال : صحيح الإسناد وأقره الذهبى .
قوله : (وفى رواية) أي من حديث آخر رواه أحمد فقال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دجين الحجرى عن عقبة بن عامر الجهنى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد ، فقالوا يا رسول الله ، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا ؟ فقال : إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها ، فبايعه وقال : من تعلق تميمة فقد أشرك" ورواه الحاكم ونحوه . ورواته ثقات .
قوله : (عن عقبة بن عامر) صحابى مشهور فقيه فاضل ، ولى إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريباً من الستين .
قوله : (من تعلق تميمة) أي علقها متعلقاً بها قلبه فى طلب خير أو دفع شر ، قال المنذري : خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات ، وهذا جهل وضلالة ، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى .
وقال أبو السعادات : التمائم جمع تميمة وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين ، فى زعمهم ، فأبطلها الإسلام .
قوله : (فلا أتم الله له) دعاء عليه .
قوله : (ومن تعلق ودعة) بفتح الواو وسكون المهملة . قال فى مسند الفردوس : شئ يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين .
قوله : (فلا ودع الله له) بتخفيف الدال ، أي لا جعله في دعة وسكون ، قال أبو السعادات وهذا دعاء عليه .
قوله : ( وفي رواية : من تعلق تميمة فعد أشرك ) قال أبو السعادات : إنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم ، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه .
قال المصنف رحمه الله (ولابن أبي حاتم عن حذيفة ) أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى ، فقطعه ، وتلا قوله تعالى : [ 12 : 106 ] " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال : دخل حذيفة على مريض ، فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه . ثم قال : " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " .
وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة .
وحذيفة هو ابن اليمان . واسم اليمان : حسيل بمهملتين مصغراً ، ويقال حسل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة ، حليف الأنصار ، صحابي جليل من السابقين ويقال له صاحب السر وأبوه أيضاً صحابي ، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين .
قوله : ( رأى رجلاً في يده خيط من الحمى ) أي عن الحمى . وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى وروى وكيع عن حذيفة :  أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده ، فإذا فيه خيط ، فقال : ما هذا ؟ قال : شئ رقى لي فيه ، فقطعه وقال : لو مت وهو عليك ما صليت عليك وفيه إنكار مثل هذا ، وإن كان يعتقد أنه سبب ، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها . وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وازالته بالقول والفعل ، وإن لم يأذن فيه صاحبه .
قوله : (وتلا قوله : "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك . ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله فى الشرك الأكبر ، لشمول الآية ودخوله فى مسمى الشرك ، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره فى كلام شيخ الإسلام وغيره . والله أعلم . وفى هذه الآثار عن الصحابة : ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافى كماله .

باب ما جاء في الرقي والتمائم
قوله : (باب ما جاء فى الرقى والتمائم)
أي من النهي وما ورد عن السلف في ذلك .
قوله : (وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً : أن لا يبقين فى رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)
هذا الحديث فى الصحيحين .
قوله : (عن أبى بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة ، قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد . وقال ابن عبد البر : لا يوقف له على اسم صحيح ، هو صحابى شهد الخندق ومات بعد الستين . ويقال : إنه جاوز المائة .
قوله : (فى بعض أسفاره) قال الحافظ : لم أقف على تعيينه .
قوله : (فأرسل رسولاً) هو زيد بن حارثة . روى ذلك الحارث بن أبى أسامة فى مسنده قاله الحافظ .
قوله : (أن لا يبقين) بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين وقلادة مرفوع على أنه فاعل و الوتر بفتحتين ، وأحد أوتار القوس . وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب إعتقاداً منهم أنه يدفع عن الدابة العين .
قوله : (أو قلادة إلا قطعت) معناه : أن الراوى شك هل قال شيخه : قلادة من وتر أو قال : قلادة وأطلق ولم يقيده ؟ ويؤيد الأول ما روى عن مالك أنه سئل عن القلادة ؟ فقال : ما سمعت بكراهتها إلا فى الوتر . ولأبى داود ولا قلادة بغير شك .
قال البغوى فى شرح السنة : تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون الأوتار والتمائم ويعلقون عليها العوذ ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات . فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئاً .
قال أبو عبيد : كانوا يقلدون الإبل الأوتار ، لئلا تصيبها العين ، فأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلاماً لهم بأن الأوتار لا ترد شيئاً . وكذا قال إبن الجوزى وغيره .
قال الحافظ : ويؤيده حديث عقبة بن عامر ، رفعه من تعلق تميمة فلا أتم الله له رواه أبو داود . وهى ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك . انتهى .

حديث ابن مسعود : الرقي والتمائم والتولة شرك
قال المصنف : "(وعن ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود) ".
وفيه قصة ، ولفظ أبى داود : عن "زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : إن عبد الله رأى فى عنقى خيطاً فقال : ما هذا ؟ قلت : خيط رقى لى فيه . قالت : فأخذه ثم قطعه ، ثم قال : أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك . فقلت : لقد كانت عينى تقذف ، وكنت أختلف إلىفلان اليهودي ، فاذا رقى في سكنت. فقال عبد الله : إنما ذلك عمل الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا كف عنها . إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أذهب البأس ، رب البأس ، واشف أنت الشافى ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً" ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال : صحيح ، وأقره الذهبى .
قوله : (إن الرقى) قال المصنف : (هى التى تسمى العزائم ، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك ، ففد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة) يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركاً هى التى يستعان فيها بغير الله ، وأما إذا لم يذكر فيها إلا بأسماء الله وصفاته وآياته ، والمأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم ، فهذا حسن جائز أو مستحب .
قوله (فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة) كما تقدم ذلك فى باب من حقق التوحيد . وكذا رخص فى الرقى من غيرها ، كما فى صحيح مسلم عن "عوف بن مالك : كنا نرقى فى الجاهلية ، فقلنا يا رسول الله كيف ترى فى ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم . لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً" وفى الباب أحاديث كثيرة .
قال الخطابى: وكان عليه السلام قد رقى ورقى ، وأمر بها وأجازها ، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهى مباحة أو مأمور بها ، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله شرك .
قلت : من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التى يتعاطونها ، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم . وبنحو هذا ذكر الخطابى .
وقال شيخ الإسلام : كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلاً أن يدعو به ، ولو عرف معناه : لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية ، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام .
وقال السيوطى : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاث شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته ، وباللسان العربى : ما يعرف معناه ، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى .
قوله : (والتمائم) قال المصنف : (شئ يعلق على الأولاد من العين) وقال الخلخالى : التمائم جمع تميمة وهى ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين ، وهذا منهى عنه . لأنه لا دافع إلا الله ، ولا يطلب دفع المؤذيات الا بالله وبأسمائه وصفاته .
قال المصنف : (لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف . وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهى عنه . منهم ابن مسعود) .
اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا فى جواز تعليق التمائم التى من القرآن أسماء الله وصفاته ، فقالت طائفة يجوز ذلك ، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وهو ظاهر ما روى عن عائشة . وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد فى رواية . وحملوا الحديث على التمائم التى فيها شرك .
وقالت طائفة لا يجوز ذلك . وبه قال ابن مسعود وابن عباس . وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم ، وبه قال جماعة من التابعين ، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد فى رواية اختارها كثير من أصحابه ، وحزم بها المتأخرون ، واحتجوا بهذا الحديث وما فى معناه .
قلت : هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل :
الأول : عموم النهى ولا مخصص للعموم .
الثانى : سد الذريعة ، فإنه يفضى إلى تعليق ما ليس كذلك .
الثالث : أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المتعلق بحمله معه فى حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك .
 وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضى الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام ، خصوصاً إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والإقبال إليها بالقلب والوجه ، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التى هى حق الله تعالى إليها من دونه ، كما قال تعالى '10 : 106 ، 107' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم " ونظائرها فى القرآن أكثر من أن تحصر .
قوله : (التولة) ، قال المصنف : (هى شئ يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث : كما فى صحيح ابن حبان والحاكم قالوا : يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال : شئ نصنعه للنساء يتحببن به إلى أزواجهن .
قال الحافظ : التولة : بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففاً - شيئاً كانت المرأة تجلب به محبة زوجها ، وهو ضرب من السحر ، والله أعلم .
وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى .

حديث : من تعلق شيئاً وكل إليه
قال المصنف : (وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً من تعلق شيئاً وكل إليه رواه أحمد والترمذي) ورواه ابو داود والحاكم ، وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغراً ، ويكنى أبا معبد ، الجهني الكوفي . قال البخاري : أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم . قال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة ، وذكر ابن سعد من غيره أنه مات في ولاية الحجاج .
قوله : (ومن تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق يكون بالقلب ، ويكون بالفعل ، ويكون بهما وكل إليه أي وكله الله إلى ذلك الشئ الذي تعلقه فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه إليه والتجأ إليه ، وفوض أمره إليه ، وكفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير ، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك ، وكله الله إلى ذلك وخذله ، وهذا معروف بالنصوص والتجارب . قال تعالى '65 : 3' "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" .
قال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخرساني قال : لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت : حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز . قال : نعم ، اوحى الله تبارك وتعالى إلى داود : يا داود، وأما عزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له بينهن مخرجاً وأما عزتي وعصمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالى بأي أوديتها هلك.

حديث رويفع من تقلد وتراً فإن محمداً منه بريء
قال المصنف : وروى الإمام أحمد عن رويفع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا رويفع ، لعل الحياة ستطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمداً بريء منه " .
الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة . وفيه قصة اختصرها المصنف . وهذا لفظ حسن : حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال : حدثنا رويفع بن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما غنم وله النصف ، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح . ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث .
ثم رواه أحمد بن يحيى بن غبلان حدثنى الفضل عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شييان القتباني - الحديث . ابن لهيعة فيه مقال . وفي الإسناد الثاني شيبان القتبانى ، قيل فيه مجهول . وبقية رجالهما ثقات .
قوله : (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس ، وليس هذا مختصاً برويفع ، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به ، فإن إشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية . قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود .
قوله : (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة ، فإن رويفعاً طالت حيا ته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها ، وهو من الأنصار . وقيل مات سنة ثلاث وخمسين .
قوله : (إن من عقد لحيته) بكسر اللام لا غير ، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري .
قال الخطابي : أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين .
أهدهما : ما كانوا يفعلونه في الحرب ، كانوا يعقدون لحاهم ، وذلك من زى بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبراً وعجباً .
ثانيهما : أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد ، وذلك من فعل أهل التأنيث وقال أبو زرعة بن العراقى : والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة ، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع . وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة .
قوله : أو تقلد وتراً أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته . وفي رواية محمد بن الربيع أو تقلد وتراً ـ يريد تميمة  .
فإذا كان هذا فيمن تقلد وتراً فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، الذي جاء النهى عنه وتغليظه في الآيات المحكمات ؟
قوله : أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه قال لنووي: أي بريء من فعله ، وهذا خلاف الظاهر . والنووي كثيراً ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً : " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن " وعليه لا يجزى الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد ، لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجي بعظم أو روث ، وقال : إنهما لا يطهران " .
قوله : (وعن سعيد بن جبير قال : " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع) هذا عند أهل العلم له حكم الرفع ، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ويكون هذا مرسلاً لأن سعيداً تابعى . وفيه فضل قطع التمائم لأنها شرك . ووكيع هو ابن الجراح ابن وكيع الكوفى ، ثقة إمام ، صاحب تصانيف منها الجامع وغيره . روى عنه الإمام أحمد وطبقته . مات سنة سبع وتسعين ومائة .
قوله : وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن وإبراهيم هو الإمام بن يزيد النخعى الكوفي ، يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء . قال المزى : دخل على عائشة ، ولم يثبت له سماع منها . مات سنة ست وتسعين ، وله خمسون سنة أو نحوها .
قوله :  كانوا يكرهون التمائم إلى آخره ، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود ، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد ، وعبيد السلمانى ومسروق والربيع بن خثيم ، وسويد بن غفلة وغيرهم ، وهو من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم من حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحفاظ العراقى وغيره .

باب من تبرك بشجرة ونحوهها
قوله : ( باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما)
كبقعة وقبر ونحو ذلك ، أي فهو مشرك .
قوله : وقوله الله تعالى : '53 : 19 -23 ' " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " (الآيات) وكانت اللات لثقيف ، والعزى لقريش وبنى كنانة ، ومناة لبنى هلال . وقال ابن هشام : كانت لهذيل وخزاعة .
فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحمدي وأبو صالح ورويس بتشديد التاء .
فعلى الأولى قال الأعمش : سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز . قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى ، قالوا : اللات مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً قال : وكذا العزى من العزيز .
وقال ابن كثير : اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت الطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش ، قال ابن هشام : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار .
وعلى الثانية قال ابن عباس :  كان رجلاً يلت السويق للحاج ، فما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري قال ابن عباس :  كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلؤه عليها ، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاماً لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال : فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور . وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم .
قلت : لا منافاة بين القولين . فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليهاً وتظيماً .
ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثاناً . وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام .
وأما العزى فقال ابن جرير : كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ـ بين مكة والطائف ـ كانت قريش يعظمونها ... كما قال أبو سفيان يوم أحذ : لنا العزى ولاعزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " وروى النسائي وابن مردوية عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ـ وكانت بها العزى ، وكانت على ثلاث سمرات ـ فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئاً ، فرجع خالد ، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون : يا عزى يا عزى ، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره . فقال : تلك العزى قلت : وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد .
وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد ، بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج ، وأصل اشتقاقها : من إسم الله المنان ، وقيل : لكثرة ما يمنى ـ أي يراق ـ عندها من الدماء للتبرك بها .
قال البخاري رحمه الله ، في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها : إنها صنم بين مكة والمدينة قال ابن هشام : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فهدمها عام الفتح فمعنى الآية كما قال القرطبي : أن فيها حذفاً تقديره : أفرأيتم هذه الآلهة ، أنفعت أو ضرت ، حتى تكون شركاء لله تعالى ؟
وقوله : " ألكم الذكر وله الأنثى " قال ابن كثير : تجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور ؟ قوله : " تلك إذا قسمة ضيزى " أي جور وباطلة . فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى . وقوله : " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " أي من تلقاء أنفسكم " ما أنزل الله بها من سلطان " أي من حجة " إن يتبعون إلا الظن " أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم " وما تهوى الأنفس " وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين . قوله : " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " قال ابن كثير : ولقد أرسل الله تعالى إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له ا هـ .
ومطابقة الآيات للترجمة من جهة أن عباد هذه الأوثان إنهم كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك ، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات ، وبالأشجار كالعزى ومناة من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان ، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك ، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك . فالله المستعان .

حديث أبي واقد الليثي في ذات أنواط
قوله : عن أبي واقد الليثي قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة ، فقلنا يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه .
أبو واقد إسمه الحارث بن عوف ، وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة قاله الترمذي وقد رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه .
قوله : عن أبي واقد قد تقدم ذكر إسمه في قول الترمذي وهو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وثمانون سنة .
قوله : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين وفي حديث عمرو بن عوف وهو عند ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني . قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف ـ الحديث.
قوله : ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريب عهدنا بالكفر ، ففيه دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه من الصحابة لا يجهل هذا وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قبله لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة . ذكره المصنف رحمه الله .
قول : وللمشركين سدرة يعكفون عندها العكوف هو الإقامة على الشئ في المكان ، ومنه قول الخليل عليه السلام : '21 : 52' " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركاً بها وتعظيماً لها وفي حديث عمرو  كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله .
قوله : وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة .
قلت : ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك ، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها .
قوله : فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط  قال أبو السعادات : سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك . وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمى بها المنوط . ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به ، وإلا فهم أجل قدراً من أن يقصدوا مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر وفي رواية سبحان الله والمراد تعظيم الله تعالى وتنزييه عن هذا الشرك بأي نوع كان ، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيماً لله وتنزيهاً له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية .
قوله : إنها السنن بضم السين أي الطرق .
قوله : قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة "  شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل ، بجامع أن كلاً طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله ، وإن اختلف اللفظان . فالمعنى واحد ، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة .
ففيه الخوف من الشرك ، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله ، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقرهب من سخطه ، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلى من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور ، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها ، ويحسبون أنهم على شئ وهو الذنب الذي لا يغفره الله .
قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث : ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد ، يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية ، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه ، ويظنون أنهم متقربون بذلك ، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها ، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر . وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير ، والشجرة الملعونة خارج باب النصر نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها ، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث . انتهى .
وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة ، ثم قال : فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ، ويقولون : إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر ، أي تقبل العبادة من دون الله ، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" .
وفي هذه الجملة من الفوائد : أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها العكوف عندها والذبح لها هو الشرك ، ولا يغتر بالعوام والطغام ، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة ، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسناً وطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل : ' 7 : 138 ' " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة ؟ ! بل خفى عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية ، فأكبروا فعله واتخذوه قربة .
وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل ، ولم يلتفت إلى كوفهم سموها ذات أنواط . فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه . كمن يسمى دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيماً ومحبة ، فإن ذلك هو الشرك ، وإن سماه ما سماه . وقس على ذلك .

لتركبن سنن من قبلكم
قوله :لتركبن سنن من كان قبلكم بضم الموحدة وضم السين أي طرقهم ومناهجهم وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح . والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له .
وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث : النهى عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه ، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال المصنف رحمه الله : وفيه التنبيه على مسائل القبر ، أما : من ربك ؟ فواضح. وأما : من نبيك ؟ فمن إخباره أنباء الغيب. وأما : ما دينك ؟ فمن قولهم اجعل لنا إلهاً إلخ . وفيه : أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافاً لمن ادعى خلاف ذلك ، وفيه الغضب عند التعليم ، وإن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قال لنا لنحذره  قاله المصنف رحمه الله .
وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه :
منها : أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ، لا فى حياته ولا بعد موته . ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة ، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة ، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة . فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة ، وللنبي صلى الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره .
ومنها : أن في المنع عن ذلك سداً لذريعة الشرك كما لا يخفى .

باب ما جاء في الذبح لغير الله
قوله : ( باب ما جاء في الذبح لغير الله )
من الوعيد وأنه شرك بالله .
قوله : ' 6 : 162 ، 163 ' " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له " الآية .
قال ابن كثير : يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون له : بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته . لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والإنحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى . قال مجاهد : النسك الذبح في الحج والعمرة . وقال الثورى عن السدى عن سعيد ابن جبير : ونسكى ذبحى. وكذا قال الضحاك . وقال غيره " ومحياي ومماتي " أي وما آتيه في حياتى وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح " لله رب العالمين " خالصاً لوجهه " لا شريك له وبذلك " الإخلاص " أمرت وأنا أول المسلمين " أى من هذه الأمة لأن إسلام كل نبى متقدم .
قال ابن كثير : وهو كما قال ، فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له . كما قال تعالى : ' 21 : 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وذكر آيات في هذا المعنى .
ووجه مطابقة الآية للترجمة : أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك ، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات ، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه ، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته ، ظاهر في قوله : " لا شريك له " نفى أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات ، وهو بحمد الله واضح .
قوله : " فصل لربك وانحر " قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أمر الله أن يجمع بين هاتين العبادتين ، وهما الصلاة والنسك ، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن ، وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته ، عكس حال أهل الكبر والنفرة ، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم ، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر ، ولهذا جمع بينهما في قوله : " قل إن صلاتي ونسكي " الآية والنسك الذبيحة لله تعالى إبتغاء وجهه . فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله ، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب ، لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر . وأجل العبادات البدنية : الصلاة ، وأجل العبادات المالية : النحر . وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها ، كما عرفه أرباب القلوب الحية ، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص ، من قوة اليقين وحسن الظن : أمر عجيب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة ، كثير النحر .ا هـ .
قلت : وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيراً ، فمن ذلك الدعاء والتكبير ، والتسبيح والقراءة ، والتسميع والثناء ، والقيام والركوع ، والسجود والاعتدال ، وإقامة الوجه لله تعالى ، والإقبال عليه بالقلب ، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة ، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شئ لغير الله : وكذلك النسك يتضمن أموراً من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .

حديث علي : لعن الله من ذبح لغير الله إلخ
قوله : وعن علي بن أبي طالب قال : " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم من طرق  وفيه قصة .
ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي طفيل قال  قلنا لعلى : أخبرنا بشئ أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما أسر إلى شيئاً كتمه الناس ، ولكن سمعته يقول : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من غير تخوم الأرض ، يعنى المنار  .
وعلى بن أبي طالب : هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، كان من أسبق السابقين الأولين ومن أهل بدر وبيعة الرضوان ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، ورابع الخلفاء الراشدين ، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه ، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين .
قوله :  لعن الله  اللعن : البعد عن مظان الرحمة ومواطنها . قيل : واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة ، أو دعى عليه بها . قال أبو السعادات : أصل اللعن : الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السب والدعاء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه : إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى : ' 33 : 43 ، 44 ' " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام " وقال : ' 33 : 64 ' " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً " وقال : ' 33 : 61 ' "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً " والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل عليه السلام وبلغه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى ، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم . فالله تعالى هو المصلى وهو المثيب ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، وعليه سلف الأمة . قال الإمام أحمد رحمه الله :  لم يزل الله متكلماً إذا شاء  .
قوله :  من ذبح لغير الله  قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ' 2 : 173 ' " وما أهل به لغير الله " ظاهره : أنه ما ذبح لغير الله ، مثل أن يقول : هذا ذبيحة لكذا . وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للصنم وقال فيه : باسم المسيح أو نحوه . كما أن ماذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم ، وقلنا عليه : بسم الله . فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة ، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى ، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الإستعانة بغير الله . وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم ، وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقى هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال . لكن يجتمع في الذبيحة مانعان :
الأول : أنه مما أهل به لغير الله .
والثاني : أنها ذبيحة مرتد .
ومن هذا الباب : ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ، ولهذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن. اهـ .
قال الزمخشري : كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن ، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك .
وذكر إبراهيم المروزي : أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه ، أفتى أهل بخارى بتحريمه ، لأنه مما أهل به لغير الله .
قوله :  لعن الله من لعن والديه  يعني أباه وأمه وإن عليا . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " .
قوله :  لعن الله من آوى محدثاً  أى منعه من أن يؤخذ منه الحق الذى وجب عليه  آوى بفتح الهمزة ممدوده أي ضمه إليه وحماه .
قال أبو السعادات : أويت إلى المنزل ، وأويت غيرى ، وآويته . وأنكر بعضهم المقصور المتعدى .
وأما  محدثاً  فقال أبو السعادات : يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر : من نصر جانباً وآواه وأجاره من خصمه ، وحال بينه وبين أن يقتص منه . وبالفتح : هو الأمر المبتدع نفسه ، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه ، فإنه إذا رضى بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم .
قوله :  ولعن الله من غير منار الأرض  بفتح الميم علامات حدودها . قال أبو السعادات في النهاية  ـ في مادة  تخم  ـ ملعون من غير تخوم الأرض أي معالمها وحدودها ، وحدها تخم قيل : أراد حدود الحرم خاصة : وقيل هو عام في جميع الأرض ، وأراد المعالم التي يهتدى بها في الطريق . وقيل هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلماً . قال ويروى  تخوم  بفتح التاء على الإفراد وجمعه تخم بضم التاء والخاء . ا هـ .
وتغييرها : أن يقدمها أو يؤخرها ، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين .
وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان :
أحدهما : أنه جائز . اختاره ابن الجوزى وغيره .
ثانيهما : لا يجوز ، اختاره ، أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام .

حديث دخل رجل الجنة في ذباب إلخ
قوله :  " وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دخل الجنة رجل في ذباب . ودخل النار رجل في ذباب . قالوا كيف يا رسول الله ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم ، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً ، فقالوا لأحدهما : قرب . قال : ليس عندي شئ أقرب . قالوا له : قرب ولو ذباباً . فقرب ذباباً . فخلوا سبيله ، فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل . فضربوا عنقه ، فدخل الجنة " رواه أحمد  .
قال ابن القيم  رحمه الله : قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال :  دخل الجنة في رجل في ذباب  الحديث .
وطارق بن شهاب : هو البجلى الأحمس ، أبو عبد الله . رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل .
قال البغوي : نزل الكوفة . وقال أبو داود : رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً . قال الحافظ : إذا ثبت أنه لقى النبي فهو صحابي . وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح ، وكانت وفاته ـ على ما جزم به ابن حبان ـ سنة ثلاث وثمانين .
قوله :  دخل الجنة رجل في ذباب  أي من أجله .
قوله :  قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله  كأنهم تقالوا ذلك ، وتعجبوا منه . فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيماً يستحق هذا عليه الجنة ، ويستوجب الآخر عليه النار .
قوله :  فقال : مر رجلان على قوم لهم صنم  الصنم ما كان منحوتاً على صورة ويطلق عليه الوثن كما مر .
قوله :  لا يجاوزه  أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئاً وإن قل .
قوله :  قالوا له قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فخلوا سبيله ، فدخل النار  في هذا بيان عظمة الشرك ، ولو في شئ قليل ، وأنه يوجب النار . كما قال تعالى : ' 5 : 72 ' " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " .
وفي هذا الحديث : التحذير من الوقوع في الشرك ، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدرى أنه من الشرك الذي يوجب النار .
وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء ، وإنما فعله تخلصاً من شر أهل الصنم .
وفيه أن ذلك الرجل كان مسلماً قبل ذلك ، وإلا فلو لم يكن مسلماً لم يقل دخل النار في ذباب .
وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان ، ذكره المصنف بمعناه .
قوله :  وقالوا للآخر : قرب . قال : ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل  .
قال المصنف رحمه الله :  وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا منه إلى العمل الظاهر  .

باب لا يذبح مكان يذبح فيه لغير الله
قوله :  باب : لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى 
 لا  نافية ويحتمل أنها للنهى وهو أظهر ، قوله : وقول الله تعالى ' 9 : 108 ' " لا تقم فيه أبدا " الآية  قال المفسرون إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار ، والأمة تبع له في ذلك ، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنى على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً ومنزلاً للإسلام وأهله ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وفي الصحيح :  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً  وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف ، منهم ابن عباس ، وعروة ، والشعبي ، والحسن وغيرهم .
قلت : ويؤيده قوله في الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث أبي سعيد قال : " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء . وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو مسجدي هذا " رواه مسلم ، وهو قول عمر وابنه وزيد ابن ثابت وغيرهم .
قال ابن كثير : وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية والحديث . لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى ، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى : ' 9 : 107 ' " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " . فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة . وكان الذي بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه ، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلقة في الليلة الشاتية ، فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد ، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة . وجه مناسبة الآية للترجمة : أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله ، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك ، فلا تجوز الصلاة فيه لله . وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت الضحاك الآتى .
قوله : " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ فقالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا " وفي رواية عن جابر وأنس  هو ذاك فعليكموه  رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم .
قوله : " والله يحب المطهرين " قال أبو العالية : إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب . وفيه إثبات صفة المحبة، خلافاً للأشاعرة ونحوهم .

حديث فيمن نذر بأن ينحر ببوانة
قوله :  وعن ثابت بن الضحاك قال : " نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا . قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم . قالوا : لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود ، وإسناده على شرطهما  .
قوله :  عن ثابت بن الضحاك  أي ابن خليفة الأشهلى ، صحابي مشهور ، روى عنه أبو قلابة وغيره . مات سنة أربع وستين .
قوله :  ببوانة  بضم الباء وقيل بفتحها . قال البغوي : موضع في أسفل مكة دون يلملم . قال أبو السعادات : هضبة من وراء ينبع .
قوله :  فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟  فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ، ولو بعد زواله . قال المصنف رحمه الله .
قوله :  فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟  قال شيخ الإسلام رحمه الله : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد ، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك والمراد به هنا الاجماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية . فالعيد يجمع أموراً منها يوم عائد ، كيوم الفطر ويوم الجمعة ، ومنها اجتماع فيه ، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات ، وقد يختص العيد بمكان بعينه ، وقد يكون مطلقاً ، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً . فالزمان كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة "إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيداً " والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس  شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  والمكان كقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبرى عيداً " وقد يكون لفظ العيد إسماً لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً " انتهى .
قال المصنف :  وفيه استفصال المفتى والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله  .
قلت : وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين ، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك .
قوله :  فأوف بنذرك  هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله . أي في محل أعيادهم ، معصية ، لأن قوله  فأوف بنذرك  تعقيب للوصف بالحكم بالفاء ، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم . فيكون سبب الأمر بالوفاء خلوه من هذين الوصفين . فلما قالوا لا قال  أوف بنذرك  وهذا يقتضى أن كون البقعة مكاناً لعيدهم ، أو بها وثن من أوثانهم : مانع من الذبح بها ولو نذره . قال شيخ الإسلام .
وقوله :  فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله  دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع . وما كان من نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء . واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين ؟ هما روايتان عن أحمد .
أحدهما : يجب وهو المذهب . وروى عن ابن مسعود وابن عباس . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " رواه أحمد وأهل السنن واحتج به أحمد واسحق .
ثانيهما : لا كفارة عليه . وروى ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي ، لحديث الباب . ولم يذكر فيه كفارة . وجوابه : أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم . والمطلق يحمل على المقيد .
قوله :  ولا فيما لا يملك ابن آدم قال في شرح المصابيح : يعنى إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال : إن شفى الله مريضي فلله على أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك . فأما إذا التزم في الذمة شيئاً ، بأن قال إن شفى الله مريضي فلله على أن أعتق رقبة ، وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها ، فإذا شفى مريضه ثبت ذلك في ذمته .
قوله :  رواه أبو داود وإسناده على شرطهما  أي البخاري ومسلم .
وأبو داود : اسمه سليمان ابن الأشعث بن اسحق بن بشير بن شداد الأزدى السجستانى صاحب الإمام أحمد ، ومصنف السنن والمراسيل وغيرها ، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين . رحمه الله تعالى .

باب من الشرك النذر لغير الله
قوله : ( باب من الشرك النذر لغير الله تعالى )
أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله . فيكون النذر لغير الله تعالى شركاً في العبادة .
وقوله تعالى : ' 76 : 7 ' " يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً " فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووفاء بما تقرب به إليه .
وقوله تعالى : ' 2 : 270 ' " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه " .
قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعله العاملون من الخيرات ، من النفقات والمنذورات ، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين إبتغاء وجهه . ا هـ .
إذا علمت ذلك : فهذه النذور الواقعة من عباد القبور ، تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم ، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب . كما قال تعالى : ' 6 : 136 ' " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك ، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات . والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة ، وكذلك الناذر للمخلوقات . فإن كلاهما شرك . والشرك ليس له حرمة ، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف وقال في حلفه : واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " .
وقال فيمن نذر سمعة أو نحوها دهناً لتنور به ويقول : إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين ـ : وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة . فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة ، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله . والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام : " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه ، قال تعالى : ' 7 : 138 ' " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم " فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية . وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها ، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها .
وقال الرافعى في شرح المنهاج : وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولى أو شيخ أو على إسم من حلها من الأولياء ، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك ـ وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة تعظيم البقعة والمشهد ، أو الزاوية ، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه ، أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد ، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات ، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء ، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم : إنه استند إليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ، ويقولون إنها تقبل النذر كما يقوله البعض يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض ، أو قدوم غائب أو سلامة مال ، وغير ذلك من أنواع المجازاة ، فهذا النذر على الوجه باطل لا شك فيه ، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقاً . ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء ، فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركاً وتعظيماً ، ظاناً أن ذلك قربة ، فهذا مما لا ريب في بطلانه ، والإيقاد المذكور محرم ، سواء انتفع به هناك منتفع أم لا .
قال الشيخ قاسم الحنفى في شرح درر البحار : النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد ، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه ستره ، ويقول : يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفى مريضي ، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا ، أو من الفضة كذا ، أو من الطعام كذا ، أو من الماء كذا ، أو من الشمع والزيت . فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه ، منها : أنه نذر لمخلوق ، والنذر للمخلوق لا يجوز ، لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق ، ومنها أن المنذور له ميت ، والميت لا يملك ، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله ، واعتقاد ذلك كفر ـ إلى أن قال : إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليها فحرام بإجماع المسلمين.
نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق ، ونقله المرشدى في تذكرته وغيرهما عنه وزاد: قد ابتلى الناس بهذا لا سيما في مولد البدوى.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء : فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله ، فيكون باطلاً . وفي التنزيل ' 6 : 121 ' " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ' 6 : 162 ' " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له " والنذر لغير الله إشراك مع الله ، كالذبح لغيره .

حديث من نذر أن يعصي الله فلا يعصه
قوله : عن عائشة هي أم المؤمنين ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وابنة الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة سبع سنين ، ودخل بها ابنة تسع وهي أفقة النساء مطلقاً ، وهي أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف . ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح رضي الله عنها .
قوله : من نذر أن يطيع الله فليطعه أي فليفعل ما نذره من طاعة الله وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه ، كإن شفى الله مريضى فعلى أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه ، إن حصل له ما علق نذره على حصوله . وحكى عن أبي حنيفة : أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به .
قوله : ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه زاد الطحاوى :  وليكفر عن يمينه  وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية .
قال الحافظ : اتفقوا على تحريم النذر في المعصية ، وتنازعوا : هل ينعقد موجباً للكفارة أم لا ؟ وتقدم . وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح ، كما هو مذهب أحمد وغيره ، يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأحمد والترمذي عن بريدة :  أن امرأة قالت : "يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف ، فقال أوفي بنذرك" وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد ، فيخير بين فعله وكفارة يمين ، لحديث عمران بن حصين مرفوعاً " لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي ، فإن نذر مكروهاً كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله .

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
قوله : ( باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله )
 الاستعاذة  الالتجاء والاعتصام ، ولهذا يسمى المستعاذ به : معاذاً وملجأ فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه ، إلى ربه ومالكه ، واعتصم واستجار به والتجأ إليه ، وهذا تمثيل ، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله ، والاعتصام به ، والانطراح بين يدى الرب ، والافتقار ، والتذليل له ، أمر لا تحيط به العبارة . قاله ابن القيم رحمه الله .
وقال ابن كثير : الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذى شر . والعياذ يكون لدفع الشر . واللياذ لطلب الخير . انتهى .
قلت : وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده ، كما قال تعالى : ' 41 : 36 ' " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله : " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة ، فمن صرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله جعله شريكاً لله في عبادته ونازع الرب في إلهيته كما أن من صلى لله صلى لغيره يكون عابداً لغير الله ، ولا فرق ، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى .
قوله : وقول الله تعالى : ' 72 : 6 ' " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً "  .
قال ابن كثير : أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا ، أي إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشئ يسوءهم ، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً ، أي خوفاً وإرهاباً وذعراً ، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم ـ إلى أن قال ـ قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم رهقاً أي خوفاً . وقال العوفي عن ابن عباس  فزادوهم رهقاً  أي إثماً ، وكذا قال قتادة . ا هـ .
وذاك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد كبير الجن ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله .
وقال ملا على قاري الحنفي : لا يجوز الاستعاذة بالجن . فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال : قال تعالى '6: 128' " ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " فاستمتاع الإنسى بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشئ من المغيبات ، واستمتاع الجنى بالإنسى تعظيمه إياه ، وإستعاذته به وخضوعه له . انتهى ملخصاً .
قال المصنف : وفيه أن كون الشئ يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك  .

ما يقول من نزل بمكان يخافه
قوله : وعن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه مسلم  .
هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية ، يقال لها أم شريك ، ويقال إنها هي الواهبة وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون .
قال ابن عبد البر : وكانت صالحة فاضلة .
قوله :  أعوذ بكلمات الله التامات  شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الإستعاذة بالجن ، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته .
قال القرطبي  : قيل : معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب ، كما يلحق كلام البشر . وقيل معناه : معناه الشافية الكافية . وقيل الكلمات هنا هي القرآن . فإن الله أخبر عنه بأنه : ' 10 : 57 و 17 : 82 و 41 : 44 ' " هدى وشفاء " وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى . ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه ، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في إلتجائه إليه ، ويتوكل في ذلك عليه ، ويحضر ذلك في قلبه ، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الإستعاذة بمخلوق . وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق . قالوا : لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك ، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك .
 وقال ابن القيم : ومن ذبح للشيطان ودعاه ، واستعاذ به وتقرب إليه بما يجب فقد عبده ، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداماً ، وصدق ، هو استخدام من الشيطان له ، فيصير من خدم الشيطان وعابديه ، وبذلك يخدمه الشيطان ، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عباده ، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به ا هـ .
 قوله : " من شر ما خلق " قال ابن القيم رحمه الله : أي من كل شر في أي مخلوق قام بن الشر من حيوان أو غيره ، إنسياً أو جنياً ، أو هامة أو دابة ، أو ريحاً أو صاعقة ، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة .
 و ما ههنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي ، بل المراد التقييدي الوصفي ، والمعنى : من كل شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله ، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر ، والشر يقال على شيئين : على الألم ، وعلى ما يفضى إليه .
 قوله :  لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك قال القرطبي : هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة ، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شئ إلى أن تركته ، فلدغتني عقرب بالمهدية ليلاً ، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات .

باب من الشرك الاستعانة بغير الله ودعاء غير الله
قوله : ( باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره )
قال شيخ الإسلام رحمه الله : الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب ، والدعاء أعم من الاستغاثة ، لأنه يكون من المكروب وغيره . فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص . فبينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة ، فكل استغاثة دعاء ، وليس كل دعاء استغاثة .
وقوله :  أو يدعو غيره  اعلم أن الدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة ، ويراد به في القرآن هذا تارة ، وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر ، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحداً من دونه ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً ، كقوله تعالى : ' 5 : 76 ' " قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم " وقوله : ' 6 : 71 ' " قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين " وقال : ' 10 : 106 ' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين " .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة ، قال الله تعالى : ' 7 : 55 ' " ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين " وقال تعالى : ' 6 : 40 ، 41 ' " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون " وقال تعالى : ' 13 : 14 ' " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر ، وهو يتضمن دعاء العبادة ، لأن السائل أخلص سؤاله لله ، وذلك من أفضل العبادات ، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه ، طالب من الله في المعنى ، فيكون داعياً عابداً .
فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، وقد قال الله تعالى عن خليله : ' 19 ، 48 ، 49 ' " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا " فصار الدعاء من أنواع العبادة ، فإن قوله : " وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " كقول زكريا : ' 19 : 4 ' " إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا " . وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله : ' 7 : 55 ، 56 ' " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين " وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة ، فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل .
وضابط هذا : أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة ، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث به رسوله من قوله : ' 39 : 14 ' " قل الله أعبد مخلصاً له ديني " وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

تعظيم رسول الله غير الغلو فيه
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية : فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة ، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها : الغلو في بعض المشايخ ، بل الغلو في علي بن أبي طالب ، بل الغلو في المسيح ، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول : يا سيدي فلان انصرني أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال . فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل . فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، ليعبد وحده لا شريك له ، ولا يدعى معه إله آخر . والذي يدعون مع الله آلهة آخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام ، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات ، وإنما كانوا يعبدونهم ، أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم ، يقولون : ' 39 : 3 ' " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ' 10 : 101 ' " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه ، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة . ا هـ .
وقال أيضاً : من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً .
نقله عنه صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم . وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط .
وقال ابن القيم رحمه الله : ومن أنواعه ـ يعني الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم . وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى .
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكى في قوله :  إن المبالغة في تعظيمه ـ أي الرسول صلى الله عليه وسلم ـ واجبة  .
إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظمياً ، حتى الحج إلى قبره والسجود له ، والطواف به ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ، وأنه يعطى ويمنع لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع ، وأنه يقضى حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين ، وأنه يشفع فيمن يشاء ، ويدخل الجنة من يشاء ـ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك ، وانسلاخ من جملة الدين .
وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية  : قال علماؤنا : من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم : يكفر .

الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفاً
وقال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله ـ في كتابه الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة : هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم ، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات ، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات ، مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا: منهم أبدان ونقباء ، وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة ، وأربعون وأربعة ، والقطب هو الغوث للناس ، وعليه المدار بلا التباس ، وجوزوا لهم الذبائح والنذور ، وأثبتوا فيهما الأجور ، قال : وهذا كلام فيه تفريط وإفراد ، بل فيه الهلاك الأبدى والعذاب السرمدى، لما فيه من روائح الشرك المحقق ، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة . وفي التنزيل : ' 4 : 114 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " .
ثم قال : فأما قولهم : إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ، فيرده قوله تعالى : ' 27 : 61 ـ 64 ' " أإله مع الله " ' 7 : 54 ' " ألا له الخلق والأمر " ' 3 : 189 و 5 : 19 و 20 : 123 و 24 : 42 و 42 : 49 و 45 : 27 و 48 : 14 ' " لله ملك السموات والأرض " ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ، ولا شئ لغيره في شئ ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً ، وإماتة وخلقاً . وتمدح الرب تبار وتعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله : ' 35 : 3 ' " هل من خالق غير الله ؟ " ' 35 : 40 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " وذكر آيات في هذا المعنى .
ثم قوله : فقوله في الآيات كلها من دونه أي من غيره . فإنه هام يدخل فيه من اعتقدته ، ومن ولى وشيطان تستمده ، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره ؟ إلى أن قال : إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم ، إلى أن قال : وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة . قال جل ذكره : ' 29 : 30 ' " إنك ميت وإنهم ميتون " ' 39 : 42 ' " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " ' 3 : 185 و 21 : 34 و 29 : 57 ' " كل نفس ذائقة الموت " ' 74 : 38 ' " كل نفس بما كسبت رهينة " وفي الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت ، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان ، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره . فإذا عجز عن حركة نفسه . فكيف يتصرف في غيره ؟ فلله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون : إن الأرواح مطلقة متصرفة ' 2 : 140 ' " قل أأنتم أعلم أم الله ؟ " .
قال : وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات ، فهو من المغالطة ، لأن الكرامة شئ من عند الله يكرم به أولياءه ، لا قصد لهم فيه ولا تحدى ، ولا قدرة ولا علم ، كما في قصة مريم بنت عمران ، وأسيد بن حضير ، وأبي مسلم الخولاني .
قال : وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد ، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره : ' 27 : 62 ' " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ؟ " ' 6 : 63 ، 64 ' " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون " وذكر آيات في هذا المعنى ، ثم قال : فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره ، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين ، وأنه المستغاث لذلك كله ، وأنه القادر على دفع الضر ، القادر على إيصال الخير . فهو المنفرد بذلك ، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبى وولي .
قال : والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال ، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه ، كقولهم : يا لزيد ، يا للمسلمين ، بحسب الأفعال الظاهرة .
وأما الإستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد ، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره .
قال : وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية والجهال . وينادونهم ويستنجدون بهم . فهذا من المنكرات . فمن اعتقد أن لغير الله من نبى أو ولى أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وغيره على وجه الإمداد منه : أشرك مع الله ، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره .
قال : وأما ما قالوا إن منهم أبدالاً ونقباء وأوتاداً ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس . فهذا من موضوعات إفكهم . كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين ، وابن الجوزى وابن تيمية . انتهى باختصار .
والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء . فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب . والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولاً بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن ، المتسجيون لداعى الحق والإيمان . والله المستعان وعليه التكلان .

" ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك " إلخ
قال : وقوله تعالى : ' 10 : 106 ' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين "  .
قال ابن عطية : معناه قيل لي ولا تدع فهو عطف على أقم وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم . إذا كانت هكذا فأحرى أن يحذر من ذلك غيره . والخطاب خرج مخرج الخصوص وهو عام للأمة .
قال أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية : يقول تعالى ذكره : ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا ، يعنى بذلك الآلهة والأصنام ، يقول لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها فإنها لا تنفع ولا تضر . فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله  فإنك إذاً من الظالمين  يكون من المشركين بالله الظالم لنفسه .
قلت : وهذه الآية لها نظائر كقوله : ' 26 : 213 ' " فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين " وقوله: ' 28 : 88 ' " ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو " ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلهاً ، والإلهية حق لله لا يصلح منها شئ لغيره . ولهذا قال : " لا إله إلا هو " كما قال تعالى : ' 22 : 62 ' " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، كما قال تعالى : ' 98 : 5 ' " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " والدين : كل ما يدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة . وفسره ابن جرير في تفسيره بالدعاء ، وهو فرد من أفراد العبادة ، على عادة السلف في التفسير ، يفسرون الآية ببعض أفراد معناها ، فمن صرف منها شيئاً لقبر أو صنم أو وثن أو غير ذلك فقد اتخذه معبوداً وجعله شريكاً لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو ، كما قال تعالى : '23 : 117 ' " ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال .
وقوله : '10 : 107 ' " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله " فإنه المنفرد بالملك والقهر ، والعطاء والمنع ، والضر والنفع ، دون كل ما سواه . فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده ، المعبود وحده ، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع . ولا يملك ذلك ولا شيئاً منه غيره تعالى ، فهو المستحق للعبادة وحده ، دون من لا يضر ولا ينفع .
وقوله تعالى : ' 39 : 38 ' " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون " وقال : ' 35 : 2 ' " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية ، ونصب الأدلة على ذلك . فاعتقد عباد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى ، واتخذوهم شركاء لله في استجلاب المنافع ودفع المكاره ، بسؤالهم والالتجاء بالرغبة والرهبة والتضرع ، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى ، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته . وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله . وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك ، لا شريك لك* إلا شريكاً هو لك * تملكه وما ملك * .
وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهد ما هو أعظم من ذلك . فجعلوا لهم نصيباً من التصرف والتدبير ، وجعلوهم معاذاً لهم وملاذاً في الرغبات والرهبات " سبحان الله عما يشركون " .
وقوله : " وهو الغفور الرحيم " أي لمن تاب إليه .
قال : وقوله تعالى : ' 29 : 17 ' " فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون" يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق منه وحده دون ما سواه ممن لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً . فتقديم الظرف يفيد الاختصاص . وقوله :  واعبدوه  من عطف العام على الخاص ، فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها .
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى :  فابتغوا  أي فاطلبوا  عند الله الرزق  أي لا عند غيره . لأنه المالك له ، وغيره لا يملك شيئاً من ذلك واعبدوه أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له واشكروا له أي على ما أنعم عليكم  إليه ترجعون أي يوم القيامة فيجازى كل عامل بعمله .

" إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون " إلخ

" ومن أضل ممن يدعو من دون الله " إلخ
قال : :  وقوله ' 46 : 5 ، 6 ' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين "
نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره . وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة . والآية تعم على كل من يدعى من دون الله ، كما قال تعالى : ' 17 : 56 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً " وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب وأنه غافل عن داعيه " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله .
قال أبو جعفر بن جرير في قوله : " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً " يقول تعالى ذكره : وإذا جمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء ، لأنهم يتبرأون منهم " وكانوا بعبادتهم كافرين " يقول تعالى ذكره : وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين ، لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم ولا شعرنا بعبادتها إيانا . تبرأنا منهم يا ربنا . كما قال تعالى : ' 25 : 17 ، 18 ' " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " .
قال ابن جرير  : " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله " من الملائكة والإنس والجن وساق بسنده عن مجاهد قال : عيسى وعزير والملائكة .
ثم قال : يقول تعالى ذكره قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى : تنزيهاً لك يا ربنا وتبرئةً مما أضاف إليك هؤلاء المشركون " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " نواليهم " أنت ولينا من دونهم " انتهى .
قلت : وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء : في السؤال والطلب ، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم : الصلاة لغة الدعاء ، وقد قال تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " الآيتين وقال : ' 6 : 63 ' " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية " وقال : ' 10 : 12 ' " وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً " وقال : ' 41 : 51 ' " وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " وقال : ' 41 : 49 ' "لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " الآية . وقال : ' 8 : 9 ' " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم " الآية .
وفي حديث أنس مرفوعاً : " الدعاء مخ العبادة " وفي الحديث الصحيح : " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " وفي آخر : " من يسأل الله يغضب عليه " وحديث : " ليس شئ أكرم على الله من الدعاء " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه . وقوله : " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض " رواه الحاكم وصححه . وقوله : " سلوا الله كل شئ حتى الشسع إذا انقطع " الحديث . وقال ابن عباس رضي الله عنهما :  أفضل العبادة الدعاء  وقرأ : ' 40 :60 ' "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " الآية . رواه ابن المنذر والحاكم وصححه . وحديث : " اللهم إني أسألك بأن لله الحمد لا إله إلا أنت المنان..." الحديث وحديث : " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ، في الدعاء الذي هو السؤال والطلب ، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفاً وخلفاً .
وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان : دعاء مسألة ودعاء عبادة . وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر . فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلى والمتقرب بالنسك وغيره طالباً في المعنى . فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار ، وقد شرح الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصح الصلاة إلا به ، كما في الفاتحة والسجدتين وفي التشهد ، وذلك عبادة كالركوع والسجود . فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد.
ومما يتبين هذا المقام ويزيد إيضاحاً . قوله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى : ' 17 : 110 ' " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة . قالوا : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرة يا الله ومرة يا رحمن فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية . ذكر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقيل : إن هذا الدعاء هنا بمعنى التسمية ، والمعنى : أي سميتموه به من أسماء الله تعالى ، إما الله وإما الرحمن فله الأسماء الحسنى . وهذا من لوازم المعنى في الآية . وليس هو عين المراد . بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن . وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء .
ثم قال : إذا عرف هذا فقوله : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، ولهذا أمر بإخفائه . قال الحسن :  بين دعاء السر ودعاء العلانية سبعون ضعيفاً . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم  . وقوله تعالى : ' 2 : 186 ' " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " يتناول نوعى الدعاء ، وبكل منهما فسرت الآية قيل : أعطيه إذا سألني ، وقيل أثيبه إذا عبدني ، وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، بل هذا استعمال في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جمعياً . وهذا يأتي في مسألة الصلاة وإنها نقل عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية ، واستعملت في هذه العبادة مجازاً للعلاقة بينهما وبين المسمى اللغوي وهي باقية على الوضع اللغوي ، وضم إليها أركان وشرائط . فعلى ما قررناه لا حاجة إلى شئ من ذلك ، فإن المصلى من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء : إما عبادة وثناء ، أو دعاء طلب ومسألة ، وهو في الحالتين داع . ا هـ . ملخصاً من البدائع .

" أمن يجيب المضطر إذا دعاه "
قال :  وقوله ' 27 : 62 ' " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون "  بين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلى الله وحده فذكر ذلك سبحانه محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه ، ولهذا قال " أإله مع الله ؟ " يعنى يفعل ذلك . فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وحده . وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله " أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " ولا حقتها إلى قوله : " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " .
فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه : من قصر العبادة جمعيها عليه ، كما في فاتحة الكتاب : " إياك نعبد وإياك نستعين " .
قال أبو جعفر بن جرير : قوله : " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء "ـ إلى قوله ـ "قليلاً ما تذكرون " يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون بالله خير ، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاء ويكشف السوء النازل به عنه ؟ وقوله : " ويجعلكم خلفاء الأرض " يقول : يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم ، وقوله : " أإله مع الله ؟ " أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم هذه النعم ؟ وقوله : " قليلاً ما تذكرون " يقول تذكراً قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون ، وتعتبرون ححج الله عليكم يسيراً . فلذلك أشركوا بالله وغيره في عبادته . ا هـ .

قوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغاث بي
قوله : وروى الطبراني "أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين . فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله "  .
الطبراني : هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني ، صاحب المعاجم  الثلاثة وغيرها . روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديرى وخلق كثير . مات سنة ستين وثلثمائة . روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه .
قوله : أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين  لم أقف على اسم هذا المنافق .
قلت : هو عبد الله بن أبي كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته .
قوله :  فقال بعضهم  أي الصحابة رضي الله عنهم ، هو أبو بكر رضي الله عنه .
قوله :  قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق  لأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على كف أذاه .
قوله  إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله  فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بمن دونه . كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه ، وإن كان مما يقدر عليه في حياته ، حماية لجناب التوحيد ، وسداً لذرائع الشرك وأدباً وتواضعاً لربه ، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال . فإذا كان فيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم في حياته ، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ويطلب منه أموراً لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كالبوصيري والبرعي وغيرهم ، من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء الذي له الخلق والأمر وحده ، وله الملك وحده ، لا إله غيره ولا رب سواه . قال تعالى : ( 7 : 187 ) " قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله " في مواضع من القرآن ( 72 : 21 ) " قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً " فأعرض هؤلاء عن القرآن واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات ، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير . فاعتقدوا الشرك بالله ديناً ، والهدى ضلالاً ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى ، فعاندوا أهل التوحيد وبدعوا أهل التجريد ، فالله المستعان .

باب " أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون "
قوله : باب قول الله تعالى
' 7 : 119 ، 120 ' " أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون " .
قوله " أيشركون " أي في العبادة . قال المفسرون : في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئاً وهو مخلوق ، والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها ، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه ؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله ، وهذا وصف كل مخلوق ، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين . وأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول " اللهم أنت عضدي ونصيري ، بك أحول وبك أصول ، وبك أقاتل " وهذا كقوله ' 25 : 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " وقوله ' 7 : 188 ' " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " وقوله ' 72 : 21 ـ 23 ' " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته " .
فكفى بهذه الآيات برهاناً على بطلان دعوة غير الله كائناً من كان . فإن كان نبياً أو صالحاً فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له ، والرضاء به رباً ومعبوداً ، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبوداً مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى : ' 28 : 88 ' " ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " وقال ' 12 : 40 ' " إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده ، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره ، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله ، وأنزل به كتبه ، ورضيه لعباده ، وهو دين الإسلام ، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام قال " يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " الحديث .

" والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير "
وقوله تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو ، وهي الملك ، وسماع الدعاء ، والقدرة على استجابته ، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته فكيف إذا عدمت بالكلية ؟ فنفى عنهم الملك بقوله " ما يملكون من قطمير " قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وعطاء والحسن وقتادة : القطمير : اللفافة التي تكون على نواة التمر  كما قال تعالى : ' 16 : 73 ' " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون " وقال ' 34 : 22 ، 23 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله " إن تدعوهم لا يسمعوا " لأنه ما بين ميت وغائب عنهم ، مشتغل بما خلق له ، مسخر بما أمر به كالملائكة ، ثم قال " ولو سمعوا ما استجابوا لكم " لأن ذلك ليس لهم ، فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم ، لا استقلالاً ولا واسطة ، كما تقدم بعض أدلة ذلك . وقوله " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فتبين بهذا أن دعوة غير الله شرك . وقال تعالى : ' 19 : 81 ،82 ' " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقوله تعالى : " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " قال ابن كثير : يتبرأون منكم ، كما قال تعالى : ' 46 : 5 ، 6 ' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " .
قال : وقوله " ولا ينبئك مثل خبير " أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها . قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى . فإنه أخبر بالواقع لا محالة .
قلت : والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا : تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها ، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادى عابده يوم القيامة ويتبرأ منه ، كما قال تعالى : ' 10 : 28 ـ 30 ' " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال : قال مجاهد " إن كنا عن عبادتكم لغافلين " قال يقول ذلك كل شئ كان يعبد من دون الله .
فالكيس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل ، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ماسواه ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفعاً ، فضلاً عن غيره .
قوله : في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال " شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته . فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت الآية ' 3 : 128 ' " ليس لك من الأمر شيء "" .
قوله : في الصحيح أي الصحيحين . علقه البخاري . قال وقال حميد وثابت عن أنس . ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس . ووصله مسلم عن ثابت عن أنس . وقال ابن إسحاق في  المغازي . حدثنا حميد الطويل عن أنس قال  كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله الآية  .
قوله :  شج النبي صلى الله عليه وسلم  قال أبو السعادات : الشج في الرأس خاصة في الأصل ، وهو أن يضربه بشئ فيجرحه فيه ويشقه ، ثم استعمل في غيره من الأعضاء ، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته العليا وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه ، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته ، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك ابن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده . فقال له :  لن تمسك النار  .
قال القرطبي : والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء ـ وهي كل سن بعد ثنية .
قال النووي  رحمه الله : وللإنسان أربع رباعيات .
قال الحافظ  : والمراد أنها كسرت ، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها .
قال النووي  : وفي هذا وقوع الأسقام والإبتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب . ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم .
قال القاضي  : وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون . ولا يفتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم انتهى .
قلت : يعني من الغلو والعبادة .
قوله : يوم أحد هو شرقي المدينة . قال صلى الله عليه وسلم " أحد جبل يحبنا ونحبه " وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة . فأضيفت إليه .
قوله :  كيف يفلح قوم شجوا نبيهم  زاد مسلم مسلم  كسروا رباعيته وأدموا وجهه  .

" ليس لك من الأمر شيء "
قوله : فأنزل الله : " ليس لك من الأمر شيء " قال ابن عطية : كأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فقيل له بسبب ذلك " ليس لك من الأمر شيء " أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ، ودم على الدعاء لربك .
وقال ابن إسحاق : " ليس لك من الأمر شيء " في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم .
قوله :  وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : ـ  اللهم العن فلاناً وفلاناً  بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد . فأنزل الله " ليس لك من الأمر شيء " وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام فنزلت " ليس لك من الأمر شيء " .
قوله :  وفيه  أي في صحيح البخاري . رواه النسائي .
قوله :  عن ابن عمر  هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، صحابي جليل ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح ، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها .
قوله :  أنه سمع رسول الله  هذا القنوت على هؤلاء بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد .
قوله :  اللهم العن فلاناً وفلاناً  قال أبو السعادات : أصل اللعن والطرد والإبعاد من الله . ومن الخلق السب والدعاء وتقدم كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
قوله :  فلاناً وفلاناً  يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ، كما بينه في الرواية الآتية .
وفيه : جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة ، وأن ذلك لا يضر في الصلاة .
قوله :  بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده  قال أبو السعادات : أي أجاب حمده وتقبيله. وقال السهيلي: مفعول سمع محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع ، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد ، وهو الاستجابة لمن حمده .
وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه :  سمع الله لمن حمده  باللام المتضمنة معنى استجاب له . ولا حذف وإنما هو مضمن .
قوله :  ربنا لك الحمد  في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو . قال ابن دقيق العيد : كأن إثباتها دال على معنى زائد ، لأنه يكون التقدير : ربنا استجب ولك الحمد . فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر .
قال شيخ الإسلام : والحمد ضد الذم ، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له . كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له .
وكذا قال ابن القيم : وفرق بينه وبين المدح بأن الأخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبار مجرداً عن حب وإرادة ، أو يكون مقروناً بحبه وإرادته . فإن كان الأول فهو المدح ، وإن كان الثاني فهو الحمد . فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه . ولهذا كان خبراً يتضمن الإنشاء بخلاف المدح ، فإنه خبر مجرد . فالقائل إذا قال :  الحمد لله  أو قال  ربنا ولك الحمد  تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى بإسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة ، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه ، وهو الحميد المجيد .
وفيه : التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد ، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة ، وقالا : يقتصر على  سمع الله لمن حمده  .
قوله :  وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام  .
وذلك لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد ، هم وأبو سفيان بن حرب ، فما استجيب له صلى الله عليه وسلم فيهم بل أنزل الله " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم " فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم . وفي كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته .
وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين . بل في الواغيت من أنهم ينتفعون من دعاهم ، ويمنعون من لاذ بحماهم . فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب . وذلك عدله سبحانه ، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وبه الحول والقوة .
قوله وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه ' 26 : 214 ' " وأنذر عشيرتك الأقربين " قال " يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئاً . يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً . يا صفية عمة رسول الله ، لا أغنى عنك من الله شيئاً . يا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئاً " .
قوله :  وفيه  أي وفي صحيح البخاري .
قوله : عن أبي هريرة  اختلف في اسمه .  وصحيح النووي  أن اسمه عبد الرحمن ابن صخر ، كما رواه  الحاكم  في المستدرك  عن أبي هريرة قال :  كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن  وروى الدولابى بإسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عبد الله  وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم ، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة .
قوله :  قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح  من رواية ابن عباس  صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا  .

" وأنذر عشيرتك الأقربين "
قوله :  حين أنزل عليه " وأنذر عشيرتك الأقربين " عشيرة الرجل : هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته . لأنهم أحق الناس ببرك وإحسانك الديني والدنيوي ، كما قال تعالى : ' 66 : 5 ' " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " وقد أمره الله تعالى أيضاً بالنذارة العامة ، كما قال ' 36 : 6 ' " لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " '14 : 44 ) " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب " .
قوله :  يا معشر قريش  المعشر الجماعة .
قوله :  أو كلمة نحوها  هو بنصب  كلمة  عطف على ما قبله .
قوله :  اشتروا أنفسكم  أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به والإنتهاء عما نهى عنه . فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب ، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب .
قوله : " ما أغني عنكم من الله من شيء " فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين ، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه ، أو يدفعوا عنه ، فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى ، وأقام نبيه صلى الله عليه وسلم بالإنذار عنه ، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله ' 39 : 3 ' " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ' 10 : 18 ' " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك ، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى . وفي صحيح البخاري  يا بني عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئاً  .
قوله :  يا عباس بن عبد المطلب  بنصب بن ويجوز في عباس الرفع النصب . وكذا في قوله  يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت محمد .
قوله :  سليني من مالي ما شئت  بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح .
وفيه : أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا . وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى ، فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد ، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به ، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك ، فغيرهم أولى وأحرى . وفي قصة عمه أبي طالب معتبر .
فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات ، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ، فضلاً عن غيرهم _ يتبين لك أنهم ليسو على شئ ' 7 : 30 ' " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين ، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين ، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين ، لا باتخاذهم أنداداً من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكاً بالله ، وعبادة لغير الله ، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده ، كما قال تعالى : ' 5 : 116 ، 117 ' " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلام سبق : ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمر به وهو محض التوحيد فقال " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم " ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم ، وأنه بعد الوفاة لا إطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم ا هـ .
قلت : ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه ، ودعوا الناس إليه ، وفارقوا فيه إلا من آمن ، فكيف يقال لمن دان بدينهم ، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده : إنه قد تنقصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه ، واتبع فيه رسله عليهم السلام ، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية . وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين ؟ .
والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة ، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرأوا من كل مشرك ويكفروا به ، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم ' 6 : 109 ' " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " .

باب قول الله " حتى إذا فزع عن قلوبهم "
قوله : باب  قول الله تعالى ' 34 : 23 ' " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير "  .
قوله : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " أي زال الفزع عنها . قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمى والشعبي والحسن وغيرهم .
وقال ابن جرير : قال بعضهم : الذين فزع عن قلوبهم : الملائكة قالوا : وإنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي وقال ابن عطية : في الكلام حذف ما يدل عليه الظاهر . كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم ، بل هم عبدة مسلمون لله أبداً ، يعني منقادون ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره .
قال ابن كثير : وهو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار .
وقال أبو حيان : تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة . قال : وبهذا المعنى ـ من ذكر الملائكة في صدر الآية ـ تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها .
قوله : " قالوا ماذا قال ربكم ؟ " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا ؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا : ماذا خلق ؟ ؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة .
ومثله الحديث  ماذا قال ربنا يا جبريل  وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير .
قوله : " قالوا الحق " أي قال الله الحق . وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون ، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق .
قوله : " وهو العلي الكبير " علو القدر وعلو القهر وعلو الذات ، فله العلو الكامل من جميع الوجوه ، كما قال عبدالله بن المبارك ـ لما قيل له : بما نعرف ربنا ؟ قال  بأنه على عرشه بائن من خلقه  تمسكاً منه بالقرآن لقوله تعالى : '20 : 5 ' " الرحمن على العرش استوى " ' 25 : 59 ' " ثم استوى على العرش الرحمن " في سبعة مواضع من القرآن ' 7 : 53 و 14 : 2 و 32 : 4 و 57 : 4 ' .
قوله :  الكبير  أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى .
قوله :  في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض . وصفة سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى أن تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل من يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا اليوم كذا وكذا : وكذا و كذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " .
قوله :  في الصحيح  أي صحيح البخاري .

حديث أبي هريرة : إذا قضى الله الأمر في السماء إلخ
قوله : إذا قضي الله الأمر في السماء  أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراد ، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصة كجر السلسلة على الصفوان " .
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال :  لما أوحي الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي ، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي . فما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله . فقالوا : الحق . وعلموا أن الله لا يقول إلا حقاً  .
قوله :  ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله  أي لقول الله تعالى . قال الحافظ : خضعاناً بفتحتين من الخضوع . وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه . وهو مصدر بمعنى خاضعين .
قوله :  كأنه سلسلة على صفوان  أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس .
قوله :  ينفذهم ذلك  هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة ذلك أي القول ، والضمير في ينفذهم للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه . وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا  وعند أبي داود وغيره مرفوعاً  "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث .
قوله :  حتى إذا فزع عن قلوبهم  تقدم معناه .
قوله :  قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق  أي قالوا : قال الله الحق ، علموا أن الله لا يقول إلا الحق .
قوله : فيسمعها مسترق السمع  أي يسمع الكلمة التي قضاها الله ، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضاً . وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعاً : " إن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء ، فتسترق الشياطين السمع ، فتوجه إلى الكهان" .
قوله :  ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه  أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض .
وسفيان هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ، ثقة حافظ ، فقيه ، إمام حجة ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة .
قوله : فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء . قوله : وبدد أي فرق بين أصابعه .
قوله :  فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته  أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته ، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن .
قوله :  فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها  الشهاب هو النجم الذي يرمي به ، أي ربما أدرك الشهاب المسترق ، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث . لما روى أحمد وغيره ـ والسياق له في المسند من طريق معمر ـ : أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه ـ قال عبد الرزاق : من الأنصار ـ قال : فرمى بنجم عظيم ، فاستنار ، قال : ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية ؟ قال : كنا نقول : لعله يولد عظيم أو يموت ، قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال نعم ، ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم قال : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا . ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون  . قال عبد الله : قال أبي : قال عبد الرزاق  ويخطف الجن ويرمون  وفي رواية له  لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون  .
قوله :  فيكذب معها مائة كذبة  أي الكاهن أو الساحر .
و  كذبة  بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة .
قوله :  أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : وكذا وكذا ؟  هكذا في نسخة بخط المصنف ، وكالذي في صحيح البخاري سواء .
قال المصنف :  وفيه قبول النفوس للباطل ، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة ؟  .
وفيه : أن الشئ إذا كان فيه شئ من الحق فلا يدل على أنه حق كله ، فكثيراً ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم ، قال تعالى : ' 2 : 42 ' "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " .
وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها : إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته ، وأنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة ، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفاً وخلفاً . خلافاً للأشاعرة والجهمية ، ونفاة المعتزلة . فإياك أن تلتفت إلى مازخرفه أهل التعطيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
 حديث إذا أراد الله أن يوحي يوحي بالأمر إلخ
قوله :  وعن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة خوفاً من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل"  .
هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره .
النواس بن سمعان ، بكسر السين ، بن خالد الكلابي ، ويقال : الأنصاري صحابي . ويقال : إن أباه صحابي أيضاً .
قوله :  إذا أراد الله أن يوحي بالأمر  إلى آخره . فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي . وهذا من حجة أهل السنة على النفاة : لم يزل الله متكلماً إذا شاء .
قوله :  أخذت السموات منه رجفة  السموات مفعول مقدم ، والفاعل رجفة أي أصاب السموات من كلامه تعالى رجفة ، أي ارتجفت . وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى ، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة . قال  إذا قضى الله أمراً تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال ، وخرت الملائكة كلهم سجداً  .
قوله :  أو قال رعدة شديدة  شك من الراوي . هل قال النبي صلى الله عليه وسلم رجفة ، أو قال رعدة . والراء مفتوحة فيهما .
قوله :  خوفاً من الله عز وجل  وهذا ظاهر في أن السموات تخاف الله ، بما يجعل تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها . وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى : ' 17 : 44 ' " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " وقال تعالى : ' 19 : 90 ' " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً " وقال تعالى : ' 2 : 74 ' " وإن منها لما يهبط من خشية الله " وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة ، مستدلاً بهذه الآيات وما في معناها .
وفي البخاري عن ابن مسعود قال  كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل  وفي حديث أبي ذر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات ، فسمع لهن تسبيح ..." الحديث وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر . ومثل هذا كثير .
قوله :  صعقوا وخروا لله سجداً  الصعوق هو الغشي ، ومعه السجود .
قوله :  فيكون أول من يرفع رأسه جبريل بنصب أول خبر يكون مقدم على اسمها . ويجوز العكس . ومعنى جبريل : عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن على ابن الحسين قال : كان اسم جبريل : عبد الله ، واسم ميكائيل عبيد الله ، وإسرافيل عبد الرحمن . وكل شئ رجع إلى  ايل  فهو معبد لله عز وجل . وفيه فضيلة جبريل عليه السلام . كما قال تعالى : ' 81 : 19 - 21 ' " إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين " .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم . وقال أبو صالح في الآية  جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نور بغير إذن  .
ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال  رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم  فإذا كان هذا عظم هذه ـ المخلوقات فخالفها أعظم وأجل وأكبر . فكيف يسوى به غيره في العبادة : دعاء وخوفاً ورجاء وتوكلاً وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره ؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى ، وقد قال تعالى : ' 21 : 26 _ 29 ' " بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " .
قوله :  ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض  وهذا تمام الحديث .
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفاً منه ومهابة وترجف منه المخلوقات ، الكامل في ذاته وصفاته ، وعلمه وقدرته وملكه وعزه ، وغناه عن جميع خلقه ، وافتقارهم جميعاً إليه ، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته ، لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم ، فكيف يجعل المربوب رباً ، والعبد معبوداً ؟ أين ذهبت عقول المشركين ؟ سبحان الله عما يشركون .
وقال تعالى : ' 19 : 93 ، 94 ' " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً " من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله . انتهى من شرح سنن ابن ماجه .
 باب الشفاعة
قوله : ( باب الشفاعة )
أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه . وحقيقة ما دل القرآن على إثباته .
قوله : وقول الله عز وجل : ' 6 : 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا " المخافة والتحذير منها .
قوله : به قال ابن عباس  بالقرآن  " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون وعن الفضيل بن عياض  ليس كل خلقه عاتب ، إنما عاتب الذين يعقلون ، فقال : " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية  .
قوله : " ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " قال الزجاج : موضع  ليس نصب على الحال ، كأنه قال : متخلين من كل ولي وشفيع . والعامل فيه يخافون .
قوله :  لعلهم يتقون أي فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة .
وقوله : ' 39 : 44 ' " قل لله الشفاعة جميعاً " وقبلها " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " وهذه كقوله تعالى : ' 10 : 18 ' " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع ، وأن اتخاذهم شفعاء شرك ، يتنزه الرب تعالى عنه . وقد قال تعالى : ' 46 : 28 ' " فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون " فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم . إن ذلك منهم إفك وافتراء .
وقوله تعالى : " قل لله الشفاعة جميعاً " أي هو مالكها ، فليس لمن تطلب منه شئ منها ، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه ، لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلى لله .
قال البيضاوي : لعله رد لما عسى أن يجيبوا به ، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون .
وقوله تعالى : " له ملك السموات والأرض " تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه ، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " ' 21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " .
قال 'ابن جرير ' : نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلى ليقربونا إلى الله زلفى قال الله تعالى : " له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون " .
قال : وقوله ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله . وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه ، كما قال تعالى : ' 20 : 109 ' " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " فبين أنه لا تقع لأحد إلا بشرطين : إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع ، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه ، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه ، ولقى العبد به ربه مخلصاً غير شاك في ذلك ، كما دل على ذلك الحديث الصحيح . وسيأتي ذلك مقرراً أيضاً في كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
وقوله : ' 53 : 26 ' " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " قال ابن كثير رحمه الله " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله ، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟
قال : ( وقوله تعالى : '34 : 22 ، 23 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " .
 قول ابن القيم رحمه الله في الشفاعة
قال ابن القيم  رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات : وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها . فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع ، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك ، فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً ، فإن لم يكن معنياً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده . فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً ، متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى ، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك ، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك ، وهي الشفاعة بإذنه . فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً وتجريداً للتوحيد ، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها . والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً ، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن . ولعمر الله ، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم ، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك .
ثم قال : ومن أنواعه ـ أي الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم ، وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، فضلاً عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله . وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده . فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه ، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه ، وإنما السبب كمال التوحيد ، فجاء هذا الشرك بسبب يمنع الإذن ، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها . وهذه حالة كل مشرك ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ، ومعاداة أهل التوحيد ، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، وأنهم أمروهم به ، وأنهم يوالونهم عليه ، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان ، وما أكثر المستجيبين لهم ، وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله ، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده . فجرد حبه لله وخوفه لله ، ورجاءه لله ، وذله لله ، وتوكله على الله ، واستعانته بالله ، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله ، وقصده لله ، متبعاً لأمره متطلباً لمرضاته ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، وإذا عمل عمل لله . فهو لله وبالله ومع الله . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام ، كما قال تعالى : ' 4 : 125 ' " ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً " .
قوله :  قال أبو العباس  هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله .
 نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عوناً لله . فلم يبق إلى الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : '21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم  أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولاً . ثم يقال له : ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع  . وقال له أبو هريرة "من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله ، وحقيقتها : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص  انتهى  .
 من أسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله :  وقال أبو هريرة  إلى آخره . هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه " وشفاعتي لمن قال لا إله إلى الله مخلصاً ، يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه" وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل نبي دعوة مستجابة ، فتجعل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة . فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً " .
وقد ساق المصنف رحمه الله كلام شيخ الإسلام هنا ، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات ، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز . والله أعلم .
وقد عرف الإخلاص بتعريف حسن فقال : الإخلاص محبة الله وحده وإرادة وجهه . ا هـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة : تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد ، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم ، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب ، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد ، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه ولياً أو شفيعاً أنه يشفع له وينفعه عند الله ، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة ، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضى قوله وعمله ، كما قال في الفصل الأول ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وفي الفصل الثاني ' 21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وبقى فصل ثالث ، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم . فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ووعاها . ا هـ .
وذكر أيضاً رحمه الله تعالى أن الشفاعة ستة أنواع :
الأول : الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف . وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد .
الثاني : شفاعته لأهل الجنة في دخولها . وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه .
الثالث : شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم ، فيشفع لهم أن لا يدخلوها .
الرابع : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذي يدخلون النار بذنوبهم . والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها ، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال .
الخامس : شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم ، وهذه مما لم ينازع فيها أحد . وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله ولياً ولا شفيعاً ، كما قال تعالى : ' 6 : 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " .
السادس : شفاعته في بعض أهل الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده .
 باب إنك لا تهدي من أحببت
قوله : باب
 قول الله تعالى : ' 28 : 56 ' " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين "  .
سبب نزول هذه الآية ، موت أبي طالب على ملة عبد المطلب ، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى لرسوله : إنك يا محمد لا تهدي من أحببت ، أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء . وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : ' 2 : 272 ' " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال تعالى : ' 12 : 103 ' " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " .
قلت : والمنفى هنا هداية التوفيق والقبول ، فإن أمر ذلك إلى الله ، وهو القادر عليه . وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: ' 42 : 52 ' " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فإنها هداية الدلالة والبيان ، فهو المبين عن الله والدال على دينه وشرعه .
________________________________________
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد     الجزء الأول     الجزء الثاني       الجزء الثالث          الجز الرابع 


العودة  الي                    مدونة   رحال          مخلوقات مدهشة        صفحات رحال     صفحات مخلوقات مدهشة                   رخصة المشاع الابداعي        بيانات الإتصال        تنويه عن رحال         كلمة   المدون        صفحاتنا علي  فيسبوك  
هذا المصنف مرخص بموجب المشاع الابداعي نسب العمل- المشاركة على قدم المساواة 3.0 الاصليةالترخيص .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلا

رحـلات وجـولات ورسائل لا تنـتهى للعقـل والـروح وأحـيانا للجـسـد عــبر نـوافــذ الادراك المعـروفـة والمجهولة تتـخطـى المكان والـزمان تـخـوض بحـار العـلم و تـكشـف أسـرار المـعرفة حربـا علـى الظــلام والتحاقا بالنـور بحـثا عـن الخيــر والجـمـال ووصــولا الى الـحـق