الأقسام

الثلاثاء، 20 مارس 2012

كتاب أخبار النساء ابن الجوزي الجزء الثاني من ثلاثة


من أجل ذلك حرّم الفواحش." وعن كعب بن مالك أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: "الغيرة، غيرتان: فغيرةٌ يحبّها الله، وغيرةٌ يكرهها الله". قلنا يا رسول الله، ما الغيرة التي يحبّها الله، قال: "أن يغار أن يأتي معاصي الله، وينتهك محارمه". قلنا وما الغيرة التي يكرهه: قال "أن يغار أحدكم في غير كنهه." وعن عبد الملك بن عمير بن عبد الله بن بكار أنّه قال: "الغيرة غيرتان: غيرةٌ يصلحها بها الرّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النّار".
ويروى: أنّ سارة كانت تحبّ إبراهيم خليل الرّحمن. فمكثت معه دهراً لا ترزق ولداً، فلمّا رأت ذلك وهبت له هاجر، وكانت أمةً لها قبطيّةً، فولدت لإبراهيم إسماعيل، صلّى الله عليهما، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها، وعتبت على هاجر. فحلفت لتقطعنّ عضواّ من أعضائها فقال لها إبراهيم، صلّى الله على نبينا وعليه: هل لك أن تبري يمينك? قالت: كيف أصنع? قال: أثقبي أذنيها وخصّفيها. والخصف هو الخياطة. ففعلت ذلك بها، فوضعت في أذني هاجر قرطين فازدادت حسناً. فقال سارة: إنّي إنّما زدتها جمالاً: فلم تتركه على كونها معه. ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكّة وكان يزورها في كلّ وقتٍ من الشّام لشغفه بها، وقلّة صبره عنها.
الكلام عن بعد ممنوع
وعن ابن أبي مليكة: أنّ ابن عمرو سمع امرأته تكلّم امرأةً من وراء جدار، بينها وبينها قرابةً لا يعلمها ابن عمرو، قال: فجمع لها جرائد ثمّ أتى فضربها بها.
عادةٌ غير مستحسنةٍ
وعن علقمة: أنّ معاذ بن جبل كان يأكل تفّاحةً ومعه امرأته فدخل علها غلامٌ، فناولته أمرأته تفّاحةً قد أكلت منها فأوجعها ضرباً.
غيرة المرأة على قدر لذّتها
وقال بعضهم: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر لذّتها. واستدل بإفراط غيرتها على إفراط حرصها. وهذا القول خطأ قد علمنا أنّ الرّجل أشدّ غيرةً على المرأة من المرأة على الرّجل. وربّما كان الذي يبدو من المرأة عند تسرّي زوجها بالسّراري وتزويجه المهيرات، وحين تراه مع بعضهنّ توهيماً للفعل أنّ ذلك من الطّربة والكراهة المشاركة فيه. وبعض ذلك يكون من طريق الألفة والنّفاسة به، وليس شكل ما تلقى المرأة إذا رأت فراشها، من شكل ما يلقى الرّجل إذا رأى على فراش امرأته رجلاً. لأنّ المرأة قد عاينت أنّ الرّجل له أربع نسوةٍ وألف جاريةٍ يطؤهنّ بملك اليمين، لما أحلّه الله في الشّريعة. وكذلك غيرة فحول الحيوان على إناثها، لأنّ فحل الحيوان يقاتل دونها كلّ فحلٍ يعرض لها حتّى تصير إلى الغالب. قال الرّاجز.
يغار والغيرة في خلق الذّكر والأمم تختلف في الغيرة. فمن الصّقالبة ناسٌ لا يتزوّجون من قربٍ منهم في النّسب ولا الدّار. وإذا مات البعل خنقت المرأة نفسها أسفاً عليه.
والمرأة في الهند إذا مات زوجها وأرادوا حرقه، جاءت ليحرقوها معه.
والدّيلميّ يخرج من الدّيلم إلى حدود ما بين دار الإسلام والدّيلم، ومعه امرأته وإخوانه وعمّاته فيبيعهنّ صفقةً واحدةً، ويسلّمهنّ إلى المبتاع، لا تدمع عينه ولا عينٌ واحدةٍ من عياله.
تكرّم طبرستان من العجائب
وأهل طبرستان لا يتزوّج الرّجل الجارية منهنّ حتّى يستبطن بها حولاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ويتزوّجها، ثمّ يزعمون مع ذلك أنّه يجدها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً كاملةً وهو لا يستبطن بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ يحتجران عن ألّذ الأمور تكرّماً. وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
ثلاث خصالٍ من السّؤدد
قال معاوية، رضي الله عنه: ثلاث خصالٍ من السّؤدد، الصّلع، واندماج البطن، وترك الإفراط في الغيرة.
غيرة قيس بن زهير
ولمّا نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم: أنّي غيورٌ، وأنا فخورٌ، وأنا أنفٌ، ولكن لا أغار حتّى أرى، ولا أفخر حتّى افعل، ولا آنف حتّى أضام. فعابوه بقوله لا أغار حتّى أرى ويظنّ به إنّما عني رؤية السّبب لا رؤية المرافقة.
وعابوا معاوية أيضاً بقوله هذا ونسبوه إلى قلّة الغيرة وما أرى في قوله وترك الإفراط في الغيرة عيباً لأنّ الإفراط المجاوز للحقّ ولمقدار المصلحة وظلم الخليلة العفيفة والحرمة الكريمة غير لائقٍ.
وعاب النّاس قول هدبة بن خشرم حيث يقول:
فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا

أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
فهذا يأمرها بتزويج الأنزع القليل شعر القفا والوجه.
ولا أرى فيه عيباً أيضاً لأنّ إنّما قال ذلك ليذكّرها جمال نفسه ليزهدها في غيره.
عبد الملك يعيب قولاً على نصيب
وأمّا قول نصيبٍ:
أهيم بدعدٍ ما حـييت وإن أمـت

فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فإنّي لم أجد له تأويلاً. وعاب ذلك عليه عبد الملك بن مروان، وقال لجلسائه: أو لو كنتم قائلين هذا البيت ما كنتم تقولون? قالوا: لا ندري، فكيف كان أمير المؤمنين قائلاً: قال: كان يقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فـإن أمـت

فلا صلحت دعد لذي خلّةٍ بعدي
بعض عادات العرب
وكان الرّجل من العرب إذا خرج مسافراً بدأ بالشّجرة يعقد خيطاً على ساقها أو على غصنً من أغصانها، فإذا رجع إلى أهله بدا إلى الشّجرة فنظر إلى الخيط، فإن كان منحلّاً حكم أنّ امرأته خانته، وإن كان على حاله حكم أنّها حفظته.
وأنشد أبو زيدٍ النحويّ:
هل ينفعك اليوم إن همت بهم

كثرة ما توصي وتعفي والرّتم
والرّتم اسمٌ للخيط الذي يعقد في الخنصر لتذكّر الحاجة.
وكان معاوية بن أبي سفيان يتمثّل بقول الشّاعر:
ومراكبٍ رجع السّلام بكفّه

ومودّعٍ لم يستطع تسليمـا
الغيور المتمطّق
وقال آخر:
وأضحى الغيور، أرغم الله أنفه،

على ملتقانا قائماً يتـمـطّـق
وقد مدّ شدقيه من الغيظ والأذى

كما مدّ شدقيه الحمار المحنّـق
الغيور في نظر الرّاعي
وقال الرّاعي:
وظلّ الغيور آرضـاً بـبـنـانـه

كما عضّ برذون على الفاس جامح
لقد رابنـي أنّ الـغـيور يودّنـي

وأنّ نداماي الكهول الجـحـاجـح
وصدّ ذوات الظّعن عنّي وقـد رأت

كلامي لمراء السّنا الطّـوامـح?
ابن الدّمينة وخميص الحشا
وقال عبد الله بن الدّمينة:
ولمّا لحقنا بـالـحـمـول، ودونـنـا

خميص الحشا تؤذي القميص عواتقه،
عرضنا، فسلمنا، فسـلـم كـارهـاً

علينا، وتبريحٍ من الغيظ خـانـقـه.
فرافقته مقـدار مـيلٍ ولـيتـنـي،

على زعمه، ما دمت حيّاً أرافـقـه
الدّارميّ لا يفارق عرسه
وقال مسكين الدّارميّ:
وإنّي امرؤٌ لا ألـقـى إلاّ قـاعـداً

إلى جنب عرسي لا أفارقها شبـرا
ولا مقسمٌ لا تبرح الدّهر بـيتـهـا

ليجعلها قبل الممات لهـا قـبـرا.
إذا هي لم تحصن أمام قنـاعـهـا،

فليس بمنجيها بنأيٍ لـه قـصـرا،
ولا حاملي ظنّـي، ولا قـول قـائلٍ

على غيرها، حتّى أحيط بها خبرا.
فهبني امرأً راعيت ما دمت شاهـداً

فكيف إذا ما سرت عن بيتها شهرا?
وقال مسكين أيضاً:
ألا أيّها الغائر المستـشـيط،

على ما تغار إذا لم تـغـر?
تعار على النّاس أن ينظـروا!

وهل يغبن للحاصنات النّظر?
فما خير عرسٍ إذا خفتـهـا

وبتّ عليها شديد الـحـذر?!
تكاد تـصـفّـق أضـلاعـه

إذا ما رأى زائراً أو زفـر.
فمن ذا يراعي له عـرسـه

إذا ضمّه، والمطيّ، السّفر?
شعراء ماتوا قتلاً
وثلاثةٌ من شعراء أولاد العجم ممّن كان مشتهراً بالقول مذكوراً، بالشّعر بالبادية، كلّهم قتلوا منهم: وضّاح اليمن، ويسار الكواعب، وسحيم عبد بني الحسحاس. وإنّما قتلوا كفّاً عن أولئك النّساء، وحفظاً لهنّ، حين رأوا التعرّض، وشنعة تلك الأشعار لا يشغلهم عنها إلاّ قتلهم مخافة أن يكون ذلك القتل يحقّق المقالة القبيحة. ألا ترى أنّ الحجّاج بن يوسف في عتوّه لم يتعرّض لابن نميرٍ في تشبّهه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سبباً للخوض في ذكرها. فيزيد زائدٌ، ويكثر مكثّرٌ. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يعترض لعبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت وكان يتشبّب بابنته، حتّى قال:
ثمّ حاضرتها إلى القبّة الخضراء

نمشي في مرمرٍ مـسـنـون
شعر سحيمٍ الإباحيّ
ومن أحقّ بالقتل من سحيم عبد بني الحسحاس? حيث يقول:
وبتنا وسادانا إلـى عـلـجـانةٍ

وحقفٍ تهاداه الرّياح تـهـاديا
توسّدني كفّاً وتثني بمـعـصـمٍ

عليّ، ونحوي رجلها من ورائيا
وهبّت شمالٌ آخر اللـيل قـرّةً

ولا ثوب إلاّ درعـهـا وردائيا
فما زال ثوبي طيّباً من نسيمهـا

إلى الحول حتّى أنهج الثّوب باليا

ومرّوا به ليقتلوه على الذي اتّهم بها، فضحكت، فقال:
فإن تضحكي منّي فيا ربّ ليلةٍ،

تركتك فيها كالقباء المفـرج
كاد يقتلها عقيل المرّي
وحكى العتبيّ، قال: سمع عقيل بن علقمة المرّي بنتاً له ضحكت، فشهقت في آخر ضحكها. فأخذ السّيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت، أنّي رجلٌ فروقٌ،

من ضحكةٍ آخرها شهيق
قال: فنادت يا أخوتاه! فبادروا فحالوا بينه وبينها.
عقيل وابنته الجرباء
وحكى أبو حاتم السّجستاني عن الأصمعي، قال: كان عقيل بن علقمة غيوراً، وكان الخلفاء يصاهرونه، وكانت له ابنةٌ يقال لها الجرباء. فكان إذا خرج إلى الشّام خرج بها لفرط غيرته. فخرج بها مرّةً وبابنٍ يقال له عميس، فلمّا كانوا بدير سعدٍ قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعدٍ وربّما

غلا غرضٌ ناطحته بالجماجـم
ثمّ قال لابنه أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتـيةً

نشاوي من الإدلاج، ميل العمائم
ثمّ قال لابنته: أجيزي، يا جرباء. فقالت:
كأنّ الكرى أسقاهم صرّ خـدية

عقارٌ تمشّت في المطا والقوائم.
فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر? هذه صفةٌ من قد شربها.
وأخذ السّوط فأهوى نحوها، وجاء عميس فحال بينه وبينها، فضربه فأوجعه فرماه عميس بسهمٍ، فشكّ فخذيه فبرك، فمضوا وتركوه حتّى إذا بلغوا أداني المياه منهم، قالوا: اللهمّ أسقطنا جزوراً لنا. فأدركوه وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيلٌ بارك وهو يقول:
أنّ ابني زملانـي بـالـدّم

من يلق أبطال الرّجال يكلم
ومن يكن درءٌ بـه يقـوم

شنشنةً أعرفها من أخـزم
ثمّ زوّجها يزيد بن عبد الملك. وقد ذكرنا خبره في ما مضى.
مقدّمات الغيرة
قال: وممّا يحدث الهوى في قلوب النّساء لغير أزواجهنّ، ويدعوهنّ إلى الحرص على الرّجال، والطّلب لهنّ أمورٌ منها: أن يظهر لها زوجها شدّة الحذر عليها، والاحتفاظ بها، والغيرة في غير موضعها. أو يكون الرّجل منهمكاً في الفساد، مظاهراً لها بالزّنا. فإنّ ذلك ممّا يغريها من طلب الرّجال، والحرص عليهم. كما قال الشّاعر:
ما أحسن الغيرة في حينها،

وأقبح الغيرة في كلّ حين.
من لم يزل متّهماً عرسـه

متّبعاً فيها لرجم الظّنـون،
أوشك أن يغريها بـالـذي

يخاف، أو ينصبها للعيون.
حسبك من تحصينها ضمّها

منك إلى عرضٍ نقيٍّ ودين
لا تطلع منك عـلـى ريبةٍ

فيتّبع المقرون حبل القرين
عبد الله بن رواحة وزوجته
ذكر الشّعبيّ إنّ عبد الله بن رواحة أصاب جاريةً له، فسمعت به امرأته، فأخذت شفرةً فأتته حين قام وقالت له: أفعلتها يا ابن رواحة? فقال: ما فعلت شيئاً. فقالت: لتقرأن قرآناً، وإلاّ بعجتك بها. قال: ففكّرت في قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك، وهي امرأةٌ غيراء في يدها شفرةً لا آمن أن تأتي بما قالت. فقلت:
وفينا رسول الله يتـلـو كـتـابـه

إذا أنشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع
أرانا الهدى، بعد العمى، فقلـوبـنـا

به موقنـاتٌ، أن مـا قـال واقـع
يبيت يجافي جنبه عـن فـراشـه،

إذا استثقلت بالكافرين المضـاجـع
قال: فألقت السّكّين من يدها، وقالت: آمنت بالله، وكذّبت البصر. قال: فأتيت النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بذلك، فضحك وأعجبه ما صنعت.
المصيبة في معاتبة المرأة الرّجل
وكان بعض العلماء لشدّة شهوة الباه في قلوب النّساء، وتمكّنه فيهنّ، وشدّة غيرته، يقول: ليس المصيبة في معاتبة الرّجل المرأة، إنّما المصيبة في معاتبتها إيّاه. فإنّها إن نظرت إليه ووقع بقلبها موقع حظوةٍ لم يلبث أن تصير في يده، وتبعث الرّسائل والأشعار والتّحف.
يخاف عليها من عينيها
قال إسحاق: رأيت رجلاً بطريق مكّة، تعادله في المحمل جاريةٌ قد شدّ عينيها والغطا مكشوف، ووجها بادٍ، فقلت له في ذلك. فقال: إنّما أخاف عليها من عينيها، لا من عيون النّاس.
سعيد بن سليمان والإنكشاف
قال سعيد بن سليمان لئن يرى حرمتي ألف رجلٍ على حالٍ يكشف منها، ولا تراهم، أحبّ إليّ من أن ترى حرمتي رجلاً واحداً غير منكشف.
حتّى على العميان
واستأذن ابن أمّ مكتومٍ عل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وعنده امرأتان من نسائه، فقال لهما: "قوما وأدخلا البيت." فقالتا: يا رسول الله، هو أعمى، فقال: "أفعمياوان أنتما?."
باب تابعٌ لما قبله
وبالرّجال أعظم حاجةٍ إلى أن يعرفوه ويقفوا عليه، وهو الاحتراس من أن يلقى الخبر السّابق إلى السّمع لأنّه إذا ألقي دخل ذلك الخبر السّابق إلى مقرّه دخولاً سهلاً وصادف موضعاً وطيئاً، وطبيعةً قابلةً. ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته. ومتى ألقي إلى الفتيات شيءٌ من أمور الفتيان في وقت الغرارة وعند غلبة الطّبيعة وشباب الشّهوة، وعند قلّة الشّواغل، قوي استحكامه، وصعبت إزالته. وكذلك متى ألقي إلى الفتيان شيءٌ من أمورهنّ وهناك سكر الشّباب. فكذلك يكون حالهم، وإنّ الشّياطين ليخلو أحدهم بالغلام الغرير فيقول له لا يكن الغلام فتىً أبداً حتّى يصادف فتىً. فما الماء البارد العذب بأسرع في طباع العطشان من كلمته إذا كان الغلام أدنى هوىً في الفتوّة. وكذلك إذا خلت العجوز بالجارية الحديثة.
وقيل لابنة الحسن: لم زنيت بعبدك ولم تزن بحرٍّ، وما أغراك به? قالت: طول السّواد، وقرب الوساد. ولو أنّ قبح النّاس وجهاً، وأخبثه نفراً، وأسقطهم همّةً، قال: لامرأةٍ قد تمكن كلامها وأعطته سمعها: والله يا سيّدتي ويا مولاتي، لقد أتعبت قلبي، وأرقت عيني، وشغلتني عن مهمّ أمري، فما أعقل أهلاً ولا مالاً ولا ولداً. لنقض طباعها، وفتح عقدها ولو كانت أبرع الخلق جمالاً، وأكملهم كمالاً. وإنّما قال عمر رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري لأنّ الثّياب هي الدّاعية إلى الخروج من الأعراس، والقيام في المناجاة، والظّهور في الأعياد. فمتى كثر خروجها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها، ولو كان بعلها أتمّ حسناً والذي رأت أنقض حسناً، لكانت بما لا تملكه أطرف ممّا تملكه. وكانت ممّا لم تملّه وتستكثر منه أشدّ الوجد وهي به أشدّ استقبالاً. كما قال:
وللعين ملعى في البلاد ولـم يقـد

هوى النّفس شيئاً كاقتياد الطّرائف
يجوّعهنّ حتّى لا يأشرن
وقيل لعقيل بن علقمة: أما تخاف على بناتك وقد عنسن ولم تزوّجهنّ? قال: كلّا، أجوّعهنّ فلا يأشرن، وأعرّيهنّ فلا ينظرن. فوافقت إحدى كلمتيه قول النّبي صلّى الله عليه وسّلم، ووافقت الأخرى قول عمر رضي الله عنه. فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "الصّوم وجاء." وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري.قال:
هارون البردعي والعطّار
وكان هارون بن عبد الله البردعيّ يقول لأهله: محرّمٌ عليك إن نظرت إلى سائلٍ يقف ببابك، وسمعت حلاوة نغمه. وكان ينهي الباعة إذا دخلوا سكنه عن النّداء على بضائعهم. ورأيته مرّةً يضرب عطّاراً سمعه يترنّم بوصف العطر وكان ينفق بضاعته حسن صوته، فيقول: العود المطريّ، والمحلب واللبان والمسك والعنبر. ويردّد ذلك بصوته فيرجّعه.
فكان النّساء يستمعن إليه ويشرفن من المطالع ويتبعن الأبواب حتّى تصل عيونهنّ إلى النّظر إليه لو أراد الجماع لكفتهن الآذان وربما اشترين منه ما لا يحتجن إليه. قال: فقلت له: يا أبا وائل، فإنّك قد انعم الله بشيءٍ كنت تمنعه! قال: جعلت فداك، إنّما أمنع منعي لنفسي لئلاّ يسمعه من في منزلي. فإنّ النّساء أسرع شيءٍ ذهاب قلوبٍ إلى النّغمة الحسنة، فإن كان معه حسن وجهٍ برئت المرأة من الله أن لم تحتل في صرف قلبه إليها، ويصير الزّوج قوّاداً. قلت: لا، ولا كلّ هذا! قال: فأسألك ألا سألته أن يستعمل هذا الكلام مرّةً أو مرّتين أو ثلاثاً في غير هذه السّكّة. فذبنا به إلى غيرها وجعل العطّار ينادي فما أتمّ الثّالثة حتّى تحرّكت أكتافي له طرباً وجعلت لا أمرّ ولا آجي لمّا سكرت من حسن صوته. فقال: كيف تراه? قلت: أراه يستولي على قلوب الرّجال. قال: فكم قلب الرّجل على ترك التّهتك من قلب المرأة? هذا إذا كانت بلغت من السّنّ مبلغاً ونقضت شهوتها فأمّا إذا كانت شابّةً ولها فضل جمالٍ، ومعها شدّة شهوةٍ، وكثرة لذّةٍ، وهي ذات حاجة، وخالية الذّرع من الفكرة في المعاش، وخالية القلب، وقد أمنت ضرب الزّوج وتطليقه، وغيرة الأخ، وقلّة صيانة الأب، وأصابت من يشجّعها على فعلها، ويفتح لها أبواب نظرتها، ويسعى لها في طلب الصّدّيق، ويحرّضها على التّهتّك، وقد قرب منها الصّوت، وخلت من الرّقيب، ولم يكن لها في الأرض أشرافٌ، ولا أهل عفافٍ، فما يمرق السّهم من الرّمية كمروق هذه إلى الباطل.
شيئان لا تؤمن عليهما المرأة
وكانت هند بنت المهلّب من عقلاء النّساء وكانت تقول: شيئان لا تؤمن عليهما المرأة: الرّجال، والطّيب.
سوء الظّنّ من شدّة الحبّ
وأنشد إسحاق بن إبراهيم:
وإنّي بها في كلّ حالٍ لـواثـقٌ

ولكنّ سوء الظنّ من شدّة الحبّ
لا تأمننّ النّساء
وأنشد آخر:
لا تأمننّ على النّساء ولو أخـاً،

ما في الرّجال على النّساء أمين
كلّ الرّجال وإن تعفّف جـهـده

لا بدّ أنّ بنـظـرةً سـيخـون
ديك الجنّ وجاريته وغلامه
وقال عبد السّلام بن رغبان المشهور بديك الجنّ شعراً أديباً، ذا همّةٍ حسنةٍ. وكان له غلامٌ كالقمر، وجاريةٌ كالشّمس. وكان يهواهما جميعاً. فدخل ذات يومٍ بوجد الجارية معانقةً للغلام تقبّله، فشدّ عليهما فقتلهما جميعاً. ثمّ جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلاً وقال:
يا طلعةً طلع الحمـام عـلـيهـا

فجنى لها ثمر الـرّدى بـيديهـا
حكّمت سيفي في مجال خناقـهـا

ومدامعي تجري علـى خـدّيهـا
رويت من دمها الثّرى ولطالـمـا

روّى الهوى شفتيّ من شفتـيهـا
فوحق نعليها، وما وطىء الحصى،

شيءٌ أعزّ عليّ مـن عـينـيهـا
ما كان قتليهـا لأنّـي لـم أكـن

أبكي إذا سقط الغبار عـلـيهـا
لكن بخلت على الأنام بحسـنـهـا

وأنفت من نظر العـيون إلـيهـا
ثم ّجلس عند رأس الغلام يبكي:
أشفقت أن يرد الزّمان بـغـدره

أو أبتلي بعد الزّمان بهـجـره
قمرٌ أنا استخرجته مـن دجـنةٍ

لمودّتي وجلوتـه فـي خـدره
فقتلتـه وبـه عـلـيّ كـرامةً

فلي الحشا وله الفؤاد بـأسـره
عهدي به ميّتاً كـأحـسـن نـائمٍ

والطّرف يسفح دمعتي في نحره
لو كان يدري الميّت ماذا بـعـده

بالحيّ منه بكى له في قـبـره
غصصٌ تكاد تفيض منها نفسـه

ويكاد يخرج قلبه مـن صـدره
الرّازي وبدر التّمام
وأنشد الرّازي:
أما واهتزازك لو أستطـيع

لما لحظ النّاس بدر التّمـام
ومن أين للبدر وجـه مـيّتٍ

ويحيى إذا شاء بالابتـسـام
فهبه حكاك بحسن الـضّـيا

فمن أين للبدر حسن القوام?
أغار على حسنه إذ حـكـا

ك وكان بذلك عنـد الأنـام
غيرة أبي تمّام
وأنشد لأبي تمّام:
بنفسي من أغار عليه منّـي

وأحسد مقلةً نظـرت إلـيه
ولو أنّي قدرت طمست عنه

عيون النّاس من حذري عليه
وأنشد الآخر:
أغار عليك من قلبـي

ولو أعطيتني أملـي
وأشفق أن أرى خدّي

ك نصب مواقع القبل
غيرة جميل بن معمر
ويروى أنّ جميل بن معمر قال لبثينة: ما رأيت مصعب بن الزّبير يخطر بالبلاد إلاّ أخذتني عليك الغيرة.
علي الجعفري وحرارة الهوى
وعن علي بن عبد الله الجعفري، وكان شاعراً وأديباً، قال: كنت أجلس بالمدينة وأنشد أشعاري، فحجّ أبو نواس فلمّا صار إلى المدينة وأنا ذات يومٍ أنشد، والنّاس مجتمعون علي، إذ دخل أبو نواس. فرأيته من بين النّاس ثمّ قال: يا هذا ألا تنشد بيتيك اللذين تكشّحت فيهما? فقلت: وما هما. قال: اللذان تقول فيهما:
ولمّا بدا لي أنّها لا تـحـبّـنـي

وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلـي
تمنّيت أن تبلي بغيري لعلّـهـا

تذوق حرارات الهوى فترقّ لي
قلت: أفلا أنشدك بيتي اللذين أتغاير فيهما? قال: بلى. فأنشدته:
ربّما سرّني صدودك عنّـي

وطلابيك وامتناعك منّـي
حذراً أن يكون مفتاح غيري

فإذا ما خلوت كنت التّمني
قال: فسألت عنه. فقيل لي أبو نواس.
لا تسألنّ رجلاً فيم يضرب امرأته?
قال الأشعث بن قيس نزلت ببعض أصحاب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقام إلى امرأته فضربها، فحجزت بينهما. قال: فرجع إلى فراشه، وقال: يا أشعث، احفظ شيئاً سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "لا تسألنّ رجلاً فيم ضرب امرأته?".
أبو الأصبع وبناته الأربع
قال ابن عائشة: كان أبو الأصبع العدوانيّ غيوراً، وكان له أربع بنات، فأبى أن يزوّجهنّ، فقالت واحدةٌ منهنّ: لتقل كلّ واحدةٍ منّا ما في نفسها. فقالت كبراهن:
ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً

حديث الشّباب طيّب النّشر والذّكر
لصوقٌ بأكباد الـنّـسـاء كـأنّـه

خليفة جارٍ لا يقيم على الهـجـر
قلن لها أنت تريدين شابّاً غنيّاً: وقالت الثّانية:
عظيم رماد القدر رحبٌ فـنـاؤه

له جفنةٌ يشقى بها النّيب والجزر
له خلقان: الشّيب من غير كبـرةٍ

تشين، ولا وانٍ ولا صرع غمر
فقلن لها أنت تريدين سيّداً.
وقالت الثّالثة:
ألا هل تراها مرّةً وخـلـيلـهـا

يضمّ كبعل المشرفيّ المـهـنّـد
عليه رواءٌ للـيسـار ورهـطـه

إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
فقلن لها أنت تريدين ابن عمٍّ لك قد عرفته.
وقلن للصّغرى: ما تقولين أنت? فقالت: لا أقول شيئاً. فقلن لها: لن ندعك لأنّك أطّلعت على أسرارنا وكتمت سرّك. فقالت: لا أدري ما أقول، إلاّ أنّه زوجٌ من عود، خيرٌ من قعود. قال: فخطبن، فزوّجهنّ جميعاً.
لا تكثروا الغيرة على أهلكم
وروي عن سليمان بن داود عليهما السّلام أنّه قال لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبةٍ، فترمى بالسّوء من أجلك وإن كانت بريئةً.
مدّ يده فلمس أربعاً
وقال بعض الظّرفاء: كنت شديدة الغيرة، فأخبرت بمجيء قبيحةٍ سوداء فذهبت مع إخوان لي عندها ليلةً فطفىء السّراج، فضربت بيدي إلى صدرها فإذا دون يدي أربع أيدٍ، فما أعلم أنّي خطرٌ ببالي امرأةً بعد ذلك.
غيرة سليمان بن عبد الملك
قال: كان سليمان بن عبد الملك من أشدّ النّاس غيرةً. فحكي أبو زيدٍ الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو على دكانٍ مبلّطٍ بالرّخام الأحمر، مفروشٌ بالدّيباج الأصفر في وسط بستانٍ قد أينعت ثماره، ورنت أطياره، وأزهر نبت الرّبيع؛ وعلى رأسه وصائف كلّ واحدةٍ أحسن من صاحبتها، فقلت: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكان سليمان مطرقاً فرفع رأسه فقال: أبا زيد، في مثل هذا اليوم يصلب أحدٌ حيّاً. فقلت: يا سيّدي، يا أمير المؤمنين، أو قد قامت القيامة? قال: نعم على رأس أهل الهوى سرّاً.
ثمّ أطرق رأسه، وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا? فقلت: قهوةٌ حمراء، في زجاجةٍ بيضاء، تناولنيها مقدودةٌ هيفاء، مضمومةٌ لفاء دعجاء، أشربها في كفّها، وأمس فمي بفمها: فأطرق سليمان مليّاً ودموعه تنحدر. فلمّا رأى الوصائف ذلك تنحّين عنه فرفع رأسه وقال: يا أبا زيد، حللت والله في يومٍ فيه انقضاء أجلك، وتصرم مدّتك، وفناء عمرك. والله لأضربنّ عنقك أو تخبرني ما الذي أثار هذه الصّفة من قلبك? قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كنت جالساً على باب أخيك سعيد بن عبد الملك وإذا جاريةٌ قد خرجت إلى باب القصر عليها قميصٌ اسكندراني، يبين منه بياض ثدييها، وتدوير سرّتها، ونقش تكتها؛ وفي رجليها نعلاها، قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها؛ ولها ذؤابةٌ تضرب إلى حقويها وتسيّل كالعثاكيل على منكبيها؛ وطرّةٌ قد أسبلت على جبينها؛ ولها صدغان كأنّهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد تقوّسا على محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحراً، وأنفٌ كأنّه قصبة درٍّ، وهي تقول: عباد الله ما الدّواء لما لا يشتكي، والعلاج ممّا ينتمي? طال الحجاب، وأبطأ الكتاب. العقل ذاهب، واللبّ عازب، والعين عبرى، والأرق دائم، والوجد موجود، والنّفس والهة، والفؤاد مختلس. فرحم الله قوماً عاشوا تجلّداً، وماتوا تبلّداً: لو كان في الصّبر حيلة، وإلى العزاء وسيلة، لكان أمراً جميلاً! .
فقلت: أيّتها الجارية أنسيّةٌ أنت أم جنّيّة سماويّةٌ أو أرضيّة، فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك? فسترت وجهها بكمّها كأنها لم ترني، وقالت: أعذر أيّها المتكلّم، فما أوحش الوجد بلا مساعد، والمقاساة لصب معاند. ثمّ انصرفت، فوالله يا أمير المؤمنين ما أكلت طيّباً إلاّ غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسناً إلاّ سمج في عيني لحسنها. فقال سليمان: أبا زيد كاد الجهل يستفزّني، والصّبا يعاودني، والحلم يغرب عنّي. تلك الذّلفاء التي يقول فيها الشّاعر:
إنّما الذّلـفـاء ياقـوتـه

أخرجت من كيس دهقان
شراؤها على أخي ألف ألف درهمٍ، وهي عاشقةٌ لمولاها الذي باعها منه. والله لا ملت إلاّ بحسرتها، ولا فارق الدّنيا إلاّ بغصّتها. وفي الصّبر سلوة، وفي توقّع الموت نهية. قم أبز زيد فأكتم المفاوضة، ويا غلام ثقّل يده ببدرةٍ. قال: فلمّا هلك سعيد بن عبد الملك صارت الجارية إلى أخيه سليمان ولم يكن في عصرها أجمل منها، فملكت قلبه، وغلبت عليه دون سائر جواريه. فخرجا يوماً إلى دهناء الغوطة بموقعٍ يقال له دير الرّهبان فضرب فسطاطه في روضةٍ خضراء مونقة، زهراء ذات حدائق وبهجة، حفّها أنواعٌ الزّهر الغضّ. فمن بين أصفر فاقع، وأبيض ساطع، مثل النّبات تحمل منه الرّيح نسيم المسك الأذفر، ويؤدي تضوّع عرفها فتيت العنبر.
وكان له مغنٍّ يأنس به، ويكثر الخلو معه، ويستمع حديثه، يقال له يسار. وكان أحسن النّاس وجهاً، وأظرفهم ظرفاً. فأمر بضرب فسطاطةٍ بالقرب منه وكانت الذّلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه. فلم يزل يسار يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرورٍ، وأتمّ حبورٍ، إلى أن أتى الليل وحان انصراف يسارٍ إلى موضعه فوجد جماعةً قد أناخوا به، فسلّموا عليه، فردّ عليهم السّلام جذلان بنزولهم، وفرحٍ بدخولهم. فأحضر الطّعام فأكلوا، وقدم الشّراب فنالوا منه. ثمّ قال: هل من حاجةٍ? قالوا: ما جئناك إلاّ للقرى. فقال: بالجانب الخصب نزلتم، وبالمنزل الرّحب حللتم. فقالوا له: أمّا الطّعام فقد أكلنا، وأمّا الشّراب فقد حضر، وبقي السّماع.
قال: أمّا السّماع فلا سبيل إليه مع غيرة أمير المؤمنين ونهيه إيّاي عن الغناء إلاّ ما كان في مجلسه. قالوا: فلا حاجة لنا في الطّعام عندك ما لم تسمعنا. فلمّا رآهم غير موقلين عنه رفع عقيرته وغنّى بهذه الأبيات:
محجوبةٌ سمعت صوتي فأرقـهـا

في آخر الليل حتّى ملّها السّهـر
لم يحجب الصّوت أجراسٌ ولا غلقٌ

فدمعها لطوق الصّوت ينـحـدر
في ليلة البدر لا يدري مضاجعها،

أوجهها عنده أضوا، أم القـمـر
لو خلّيت لمشت نحوي علـى قـدم

يكاد من لينه للمشـي ينـفـطـر

قال فلمّا سمعت الذّلفاء صوت يسارٍ خرجت إلى صحن الفسطاط تسمع الصّوت، فجعلت لا تسمع شيئاً من خلقٍ، ولطافة قطٍّ، إلاّ الذي وافق المعنى. ومن نعت الليل واستماع الصّوت إلاّ رأت ذلك كلّه في نفسها، فحرّك ذلك ساكناً كان في قلبها فهملت عيناها، وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم يجدها معه في الفسطاط فخرج إلى صحنه فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما هذا يا ذلفاء? فقالت: يا أمير المؤمنين:
ألا ربّ صوتٍ رائعٍ من مشوّهٍ

قبيح المحيّا واضع الأب والجد
يروّعك منه صوته ولـعـلّـه

إلى أمةٍ يعزى معاً وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام، عليّ يسار. فدعت الذّلفاء خادماً لها وقالت: إن سبقت إلى يسارٍ فحذّرته فلك عشرة آلاف درهمٍ وأنت حرٌ. فسبق رسول سليمان فأحضره فلمّا وقف بين يديه? وسليمان يرعد غيرةً، قال: من أنت? فقال: يسار. فقال سليمان:
تثكل في الثّكل يساراً أمّه

كان لها ريحانةً تشمّـه
وخاله يثكلـه وعـمّـه

ذو شفة حياته تغـمّـه
فقال يسار:
واستبقني إلى الصّباح أعتذر

إنّ لساني بالشّراب منكسـر
فإن أكن أذنبت ذنباً أو عثـر

فالسيّد المولى أحقّ من غفر
ثمّ قال: يا يسار ألم أنهك عن مثل هذا الفعل? فقال: يا أمير المؤمنين حملني الثّمل وقومٌ طرقوني، وأنا عبد أمير المؤمنين. فإن رأى أن لا يضيع حظّه منّي فليفعل. قال: أما حظّ منك فلم أضيّعه، ولكن لا تركت للنّساء فيك حظّاً أبداً يا يسار. أما علمت أنّ الرّجل إذا تغنّى أصغت إليه المرأة? وأنّ الفرس إذا صهل تودّقت له الحصان؛ وأنّ الفحل إذا هدر صغت له النّاقة. يا غلام إئتني بختّان. فختنه، فعاش بعد ذلك سنةً ومات. فسمّي الدّير دير الخصيان وبه يعرف إلى الآن.
وكتب إلى عثمان بن حيّان المرّي عامله على المدينة: أن أحص من قبلك من المغنّين. فخصي الدّلّال فقال: الآن صرنا نساءً حقّاً.
وادّعى بعض بني مروان أنّ عمل المدينة صحّف. وإنّما رأى في الكتاب أخص من قبلك، فقال الكاتب الذي قرأ الكتاب: كيف يقولون ذلك ولقد كانت الخاء مبعجةً بنقطةٍ كأنّها سهيل?.
غيرة عقيل بن علقمة
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي قيل لعقيل بن علقمة وكان شديد الغيرة، وأراد سفراً: أين غيرتك على من تخلّف? قال: أخلّف معهنّ الجوع والعري، فإنّهنّ إذا جعن لم يمزحن، وإذا عرين لمم يبرحن.
غيرة سعد بن عبادة
وعن المغيرة بن شعبة أنّ سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربت رأسه بالسّيف. فبلغ ذلك النّبي، صلّى الله عليه وسلّم، فقال: "لا تعجبوا من غيرة سعدٍ، فوالله إنّي لأغير من سعدٍ، والله أغير منّي، من أجل ذلك حرّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن". فقال: "يا أبا ثابت أكنت ضاربه بالسّيف?" قال: نعم، والذي نزّل عليك الكتاب. فقال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: "كفى بالسّيف شا." ولم يتمّها. أراد شاهداً لئلّا يبالغ فيه الغيران أو السّكران.
قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: كان امرؤ القيس بن حجر مئناثاً لا يولد له ذكر، وكان غيوراً شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنتاً قتلها. فلمّا رأى نساؤه ذلك غيّبن بناتهنّ في أحياء العرب. وبلغه ذلك فركب راحلته وخرج مرتاداً لهنّ حتّى أناخ على حيٍّ من أحياء العرب، وإذا جوار مجتمعاتٍ، فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي? فسكتن عنه، وقالت ابنته: هات. فأنشأ يقول:
تبلت فؤادك إذ عرضت عشيةً

بيضاء بهنكة عليها لـؤلـؤ
قال: فسكتت ساعة، ثمّ قالت:
لعقيلة الأدحي بات يحـفّـهـا

كنقا الظّليم وزال عنها الجؤجؤ
فضربها بالسّيف فقتلها. وسار حتّى نزل بحيٍّ آخر، فإذا بجوارٍ يلعبن فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي? فسكتن عنه، وقالت ابنته: هات. فقال:
إذا بركت تعالى مرفقـاهـا

على مثل الحصير من الرّخام
فسكتت ساعةً، ثمّ قالت:
وقاموا بالعصي ليضربوها

فهبت كالفنيق من النّعـام
قال: فقتلها، ثمّ سار حتّى نزل بحيٍّ آخر، فإذا بجوارٍ يلعبن. فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي? فسكتن عنه. وقالت ابنته: هات. فقال:
وكأنّهنّ نعاج رمـلٍ هـائلٍ

بدفٍّ يمدن كما يميد الشّارب
فسكتت ساعةً، ثمّ قالت:
بل هي أقرب في الخطا من خطوها

إنّ الخرائد مشـيهـا مـتـقـارب
قال: فنزل إليها فقتلها وسار.
أهدر دمه ولم يتمتّع بها
نزل أعرابيٌّ من طيء، يقال له المثنّى بن معروف، بأبي جبر الفزاري فسمعه يوماً يقول: لوددت أنّي بتّ الليلة خالياً ببنت عبد الملك بن مروان. فقال المثنّى: أحلالاً أم حراماً? فقال: ما أبالي. قال: فوثب إليه فضرب رأسه برحالةٍ فشجّه، ثمّ ارتحل وهو يقول:
أبلغ أمير المـؤمـنـين رسـالةً

على النّأي إنّي قد وترت أبا جبر
نشرت على اليافوخ منه رحـالةً

لنصري أمير المؤمنين ولا يدري
وما كان شيءٌ غير أنّي سمعتـه

ينادي نساء المؤمنين بلا مـهـر
قال، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فأهدر دم أبي جبرٍ وبعث إلى المثنّى بصلة جزيلة.
هند وزوجها روح
وعن عبد الملك بن عمير قال: كانت هند بنت النّعمان بن بشير الأنصاري عند روح بن زنباع، وكانت امرأةً فصيحةً أديبةً، برزةً؛ وكان رجلاً غيوراً، فرآها ذات يومٍ مشرفةً على وفدٍ من جذام. فجعل يضربها، ويقول. أتشرفين وتنظرين إلى الرّجال? قالت: ويحك، وهل أرى إلاّ جذاميّاً، والله ما أحبّ منهم الحلال فكيف الحرام? فقال روح في ذلك:
أثني عليك بأن باعك ضـيّقٌ

وأنّ أصلك في جذامٍ ملتصق
وفيه تقول هند?
وهل أنا إلاّ مـهـرةً عـربـيّةً

سلسلة أفراسٍ تحللهـا بـغـل
فإن نتجت حرّاً كريماً فبالحـرّا

وإن يك أقرافٌ فما أنجب الفحل
فقال لها روح: اللهمّ إن متّ قبلها فابتلها بزوجٍ يلطم وجهها، ويقيء في حجرها. ومات روح بن زنباع وتزوّجها بعده محمّد بن الحكم بن أبي عقيلٍ الثّقفي، وكان شابّاً جميلاً، شرّاباً للخمر؛ فأحبّته حبّاً شديداً، فكان يلطم وجهها ويقيء في حجرها. فقالت: رحم الله أبا زرعة، فقد استجيبت دعوته. وأنشدت للخذيمي: ما أحسن الغيرة في حينها إلى آخر الأبيات المتقدّمة.
والشنفرى يدلي بدلوه
وقال الشنفرى:
إذا ما جئت ما أنهاك عـنـه

ولم أنكر عليك فطلّقـينـي
فأنت البعل يومئذٍ فقـومـي

بسوطك لا أباً لك فاضربيني
الغيرة المفرطة
نزل عاصم بن عمر الخطّاب، رضي الله عنه، خيّمته بقديد. بفناء بيتٍ من بيوت قديد، وهو يريد مكّة معتمراً، فحطّ رحله، وكان رجلاً جسيماً من أعظم النّاس بدناً، وأحسنهم وجهاً. فأرسلت إليه ربّة البيت: يا هذا إنّ لي زوجاً غيوراً يمرّ الإنسان بجانب بيتي فيضربني، وإن رآك في هذا المنزل لقيت منه شرّاً، فأنشدك الله ألا تحوّلت عنّي! فأرسل إليها: إنّي قد نزلت وأنا مرتحلٌ عن قليل وليس عليك من زوجك بي بأس، والتّحويل يشقّ علي. قال فردّت إليه الرّسول حتّى تحوّل عنها. ومرّت به عجوزٌ خارجةٌ من عندها فدعاها وسألها عن المرأة، فقالت: هي خرديّة بن أكتم، وتزوّجها ربيع بن أصرم، ولها بنيٌّ صغيرٌ سمّته باسم أبيها. ثمّ ذهبت العجوز. وقال عاصم بن عمر أبيات شعرٍ. ثمّ دخل زوجها واستقرّ في منزله، فلمّا فرغ من شعره سمعه وهو يضربها فصبر حتّى علم أنّه شفى غيظه ثمّ إنّه أتاه، فصاح به، فخرج، فقال له: بأبي أنت، ما عرضك لي? فأخبره خبره وخبرها، فقال: بأبي أنت، لو كنت معي في منزلي ما كان عليّ منك بأس.
أبت أعراقه إلاّ احمراراً
قال كان عقيل بن علقمة من الغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحد علمناه، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، فقال: أمّا إذا كنت فاعلاً فجنّبني هجناك. وخطب عقيل وقال:
رددت صحيفة القرشيّ لمّا

أبت أعراقه إلاّ احمراراً
لقمان الحكيم الغيور

علي بن سليمان الأخفش قال: قال ابن الكلبي: كان لقمان بن عاد حكيم العرب غيوراً، فبنى لامرأته صرحاً وجعلها فيه، فنظر إليها رجلٌ من الحي فعلقها، فأتى قومه فأخبرهم وجده بها، وسألهم الحيلة في أمره. فأمهلوه حتّى أراد لقمان الغزو، فعمدوا إلى صاحبهم وشدّوه في حزمة سيوفٍ وأتوا إلى لقمان فاستودعوها إيّاه، فوضع السّلاح في بيته، فلمّا مضى تحرّك الرّجل في السّيوف، فقانت إليه المرأة تنظر فإذا هي برجلٍ، فشكا إليها حبّه إيّاها، فأمكنته من نفسها، فلم يزل معها مقيماً حتّى قدم لقمان فردّته في السّيوف كما كان، وجاء قومه فاحتملوه. وإنّ لقمان نظر يوماً إلى نخامةٍ في السّقف فقال: من تنخّم هذه? فقالت: أنا. قال: فتنخّمي. فقصرت فقال: يا ويلتاه والسّيوف دهتني. فقتلها ثمّ نزل فقلي ابنته صخر قاعدةً فأخذ حجراً فهشّم رأسها فماتت. وقال: أنت أيضاً امرأة. فضربت العرب بذلك المثل. فكان يقول المظلوم منهم ما أذنبت إلاّ ذنب صخر.
??????عمر والنّعمان بن نضلة
???????????????ولّى عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، النّعمان بن نضلة العوي بميسان، وأراد رحيل امرأته معه، فأبت ذلك وكرهته. فلمّا وصل إلى ميسان أراد أن يغيرها فترحل إليه، فكتب إليها:
ألا هل أتى الخنساء أنّ خليلهـا

بميسان يسقى في زجاجٍ وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قـريةٍ

وصاحبه يجثو على خدٍّ مبسـم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني

ولا تسقني بالأصغر المتثـلّـم
لعلّ أمير المؤمـنـين يسـوؤه

تنادمنا في الجوسق المتـهـدّم
فبلغت الأبيات عمر بن الخطّاب، فقال: أي والله، وأبي وأبيك، يسوؤني. يا غلام ، اكتب بعزله. فلمّا قدم على عمر بكّته بهذا، فقال: يا أمير المؤمنين ما شربها قط، ولا قلت الأبيات إلاّ بسبب كذا. فقال عمر: أظنّ ذلك ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً.
ذاق طعم الغيرة ضرب البعث على رجلٍ من أهل الكوفة فخرج إلى أذربيجان فاشترى فرساً وجاريةً وكان مملكاً بابنة عمّه فكتب ليغريها:
ألا بلغ أمّ المؤمـنـين بـأنّـنـا

غنينا وأغنينا الغطارفة الجّـرد
بعيد مناط المنكبـين إذا جـرى

وبيضاء كالتّمثال زيّنها العـقـد
فهـذا لأيّام الـغـدو وهـــذه

لحاجة نفسي حين ينصرف الجّند
فلمّا ورد كتابه، دعت بالدّواة وكتبت إليه:
إذا شئت غناني غـلامٌ مـرجـلٌ

ونازعته في ماء معتصر الـورد
وإن شاء منهم ناشىءٌ مدّ كـفّـه

إلى كبدٍ ملساء أو كفـلٍ نـهـد
فما كنتم تقضون حاجة أهـلـكـم

شهوداً فتقضوها على النّأي والبعد
فعجّل علينا بـالـسّـراح فـإنّـه

مناناً ولا ندعو لك اللـه بـالـرّدّ
ولا قفل الجند الذي أنـت فـيهـم

وزادك ربّ النّاس بعداً على بعد
فلمّا ورد كتابها لم يزد على أن ركب الفرس وأردف الجّارية ولحق بها، فكان أوّل شيءٍ بدأها به أن قال لها: بالله أكنت فاعلةً ما قلت? فقالت: الله في قلبي أعظم وأجلّ، وأنت في عيني أحقر وأذلّ من أن أعصي الله فيك. ثمّ قالت له: كيق ذقت طعم الغيرة? فوهب لها الجّارية، ورجع إلى مكانه.
أثر الغيرة عند روح بن زنباع
قالت هند بنت النّعمان بن بشيرٍ لزوجها روح بن زنباع، وكان شديد الغيرة: عجباً منك كيف يسوّدك قومك وفيك ثلاث خصالٍ أنت من جذام وأنت جبان، وأنت غيور? فقال لها: أمّا في جذام فإنّي في أرومتها؛ وأمّا الجبن فإنّما لي نفسٌ واحدةٌ فأنا أحفظها، ولو كانت لي نفسٌ أخرى لجدت بها؛ وأمّا الغيرة فحقيقٌ لمن كانت له امرأةٌ حمقاء مثلك أن يغار عليها مخافة أن تجيئه بولدٍ من غيره فتقذف به في حجره.
عبد الله بن سيرة الشّديد الغيرة
حكى دعبل بن عليٍّ قال: عبث عطّارٌ اسمه فيروز بامرأةٍ من الشّام تسومه عطراً فعلقت بقلبه، فقعد لها على طريقها، فلمّا أضجرها قالت: والله لو أنّ عبد الله بن سيرة بقربي ما طمعت في هذا منّي. فبلغت عبد الله بن سيرة هذه الكلمة وهو في البعث بأرمينية، فترك مركزه وأقبل لا يلوي على أحدٍ، حتىّ وقف ببابها ليلاً، وكان يوصف بشدّة الغيرة، فاستأذن عليها، فأذنت له، فقال لها: أيّتها المرأة من هذا الذي عبث بك حتّى تمنّيت أنّي بقربك? قالت: رجلٌ عطّار. قال لها: فما ابتنى? قالت: لا. قال لها: فعديه الليلة القابلة وإنّي أسبقه إلى بيتك.
فبعثت إليه تقول له: إذ أبيت إلاّ ما تريد، فهلمّ إلى بيتي الليلة عندي. فأقبل إليها وقد سبقه ابن سيرة، فلمّا دخل وثب عليه وضربه ضربةً رمى برأسه، ثمّ قتل خادمها، وقال لها: إنّما قتلته لئلّا يطلع على الخبر أحدٌ من النّاس. ثمّ ناولها مائة دينارٍ، وقال لها: اشتري بها خادماً وانفقي باقيها على نفسك. ثمّ قال: هلمّي فأساً فقلع رأس البالوعة ثمّ جرّهما فألقاهما فيها، ثمّ سوّى رأس البالوعة، وقال للمرأة: أظهري أنّ الخادم قد أبق. ثمّ خرج، ولم يعلم به أحد، ولم يأت منزله حتّى قدم أرمينيّة وقال في ذلك:
إنّ المنـايا لـغـيرانٍ لـمـعـرضةٌ

يغتاله النّحـر أو يغـتـالـه الأسـد
أو عقربٌ أو شجى في الحلق معترضٌ

أو حيّةٌ في أعالي منتـهـى الـزبـد
حما زوجة ابن الدّمينة
وكانت لابن الدّمينة امرأةٌ يقال لها حما، وكان مزاحم بن عمر السّلولي يأتيها ويتحدّث إليها، فمنعها ابن الدّمينة من ذلك فاشتدّ ذلك عليه، فقال مزاحم عند ذلك يذكرها:
يا ابن الدّمينة والأخبار تحملها

وخد النّجائب تبديها وتنميهـا
أمارةٌ، كيّةٌ ما بين عانتـهـا

وبين سرّتها لا شكّ كاويهـا
فلمّا بلغ ابن الدّمينة ذلك عرف العلامة التي في زوجته وعلم أنّه لم ير ذلك منها إلاّ وقد أفضى إليها. فأتى امرأته فقال: قد بلغني غشيان مزاحم لك، وقد قال فيك ما قال. فأنكرت ذلك، وقالت: والله ما أرى ذلك الموضع قط. قال: فما أعلمه بعلامتك التي وصفها? قالت: النّساء رأين ذلك إذ كنت جارتهنّ، فتحدّثن بذلك، فسمعه مزاحم. وتغافل ابن الدّمينة عن مزاحم حتّى ظنّ أنّه ذهب من قلبه، ثمّ قال لامرأته: لئن لم ترسلي إليه الليلة يأتيك في موضع كذا لأقتلنّك. فأرسلت إليه: إنّك قد سمّعت بي ولا أحبّ أن تأتيني وأنا سآتيك في موضع كذا. فقعد في الموضع ابن الدّمينة وأصحابه، وجاء مزاحم وهو يظنّ أنّها في الموضع الذي وعدته به، فخرجوا إليه وأوثقوه وصرّوا صرّةً من رملٍ في ثوبٍ وضربوا بها كبده حتّى مات، واحتملوه حتّى أتوا به ناحية دور قومه فطرحوه بها. وجاء أهله فأخذوه ولم يجدوا به أثر سلاح، فعلموا أنّ ابن الدّمينة قتله. ورجع ابن الدّمينة إلى امرأته فقتلها وقتل ابنه له منها، وطلبه السّلوليّون فلم يجدوه:
ليلى وحارثة بن عوف
وحكى الثّوريّ: أنّ رجلاً من بني عقيل تعلّق جاريةً وأبى أهلها أن يزوّجوه إيّاها، وكانت من أجمل النّساء، وكان اسمها ليلى، فسمع بها رجلٌ موسرٌ من ثقيف يقال له حارثة بن عوف، فقدم على أهلها فأرغبهم، فزوّجوه وظعن بها. فقال العقيلي الذي كان تعلّقها:
ألا إنّ ليلى العامريّة أصبحـت

تقطع إلاّ من ثقيفٍ وصالـهـا
كأنّ مع الرّكب الذين تحمّلـوا

غمامة صيفٍ زعزعتها شمالها
ثمّ اشتدّ شوقه وزاد ولعه، فخرج في أثرها حتّى قدم الطّائف، فانتسب أنّه أخٌ لها وصدّقت هي فأدخله زوجها، وذبح له ونحر، وكان صاحب خمرٍ. فجلس هو والثّقفي يشربان وهي تسقيهما فلمّا أخذت الخمر في العقيلي باح بسرّه، فلمّا سمعه الثّقفي همّ به ثمّ غلبه السّكر فخرج العقيلي تحت الليل وتبعه الثّقفي بأكلب له عقرٌ فأدركه وقد شارف بلاد بني كليب، وقد غلبه العطش فمات. فخلى أكلبه على جيفته فأكلته. فسمعت بذلك الكلابيّون فرحلوا في أثر الثّقفي فأدركوه فقتلوه وخلوا عليه أكلبه فأكلته. وسمع العقيليّون بخبر الرّجلين فركبوا إلى المرأة فطرقوها في منزله فقتلوها، ورحلوا. فوثبت عليها أكلب زوجها فأكلتها. فقال جار الثّقفي:
لعمري لقد ساق العقيلي حتفـه

وما خبر ليلى كان عنها بأبعـد
وخبر الفتى القيسيّ قد سيق نحوه

وأمسى مقيماً بين أضلاع أزبـد
أقاموا جميعاً رهن أجواف أكلبٍ

كذلك أمر الله في اليوم والغـد
الغيرة من الإيمان
ويروى عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: "الغيرة من الإيمان، وأيما رجلٍ أحسّ بشيءٍ من الفجور في أهله فلم يغيره، إلاّ بعث الله إليه ملكاً يقول له غر أربعين يوماً، فإن لم يفعل مسح بجانحه على عينيه، فإن رأى حسناً لم يدره، وإن رأى قبيحاً لم ينكره".
الجّهاد على الرّجال والغيرة على النّساء
وعنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: كتب الجّهاد على رجال أمّتي، والغيرة على نسائها، فمن صبرت منهنّ واحتسبت أعطاها الله أجر الشّهيد.
رأيٌ لعلي في المرأة
وعن علي عليه السّلام أنّه قال: من أطاع امرأته في أربع أكبّه الله في النّار على وجهه. أن يعطيها في أن تذهب إلى العرسات وإلى المعلّمات وإلى الحمّامات وإلى الجنائز.
الأحوص وأم جعفر
وقال الأحوص يتشبّب بأم ّجعفر الحطميّة:
أدور، فلولا أن أمّ جـعـفـر

بأبياتكم، ما درت حـيث أدور
وما كنت دوّاراً ولكن ذا الهوى،

إذا لم يزر لا بـدّ أن سـيزور
لقد منعت معروفها أمّ جعفـر،

وإنّي إلى معروفها لـفـقـير
فاستعدى أيمن، أخوها، عليه عامل المدينة وكان أيمن جسيماً ضخماً وكان الأحوص نحيفاً، فدفع إلى كلّ واحدٍ منهنّ سوطاً وقال لخالد: أضرب الأحوص. فقال بعض الشّعراء:
لقد منع المعروف من أمّ جعفرٍ

أخو ثقةٍ عند الحفاظ صبـور
علاك بمتن السّوط حتّى لقيتـه

بأصغر من ماء الصّفاق يفور
قال الأحوص بعد ذلك:
إذا أنا لم أغفر لأيمـن ذنـبـه

فمن ذا الذي يعفو له ذنبه بعدي
يسيء فأعفو ذنبه، فـتـردّنـي

أيادٍ يدانيها مبـاركةً عـنـدي
من الغيرة إلى البوادي
تزوّج عبد الله بن يزيد الحنفي امرأةً حسناء، وكان رجلاً ثقيلاً جسيماً ظريفاً، فأحبّها حبّاً شديداً، وكان من أشدّ النّاس غيرةً. فدعاه حبّه لها، وشدّة غيرتها عليها، أن خرج بها إلى بعض البوادي فابتنى لها قصراً وسكن به وأقام معها مدّةً.
لم يكن شأنه العفاف ولكن. . .
وخرج عمر بن سعيد العبدي يريد سفراً له، فأخذته السّماء في بعض الطّريق فنظر، فإذا هو بقصرٍ عظيمٍ، فعدل إليه، وقرع بابه، فخرج إليه عبد الله بن يزيد فعرفه، فسلّم عليه وأنزله، وهيّأ له طعاماً ثمّ دعا بشرابٍ من خمرٍ عتيقٍ. فبينما هما يشربان إذ تطلّعت المرأة فرأت ابن سعيدٍ وكان غلاماً شابّاً، وسكر زوجها سكراً شديداً فخرجت المرأة إلى عمر بن سعيد فحدّثته وآنسته ودعته إلى نفسها فأبى، وقال: ما كنت بالذي أفعل برجلٍ أتاني منزله. ولم يزل يدافعها حتّى أفاق عبد الله بن يزيد من سكره، فأنشأ عمر يقول:
ربّ بيضاء خصرها يتثنّـى

قد دعتني لوصلها فـأبـيت
لم يكن شأني العفاف ولكـن

كنت ندمان زوجها فاستحيت
فعلم عبد الله بن يزيد ما أراد، فلمّا انصرف عمر بن سعيد عمد عبد الله إلى المرأة فجعل في عنقها حبلاً وعلّقها به إلى السّقف، فاضطربت حتّى ماتت. وعلم أنّ النّساء لا حفظ لهنّ، وآلى على نفسه أنّه لا يتزوّج امرأةً أبداً. وترك قصره وعاد إلى منزله.
إذا نام الحارس أفاقت العقرب
وقال الفضيل بن الهاشمي: كنت مع ابنة عمّي نائماً على سريرٍ إذ ظهرت إليّ بعض جواري، فنزلت، فقضيت حاجتي، ثمّ انصرفت. فبينما أنا أراجع، إذ لدغتني عقربٌ فصبرت حتّى عدت إلى موضعي من السّرير، فغلبني الوجع، فصحت، فقالت لي ابنة عمّي: ما لك? قلت لها: لدغتني عقربٌ. قالت: وعلى السّرير عقربٌ? قلت: نزلت لأبوّل فأصابتني، ففطنت، فلمّا أصبحت جمعت خدمها واستحلفتهنّ أن لا يقتلن عقرباً في دارها إلى سنةٍ. ثمّ قالت:
إذا عصي الله في دارنا

فإنّ عقاربنا تغضـب
ودارٍ إذا نام حرّاسـهـا

أقام الحدود بها العقرب
الذّئاب تعدو على من لا كلاب له
قالوا وبينا ابن أبي ربيعة في الطّواف، إذ رأى جاريةً من أهل البصرة، فأعجبته، فدنا منها، فكلّمها، فلم تلتفت إليه. فلمّا كان في الليلة الثّانية عاودها، فقالت له: إليك عنّي أيّها الرّجل فإنّك في موضعٍ عظيم الحرمة! وألحّ عليها وشغلها عن الطّواف، فأتت زوجها، فقالت له: تعال معي فأرني المناسك. فأقبلت وهو معها وعمر جالسٌ على طريقها فلمّا رأى الرّجل معها عدل عنها فقالت:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له

وتتّقي مربض المستأسد الحامي

فحدّث المنصور هذا الحديث، فقال: وددت أنّه لم تبق فتاةٌ من قريش في خدرها إلاّ سمعت الحديث.
لا يراعي لابن عمّه محرماً
وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة بن الوليد سيف الله من فتيان قريشٍ جمالاً وشعراً، وهو الذي جاءت به قريش إلى أبي طالب قالوا: هذا عمارة، قد عرفت حاله، فخذه بدل ابن أخيك محمّداً نقلته. فقال لهم أبو طالب: ما أنصفتموني تعطوني ابن أخيكم أحفظه وأعطيكم ابن أخي تقتلوه? وبعثت قريش عمارة بن الوليد، وعمرو بن العاص إلى النّجاشي في أمر من قدم إليه من المهاجرين، فلمّا كانوا في السّفينة ومع عمرو امرأته أمّ عبد الله فقال لها عمارة: قبّليني. فقال لها عمرو: قبّلي ابن عمّك. وقال عمرو في ذلك:
ليعلم عمّارٌ أنّ من شـرّ شـيمةٍ

لمثلك أن يدعى ابن عمٍّ له ابن ما
أإن كنت ذا بردين أحوى مرجلاً

ولست تراعي لابن عمّك محرّماً
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبّـه

ولم ينه قلباً عارياً حيث يمّـمـا
قضى وطراً منه وغـادر سـبةً

إذا ذكرت أمثالها تملأ الفـمـا
وقعد عمرو على منجاف السّفينة لقضاء الحاجة، فدفعه عمارة، فألقاه في البحر، فما تخلّص حتّى كاد يموت. فلمّا صار إلى النّجاشي أظهر له عمرو أنّه لم يحفل بما أصابه منه، فجاده عمارة يوماً فحدّثه أنّ زوجة الملك النّجاشي علّقته وأدخلته إلى نفسها، فلمّا تبيّن لعمرو حال عمارة وشى به عند الملك واخبره خبره، فقال له النّجاشي: أئتني بعلامةٍ أستدلّ بها على ما قلت? فعاد عمارة، فأخبره عمرو بأمره وأمر زوجة النّجاشي فقال له عمرو: لا أقبل هذا منك إلاّ أن تعطيك من دهن الملك الذي لا يدّهّن به غيره. فكلّمها عمارة في الدّهن، فقالت له: أخاف من الملك. فأبى أن يرضى منها إلاّ أن تعطيه من ذلك الدّهن، فأعطته منه، فأعطاه إلى عمرو، فجاء إلى الملك، فأمر السّواحر فنفخن في إحليله، فذهب مع الوحش، فلم يزل متوحّشاً حتّى خرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة في جماعةٍ من أصحابه، فجعل له على الماء شركاً، فأخذه، فجعل يصيح به: أرسلني فإنّي أموت إن أمسكتني. فأمسكه، فمات في يده.
عائشة تغار على خديجة
عروة بن الزّبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما غرت على امرأةٍ لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ما غرت على خديجة. ولقد هلكت قبل أن يتزوّجني بثلاث سنينٍ، لما أسمع من كثرة ذكره إيّاها. وكان يذبح الشّاة فيفرّقها على صدائق خديجة. قال ودخل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، على خديجة وهي في مرضها الذي توفّيت فيه فقال لها: " بالكره منّي يا خديجة ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً. أما علمت أنّ الله زوّجني معك في الجنّة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون? " قالت: وقد فعل الله ذلك برسوله? قال: " نعم" . قالت: فبالرّفاء والبنين.
باب ما جاء في وفاء النّساء
تعاهدا ألا يتزوّجا
حكى الأصمعي، عن رجلٍ من بني ضبّة قال: ضلّت لي إبلٌ فخرجت في طلبها حتّى أتيت بلاد بني سليم، فلمّا كنت في بعض تخومها، إذا جاريةٌ غشى بصري إشراق وجهها، فقالت: ما بغيتك فإنّي أراك مهموماً? قلت: إبلٌ ضلّت لي، فأنا في طلبها. قالت: فتحب أن أرشدك إلى من هي عنده? قلت: نعم. قالت: الذي أعطاكهنّ هو الذي أخذهنّ فإن شاء ردّهنّ، فاسأله من طريق اليقين لا من طريق الإختيار. فأعجبني ما رأيت من جمالها وحسن منطقها، فقلت لها: هل لك من بعلٍ? قالت: كان والله فدعي فأجاب إلى ما منه خلق، ونعم البعل كان. قلت لها: فهل لك في بعلٍ لا تذمّ خلائقه، ولا تخشى بوائقه? فأطرقت ساعةً ثمّ رفعت رأسها وعيناها تذرفان دموعاً فأنشأت تقول:
كنّا كغصنين من بانٍ غذاؤهـمـا

ماء الجداول في روضات جنّات
فاجتثّ صاحبها من جنب صاحبه

دهرٌ يكرّ بفرحـاتٍ وتـرحـات
وكان عاهدني إن خاننـي زمـنٌ

أن لا يضاجع أنثى بعد موتـات
وكنت عاهدته أيضاً، فعـاجـلـه

ريب المنون قريباً مذ سنـينـات
فاصرف عتابك عمّن ليس يصرفه

عن الوفاء له خلب الـتّـحـيّات
قال: فانصرفت وتركتها.
على العهد باقيةٌ
قال الأصمعي: قال لي الرّشيد: امض إلى بادية البصرة فخذ من تحف كلامهم وطرف حديثهم. فانحدرت، فنزلت على صديقٍ لي بالبصرة، ثمّ بكّرت أنا وهو على المقابر، فلمّا صرت إليها إذا بجاريةٍ نادى إلينا ريح عطرها قبل الدّنوّ منها، عليها ثيابٌ مصبغاتٌ وحلى، وهي تبكي أحرّ بكاء. فقلت: يا جارية ما شأنك? فأنشأت تقول:
فإن تسألاني فيم حزني? فإنّـنـي

رهينة هذا القـبـر يا فـتـيان.
أهابك إجلالاً، وإن كنت في الثّرى،

مخافة يومٍ أن يسؤك مـكـانـي
وإنّي لأستحييك، والتّرب بـينـنـا،

كما كنت أستحييك حين تـرانـي.
فقلنا لهاك ما رأينا أكثر من التّفاوت بين زيّك وحزنك فأخبري بشأنك? فأنشأت تقول:
يا صحب القبر، يا من كان يؤنسني

حيّاً، ويكثر في الدّنيا مواساتـي،
أزور قبرك في حليٍّ وفي حلـلٍ،

كأنّني لست من أهل المصيبـات؛
فمن رآني، رأى عبرىً مفجـعةً

مشهورة الزّيّ تبكي بين أمواتي.
فقلنا لها وما الرّجل منك: قالت: بعلي، وكان يجب أن يراني في مثل هذا الزّيّ، فآليت على نفسي أن لا أغشى قبره إلاّّ في مثل هذا الزّيّ لأنّه كان يحبّه أيّام حياته، وأنكرتماه أنتما عليّ.
قال الأصمعي: فسألتها عن خبرها ومنزلها. وأتيت الرّشيد فحدّثته بما سمعت ورأيت، حتّى حدّثته حديث الجّارية. فقال: لا بدّ أن ترجع حتّى تخطبها إليّ من وليّها، وتحملها إليّ، ولا يكون من ذلك بد. ووجّه معي خادماً ومالاً كثيراً. فرجعت إلى قومها فأخبرتهم الخبر، فأجابوا وزوّجوها من أمير المؤمنين وحملوها معنا وهي لا تعلم. فلمّا صرنا إلى المدائن نما إليها الخبر، فشهقت شهقةً فماتت، فدفنّاها هنالك. وسرت إلى الرّشيد فأخبرته الخبر، فما ذكرها وقتاً من الأوقات إلاّّ بكى أسفاً عليها.
كان يحسبها راعيةً للعهد
توفّي رجلٌ وبقيت امرأته شابّةً جميلةً، فما زال بها النّساء حتّى تزوّجت. فلمّا كانت ليلة زفافها رأت في المنام زوجها الأوّل آخذاً بعارضتيّ الباب وقد فتح يديه وهو يقول:
حيّيت ساكن هذا البـيت كـلّـهـم

إلاّّ الرّبـاب فـإنّـي لا أحـييهـا
أمست عروساً وأمسى مسكني جدثٌ

بين القبـور وإنّـي لا ألاقـيهـا
واستبدلت بدلاً غيري، فقد علمـت

أنّ القبور تواري من ثوى فـيهـا
قد كنت أحسبها للـعـهـد راعـيةً

حتّى تموت وما جفّت مـآقـيهـا
ففزعت من نومها فزعاً شديداً، وأصبحت فاركاً وآلت أن لا يصل إليها رجلٌ بعده أبداً.
أذات عروسٍ ترى?!
ولمّا قتل عثمان، رضي الله عنه، وقفت يوماً على قبره نائلة بنت الفرافصة الكلبي، فترحّمت عليه ثمّ انصرفت إلى منزلها، ثمّ قالت: إنّي رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثّوب، وقد خفت أن يبلى حزن عثمان في قلبي. فدعت بفهرٍ فهتفت فاها، وقالت: والله لا يقعد رجلٌ منّي مقعد عثمان أبداً. وخطها معاوية فبعثت إليه أسنانها، وقالت: أذات عروسٍ ترى? وقالوا: لم يكن في النّساء أحسن منها مضحكاً.
لا تنكحي أغمّ القفا
كان هدبة بن خشرم العذري قتل ابن عمرٍ يقال له زياد بن زيد فطلبه سعيد بن العاص، وهو يلي المدينة لمعاوية فحبسه، فقال في السّجن قصيدته التي يقول فيها:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فـرجٌ قـريب
وفي سجنه يقول أيضاً:
ولمّا دخلت السّجن يا أمّ مـالـك

ذكرتك والأطراف في حلق سمر
وعند سعيد غـير أنّـي لـم أبـح

بذكرك إلاّّ من يذكّـر بـالأمـر

وسئل عن هذا، فقال: لمّا رأيت ثغر سعيدٍ شبّهت به ثغرها، وكان سعيد حسن الثّغر. فحبس هدبة سبع سنينٍ ينتظر به احتلام المستورد بن زيادة، فلمّا احتلم، أخرج صبح تلك الليلة إلى عامل المدينة فرغّبه في العفو، وعرض عليه عشر ديّاتٍ، فأبى إلاّّ القود. وكان ممّن عرض الدّيّات عليه الحسن بن علي، عليهما السّلام، وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم. فلمّا أبى، بعث هؤلاء وغيرهم من إخوانه بالحنوط والأكفان فدخل عليه رسولهم السّجن فوجدوه يلعب بالنّرد. فجلسوا ولم يقولوا له شيئاً، فلمّا لحظهم إذا بطرف بردٍ خرج من بعض الأكفان فأمسك، ثمّ قال: كأنّه قد فرغ من أمرنا? فقالوا: أجل. فقام فاغتسل ثمّ رجع إليهم فأخذ من كلّ واحدٍ ثوباً وردّ ما بقي. وأخرج ليقاد منه، فجعل ينشد الأشعار. فقالت له حيا المدينة: ما رأيت أقسى قلباً منك، تنشد الأشعار، وقد دعي بك لتقتل، وهذه خلفك كأنّها غزالٌ عطشانٌ تولول? يعني امرأته. فوقف، ووقف النّاس معه، فأقبل على حيا فقال:
وجدت بها ما لم تجـد أمّ واجـدٍ

ولا وجد حبّي بابـنٍ أم كـلاب
وإنّي طويل السّاعدين شمرطـلٌ

على ما اشتهيت من قوّةٍ وشباب.
فأغلقت الباب في وجهه. وعرض له عبد الرّحمن بن حسّان فقال: أنشدني! فقال له: على هذه الحال? قال: نعم. فابتدأ ينشده:
ولست بمفراحٍ إذا الدّهر سرّني

ولا جازعٍ من صرفه المتقلّـب
ولا أتمنّى الشّرّ، والشّرّ تاركي،

ولكن متى ما أحمل الشّرّ أركب
قال:ونظر رجلٌ إلى امرأته فدخلته غيرةٌ، وقد كان زيادة جدع أنفع بسيفه:
فإن يك أنفي بأن عنّي جمـالـه

فما حسبي في الصّالحين بأجدعا
فلا تنكحي إنّ فرّق الدّهر بيننـا

أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعـا
خنت يا فلانة عهدي
وعن أبي حمزة الكناني قال: كنت في حرس خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: من يحدّثني بحديثٍ عسى يستريح إليه قلبي? فقلت: أنا. فقال: هات. فقلت: إنّه بلغني أنّه كان فتىً من بني عذرة، وكانت له امرأةٌ منهم، وكان شديد الحبّ لها، وكانت له مثل ذلك، فبينا هو ذات يومٍ ينظر وجهها إذ بكى، فنظرت إلى وجهه وبكت، فقالت له: ما الذي أبكاك? قال: والله، أتصدقيني إن صدقتك? قالت: نعم. قال لها: ذكرت حسنك وجمالك وشدّة حبّي، فقلت أموت فتتزوّج غيري. فقالت: والله والله، أنّ ذاك الذي أبكاك? قال: نعم. قالت: وأنا ذكرت حسنك وجمالك وشدّة حبّي لك فقلت أموت فيتزوّج امرأةً غيري. قال الرّجل: فإنّ النّساء حرامٌ عليّ بعدك. فلبثا ما شاء الله.
ثمّ إنّ الرّجل توفّي فجزعت عليه جزعاً شديداً فخاف أهلها على عقلها أن يذهل، فأجمع رأيهم على أن يزوّجوها، وهي كارهةٌ، لعلّها تتسلّى عنه. فلمّا كان في الليلة التي تهدى فيها إلى بيت زوجها، وقد نام أهل البيت، والماشطة تهيّء من شعرها، إذ ناكت نومةً يسيرةً فرأت زوجها الأوّل داخلاً عليها من الباب وهو يقول: خنت يا فلانة عهدي، والله لا هنيت العيش بعدي فانتبهت مرعوبةً، وخرجت هاربةً على وجهها، وطلبها أخلها فلم يقعوا لها على خبر.
ماتا ودفنا معاً
قال إسحق خرجت امرأةٌ من قريش من بني زهرة إلى المدينة تقضي حقّاً لبعض القرشيّين. وكانت ظريفةً جميلةً، فرآها من بني أميّة رجلٌ فأعجبته، وتأمّلها فأخذت بقلبه، وسأل عنها فقيل له: هذه حميدة بنت عمر بن عبد الله بن حمزة. ووصفت له بما زاد فيها كلفه، فخطبها إلى أهلها فزوّجوه إيّاها على كرهٍ منها، وأهديت إليه فرأت من كرمه وأدبه وحسن عشرته ما وجدت به، فلم تقم عنده إلاّّ قليلاً حتّى أخرج أهل المدينة بني أميّة إلى الشّام، فنزل بها أمرٌ ما ابتليت بمثله، فاشتدّ بكاؤها على زوجها وبكاؤه عليها، وخيّرت بين أن تجمع معه مفارقة الأهل والولد والأقارب والوطن أو تتخلّف عنه مع ما تجد به، فلم تجد أخفّ عندها من الخروج معه مختارةً له على الدّنيا وما فيها. فلمّا صارت بالشّام صارت تبكي ليلها ونهارها ولا تتهنّأ طعاماً ولا شراباً شوقاً إلى أهلها ووطنها، فخرجت يوماً بدمشق مع نسوةٍ تقضي حقّاً لبعض القرشيّين فمرّت بفتىً جالسٍ على باب منزله، وهو يتمثّل بهذه الأبيات:
ألا ليت شعري، هل تغـيّر بـعـدنـا

صحون المصلّى، أم كعهدي القرائن?
وهل أدور حول الـبـلاط عـوامـرٌ

من الحيّ، أم هل بالمدينة سـاكـن?
إذا لمعت نحو الحـجـاز سـحـابةٌ،

دعا الشّوق منّي برقها المـتـيامـن
وما أشخصتنا رغـبة عـن بـلادنـا،

ولكـنّـه مـا قـدّر الـلـه كـائن.
فلمّا سمعت المرأة ذكر بلدها وعرفت المواضع، تنفّست نفساً صدّع فؤادها فوقعت ميتةً. فحملت إلى أهلها وجاء زوجها، وقد عرف الخبر، فانكبّ عليها فوقع عنها ميّتاً. فغسّلا جميعاً وكفًنا ودفنا في قبرٍ واحدٍ.
أرادها لحسن ثغرها فقط
وكانت خولة بنت منظور بن زياد الفزاري عند الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وكانت أختها عند عبد الله بن الزّبير، وهي أحسن النّاس ثغراً، وأتمّهم جمالاً. فلمّا رأى ذلك عبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزّبير زوجها، ثمّ خطبها، فكرهت أن تتزوّجه وهو قاتل زوجها، فأخذت فهراً وكسّرت به أسنانها. وجاء رسول عبد الملك فخطبها، فأذنت له ليراها، فأدّى إليها رسالته ورأى ما بها، فقالت: ما لي عن أمير المؤمنين رغبة، ولكنّي كما ترى، فإن أحبّني فأنا بين يديه، فأتاه الرّسول فأعلمه بذلك، فقال: أنا، والله، إنّما أردتها على حسن ثغرها الذي بلغني، وأمّا الآن فلا حاجة لي فيها.
لا حرّ بوادي عوفٍ
وممّن يضرب به المثل في الوفاء جماعة بنت عوف بن محلم الشّيباني وذلك أنّ عمرو بن عبد الملك طلب مروان القرط وهو مروان بن زنباع العبسيّ فخرج هارباً حتّى هجم على أبيات بني شيبان، فنظر إلى أعظمها بيتاً ببصره فإذا هو بيت جماعة بنت عوف فألقى نفسه بين يديها فاستجارها فأجارته. ولحقته خيل عمرو فبعثت إلى أبيها فعرّفته أنّها أجارته فمنعهم عوف عنه وأنصرف أصحاب عمرو. فأرسل عمرو إلى عوف قد آليت ألا أقطع طلبي إلاّّ أن يضع يده في يدي. فقال عوف: والله ما يكون ذلك أبداً لكنّ يدي بين يديك ويده. قال، فرضي عمرو بذلك. فوضع مروان يده في يد عوف ووضع عوف يده في يد عمرو. فقال عمرو: لا حرّ بوادي عوف. فذهبت مثلاً.
من أحاديث المحبّين
وحكى عصام المرّي، عن أبيه، قال: بعثنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في سريّةٍ قبل نجد، وقال: إن سمعتم مؤذّناً، أو رأيتم مسجداً فلا تقتلنّ أحداً. فبينا نحن نسير إذ لحقنا رجلٌ معه ظعائن يسوقها أمامه، فأخذناه، فقلنا له: أسلم. قال: وما الإسلام? فعزمنا عليه، قال: أرأيتم إن لم أسلم ما أنتم صانعون بي? قلنا: نقتلك. قال: فهل أنتم تاركي حتّى أوصي من في هذا الهودج بكلماتٍ. قلنا: نعم. فدنا من الهودج وفيه ظعينة فقال: أسلمي جبيش قبل انقطاع العيش. فقالت: أسلم عشراً أو تسعاً وتراً، أو ثانياً تترا. قال، ثمّ جاء فمدّ عنقه. قال: شأنكم اصنعوا ما أنتم صانعون. فضربنا عنقه ولقد رأيت تلك الظّعينة نزلت من هودجها وألقت نفسها عليه فما زالت تقبّله وتبكي حتّى هدأت فحرّكناها فإذا هي ميّتة.
خانته وبموتها وفت له
العتبيّ قال: كان خالد بن عبد الله القسريّ ذات ليلةٍ مع فقهاء من أهل الكوفة فقال بعضهم: حدّثونا حديثاّ لبعض العشّاق. قال أحدهم: أصلح الله الأمير، ذكر هشام بن عبد الملك غدر النّساء وسرعة رجوعهنّ. فقال له بعض جلسائه: أنا أحدّثك، يا أمير المؤمنين: بلغني عن امرأةٍ من يشكر يقال لها أمّ عقبة بنت عمرو بن الأعران، وإنّها كانت عند ابن عمٍّ لها يقال له غسّان، وكان شديد المحبّة لها، والوجد بها، وكانت له كذلك. فأقام بها على هذا الحال ما شاء الله، لا يزيد كلّ واحدٍ منهما بصاحبه إلاّّ اعتباطاً.
فلمّا حضرت غسّان الوفاة قال لها: يا أمّ عقبة اسمعي ما أقول، وأجيبي عن نفسك بحقٍّ. فقالت له: والله لا أجبتك بكذبٍ، ولا أجعله آخر حظّك معي. فقال: إنّي رجوت أن تحفظي العهد، وأن تكوني لي إن متّ عند الرّجاء. أنا والله واثقٌ بك، غير إنّي بسوء الظّنّ أخاف غدر النّساء. ثمّ اعتقل لسانه فلم ينطق حتّى مات. فلم تمكث معه إلاّّ قليلاً حتّى خطبت من كلّ مكانٍ، ورغب فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والمال والعفاف والحسب. فقالت مجيبةً له:
سأحفط غسّاناً، على بعد داره،

وأرعاه حتّى نلتقي يوم نحشر.
وإنّي لفي شغلٍ عن النّاس كلّهـم،

فكفّوا، فما مثلي من النّاس يغدر.
سأبكي عليه، ما حييت، بـدمـعةٍ

تحول على الخدّين منّي فتكثـر
فيئس النّاس منها حيناً. فلمّا طالت بها الأيّام نسيت عهده، وقالت: من قد مات فقد فات. وأجابت بعض خطّابها فتزوّجها المقدام بن حابس، وقد كان بها معجباً. فلمّا كانت الليلة التي أراد بها الدّخول، أتاها في منامها زوجها الأوّل فقال لها:
غدرت، ولم ترعي لبعلـك حـرمةً،

ولم تعرفي حقّاً، ولم ترعي لي عهدا
غدرت به لمّا ثوى في ضـريحـه،

كذلك ينسى كلّ من سكن اللـحـدا
فانتبهت مرتاعةً مستحييةً منه كأنّه يراها أو تراه كأنّه في جانب البيت. فأنكر حالها من حضرها، وقلن لها: ما لك? وما بالك? قالت: ما ترك لي غسّانٌ في الحياة إرباً، أتاني السّاعة فأنشدني هذه الأبيات. ثمّ أنشدتها بدمعٍ غزيرٍ، وانتحابٍ شديدٍ من قلبٍ جريحٍ موجعٍ. فلمّا سمعن ذلك منها أخذن بها في حديثٍ آخر لتنسى ما هي فيه، فتغفّلتهنّ ثمّ قامت كأنّها تقضي حاجةً فأبطأت عليهنّ. فقمن في طلبها، فوجدنها قد جعلت السّوط في حلقها وربطته إلى عمود البيت وجبذت نفسها حتّى ماتت. فلمّا بلغ ذلك زوجها المقدام، حسن عزاؤه عنها، وقال: هكذا فليكن النّساء في الوفاء، قلّ من يحفظ ميتاً، إنّما هي قلائلٌ حتّى ينسى وعنه يتسلّى
لم يلتفت إليهنّ
استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل بن معمر، فهرب حتّى أتى رجلاً شريفاً من بني عذرة في أقصى بلادهم وله بناتٌ سبعٌ كأنّهنّ البدور جمالاً. فقال الشّيخ لبناته: تحلّين بأجود حليّكنّ، والبسن فاخر ثيابكنّ، ثمّ تعرضن لجميلٍ. فمن اختار منكنّ زوّجته إيّاها. ففعلن ذلك مراراً وجعلن يعارضنه: فلم يلتفت إليهنّ. وأنشأ يقول:
حلفت لكي تعلمن أنّي صادقٌ، وللصّدق في خير الأمور وأنجح

لتكليم يومٍ من بثينة واحد

ورؤيتـهـــا عـــنـــدي، ألـــذّ وأمـــلـــح،
من الـدّهـر أن أخـلـو بـكـــنّ فـــإنّـــمـــا،

أعـالـج قـلـبـاً طـامـحـاً حـــيث يطـــمـــح
قال أبوهنّ: دعن هذا، فوالله لا أفلح أبداً.
نساء قريشٍ خير النّساء
كانت أمّ هاني بنت أبي طالب تحت زوجها هبيرة بن أبي ليث المخزومي، فهرب يوم فتح مكّة إلى اليمن فمات كافراً. فخطب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أمّ هاني فقالت: والله لقد كنت أحبّك في الجاهليّة فكيف في الإسلام? ولكنّني امرأةٌ مصيبةٌ وأكره أن يؤذك. فقال النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم: " نساء قريشٍ خير نساءٍ ركبن المطايا، أحناهنّ على ولدٍ صغيرٍ، وأرغاهنّ، على زوجٍ ذي يدٍ. "
ماتت في الطّريق
أبو بكر الأنباري، عن أبي اليسر قال: دخلت منزل نخّاسٍ لشراء جاريةٍ، فسمعت في بيت بازاء البيت جاريةً تقول:
وكنّا كزوجٍ من قطا فـي مـفـازةٍ

لدى خفض عيشٍ معجبٍ مونقٍ رغد
أصابهما ريب الـزّمـان فـأفـردا

ولم أر شيئاً قطّ أوحش مـن فـرد
فقلت للنّخّاس: أعرض عليّ هذه المنشدة. فقال إنّها حزينةٌ. قلت: ولم ذلك? قال: اشتريتها من ميراثٍ، فهي باكيةٌ على مولاها. ثمّ لم ألبث أن أنشدت:
وكنّا كغصني بانةٍ وسـط دوحةٍ

نشم جنا الجنّات في عيشةٍ رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ

فيا فردةٌ باتت تحنّ إلـى فـرد
قال أبو السّمراء: فكتبت إلى عبد الله بن طاهر بخبرها. فكتب إليّ: أن ألق عليها هذا البيت، فإن أجازته فاشتراها ولو كانت بخراج خراسان. والبيت:
قريبٌ صدّ، بعيدٌ وصل،

جعلت منه لي مـلاذا
فقالت:
فعاتبوه، فـزاد شـوقـاً

فمات عشقاً، فكان ماذا?
قال أبو السّمراء: فاشتريتها بألف دينارٍ وحملتها إليه. فماتت في الطّريق، فكانت إحدى الحسرات.
تستحييه في الحياة والممات
قال الأصمعي: خرج سليمان بن عبد الملك ومعه سليمان بن المهلّب بن أبي صفرة من دمشق متنزّهين، فمرّا بالجبانة، وإذا امرأةٌ جالسةٌ على قبرٍ تبكي، فهبّت الرّيح، فرفعت البرقع عن وجهها، فكأنّها غمامةٌ جلت شمساً، فوقفنا متعجّبين ننظر إليها، فقال لها ابن المهلّب: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلاً? فنظرت إليهما، ثمّ نظرت إلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي، فإنّه

بملحود هذا القبر، يا فتـيان
وإنّي لأتسحييه والتّرب بيننـا،

كما كنت أستحييه وهو يراني
فانصرفنا ونحن متعجّبون.
قال الأصمعي: رأيت بالبادية أعرابيّةً لا تتكلّم، فقلت: أخرساء هي? فقيل لي: لا، ولكنّها كان زوجها معجباً بنغمتها فتوفّي، فآلت أن لا تتكلّم بعده أبداً.
المبكّرة إلى القبر
قال الفرزدق أبقي لرجلٍ من بني نهشل، يقال له حصن، غلام. فخرجت في طلبه أريد اليمامة. فلمّا صرت في ماءٍ لبني حنيفة ارتفعت لي سحابةٌ، فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرا. فأجابوا، ودخلت الدّار، وأنخت ناقتي، وجلست. فإذا جاريةٌ كأنّها طلعة قمر، فقالت: ممّن الرّجل? قلت من بني حنظلة. قالت: من أيّ حنظلة? قلت: من بني نهشل. قالت: فأنت من الذين يقول فيهم الفرزدق:
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنـا

بيتاً دعائمـه أعـزّ وأطـول
بيتا زرارةٍ محتبٍ بـفـنـائه

ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشل
فقلت: نعم. فتبسّمت، ثمّ قالت: فإنّ جريراً هدم قوله، حيث يقول:
أخزي الذي سمك السّماء مجاشعاً

وأحلّ بيتك بالحضيض الأسفـل
قال: فأعجبني ما رأيت من جمالها وفصاحتها، ثمّ قالت لي: أين تؤم? قلت: اليمامة. فتنفّست نفساً وصل إليّ حرّة، فقلت: أذات خدرٍ، أم ذات بعلٍ? فبكت. فقلت: ما أجبتني عمّا سألتك. قال فلمّا فهمت قولي ولم تكن أوّلاً فهمته من شدّة استغراقها، فلمّا كان بعد ساعةٍ أنشأت تقول:
يخيّل لي، أبا عمرو بن كعب،

بأنّك قد حملت على سـرير
فإن يك هكذا، يا عمرو، إنّي

مبكّرةً عليك إلى القـبـور
ثمّ شهقت شهقةً فماتت. فقلت لهم: من هذه? قالوا: عقيلة بنت الضّحّاك بن النّعمان بن المنذر. قلت: فمن عمرو? قالوا: ابن عمّها، خطبها ولم يدخل بها. فارتحلت من عندهم فدخلت اليمامة، فسألت عن عمرو فإذا به قد دفن في ذلك الوقت من اليوم.
الوفاء في الجاهليّة يختلف عنه غي الإسلام
يروى عن سماك بن حرب: أن زيد بن حارثة قال: يا رسول الله، انطلق بنا إلى فلانة نخطبها عليك أو عليّ إن لم تعجبك: فأتيناها فذكر لها زيد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له: يا رسول الله، إنّي عاهدت زوجي ألاّ أتزوّج بعده أبداً، وأعطاني مثل ذلك. فقال لها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: "إن كان ذلك في الإسلام ففي له، وإن كان ذلك في الجاهلية فليس بشيءٍ".
الوفاء والذّكاء
قال الأصمعي خرجت إلى مقابر البصرة، فإذا أنا بامرأةً على قبرٍ، من أجمل النّساء، وهي تندب صاحبه وتقول:
هل أخبر القبر سائلـيه

أم قرّ عينـاً بـزائريه
أم هل تراه أحاط علماً

بالجسد المستكين فـيه
يا جبلاً كان ذا امتنـاعٍ

وطوداً عـد لآمـلـيه
يا نخلةً طلعها نـضـيد

يقرب من كفّ مجتنيه
يا موت ماذا أردت منّي

حقّقت ما كنت أتّقـيه
دهرٌ رماني بفقد إلفـي

أذمّ دهري وأشتـكـيه
أمّنك الله كـلّ خـوفٍ

وكلّ ما كنت تتّـقـيه
أسكنك الله في جـنـانٍ

تكون أمناً لساكـنـيه
قال، فقلت لها: يا أمة الله، ما هذا منك? قالت: لو أعلمك مكانك ما أنشدت حرفاً، هذا زوجي وسروري وأنسي، والله لا زلت هكذا أبداً أو ألحق به. قلت لها: أعيدي عليّ الشّعر. فقالت: هذا من ذاك. فقلت خذي إليك. وأنشدتها الأبيات، فقالت فإن يكن في الدّنيا الأصمعي فأنت هو.
قصّة عاشقين
قال: كان لأشجع بن عمرو السّلمي جاريةً، يقال لها ريم، وكان يجدها وجداً شديداً، وكانت تحلف له أنّها إن بقيت بعده لم يحكم عليها رجلٌ أبداً. فقال يخاطبها:
إذا غمضت فوقي جفـون حـفـيرةٍ

من الأرض فابكيني بما كنت أصنـع
تعزيك عنّـي بـعـد ذلـك سـلـوةٌ

وإن ليس فيمن وارت الأرض مطمع
فأجابته ريم تقول:
ذكرت فراقاً والـفـراق يصـدّع،

وأيّ حياةٍ بعد موتـك تـنـفـع.
إذا الزّمن الغدّار فـرّق بـينـنـا،

فمالي في طيّبٍ من العيش مطمع.
فلو أبصرت عيناك عينيّ أبصرت،

شآبيب جدرٍ غيثها ليس تقـشـع
وقالت فيها أيضاً:
وليس لإخوان النّساء تطـاول،

ولكنّ إخوان الرّجال يطـول.
فلا تبخلي بالدّمع عنّي فإنّ من،

يضنّ بدمعٍ، عن هوىً، لبخيل.
فما لي إلى ردّ الشّبيبة حـيلةً،

ولا لي إلى دفع المنون سبيل.
وإنّ لداتي قد مضوا لسبيلهـم،

وإنّ بقائي بعدهم لـقـلـيل.
فأجابته ريم:
بكـى مـن صـروفٍ خـطـبـهــنّ جـــلـــيل

ومـن ذا بـه عـمــر الـــحـــياة يطـــول?
ومـن ذا الـذي ينـعـى عـلـى حــدث الـــرّدى،

ولـلـمـوت فـي أثـر الـنّـفـــوس رســـول.
وكـلّ جـلـيلٍ سـوف يلـقـى حــمـــامـــه،

وكـــلّ نـــعـــــيمٍ دائمٍ ســـــــيزول.
لي الـويل، إن عـمّـرت بـــعـــدك ســـاعةً،

وإنّ كـثـير الــويل لـــي لـــقـــلـــيل.
وتـزعـم أنّــي لا أجـــود بـــعـــبـــرةٍ،

إذا نـجـمـه قـد حــان مـــنـــه أفـــول.
ومـن ذا الـذي أبـكـي لـه، إن فــقـــدتـــه،

سواك، ومـن دمـعـــي عـــلـــيه يســـيل.
فلا وقـــيت ريمٌ، إذاً، مـــا تـــخـــافـــه

إذا نـــاب لـــلـــزّمـــان جـــلـــيل.
ولا لــقـــيت يوم الـــقـــيامة ربّـــهـــا

ومـيزانـهـا بـالـصّـالـحـــات ثـــقـــيل
إذا ماسخا قلب امرىءٍ بمودّةٍ، فقلبي بودٍّ عن سواك بخيل.


ولمّا مات أشجع، آلت على نفسها أن لا تأكل طعاماً، ولا تذوق شراباً. فعاشت بعده أيّاماً، ثمّ توفّيت، فدفنت إلى جانبه.
باب ما جاء في غدر النّساء
رأي عمر في النّساء
قال عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه: أستعيذوا بالله من شرار النّساء وكونوا من خيارهنّ على حذرٍ.
رأي الملك عمرو في النّساء
قال عمرو الملك:
إنّ من غرّه النّسـاء بـودٍّ

بعد هندٍ لجاهلٌ مغـرور
حلوة العين واللسان وفيهـا

كلّ شيءٍ يجن فيه الضّمير
رأي طفيل الغنوي في النّساء
وقال طفيل الغنوي:
إنّ النّساء لأشجارٌ تبـين لـنـا

منهنّ مرٌّ، وبعض المرّ مأكول
إنّ النساء متى ينهين عن خلـقٍ

فإنّه واقعٌ لا بـدّ مـفـعـول
إنّ تقويم الضّلوع انكسارها
وفي حديث المرفوع أنّ المرأة خلقت من ضلعٍ عوجاء، فإن ذهبت تقوّمها كسرتها، فاستمع بها على عوجٍ فيها.
وكان أبو ذرّ الغفّاري يقعد على منبر رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم فينشده:
هي الضّلع العوجاء لست تقيمهـا

ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارهـا.
أيجمعن ضعفاً واقتداراً على الفتى

أليس عجيباً ضعفها واقتدارهـا?
في خلافهنّ البركة
وفي الحديث شاوروهنّ وخالفوهنّ، فإنّ في خلافهنّ البركة.
??????علقمة طبٍّ بأدواء النّساء
قال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنّساء فـإنّـنـي

بصيرٌ بأدواء النّساء طـبـيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله

فليس له في ودّهنّ نـصـيب
??تلين لك ولغيرك
وقال آخر:
تمتّع بها، ما ساعفتك، ولا تكـن

جزوعاً إذا بانت، فسوف تبـين.
وإن هي أعطتك الليان فإنّـهـا،

لغيرك من طلّابهـا سـتـلـين؛
وخنها وإن كانت تفي لك، إنّـهـا

على قدم الأيّام سـوف تـخـون
وإن حلفت أن ليس تنقض عهدها،

فليس لمخضوب البنـان يمـين
???????????????????????????????????????????????????تحجّ وتكشف عن وجهها للشّباب
وقال أبو عبيدة: حجّت امرأة عجير السّلولي معه، فأقبلت لا تطرق على شابٍّ في الرّفقة إلاّّ وتكشف وجهها، فقال في ذلك:
أيا ربّ لا تغفر لعتمة ذنبهـا،

وإن لم يعاقبها العجير، فعاقب
حرامٌ عليك الحجّ لا تطعمينـه

إذا كان حجّ المسلمات الثّوائب
للفارس العجلان منها نصيب
?وقال أعرابيٌّ:
لا تكثري قولاً منحتـك ودّنـا،

فقولك هذا للـفـؤاد مـريب،
تعدين ما أوليتني منك قـابـلاً،

وللفارس العجلان منك نصيب?
?لم تكن عنده شريفة

أراد رجلٌ أن يشتري قينةً وقد كان أحبّها، فبات عند مولاها ليلةً فأمكنته من نفسها وكان الامتناع منه، فأنشأ يقول:
ما رأينا بواسط كسـلـيمـى

منظراً لو تزينه بـعـفـاف
بت في جنبها وبات ضجيعـي

جنب القلب طاهر الأطراف
فأقيمي مقامنـا ثـمّ بـينـي،

لست عندي من فتية الأشراف
?لا يشتهي الفاجرة
وقال آخر:
لا أشتهي رنق الـحـياة ولا الـتـي

تخاف وتغشاها المعبـدة الـحـرب
ولكنّني أهـوى مـشـارب أحـرزت

عن النّاس حتّى ليس في صفوها عيب
????الإصبع لا تستر زانية
وقال أعرابيٌّ أيضاً
تبعتك لما كان قلـبـك واحـداً،

وأمسكت لمّا صرت نهباً مقسما.
ولن يلبث الحوض الوثيق بنـاؤه

على كثرة الورّاد أن يتهـدّمـا
?الباغية دون اكتفاء
وقال أبو نواس:
ومظهرةٍ لخلق الله حـبّـاً،

وتلقي يالتّحـيّة والـسّـلام
أتيت فؤادها أشـكـو إلـيه،

فلم أخلص إليه من الزّحـام
فيا من ليس يكفيها خـلـيل،

ولا ألفا خلـيلٍ كـلّ عـام،
أراك بقيّةً من قوم موسـى،

فهم لا يصبرون على طعام.
?إذا غاب بعلٌ جاء بعل
وكان رجلٌ يحبّ امرأةً فخطب في اليوم الذي ماتت فيه، فقيل له في ذلك فقال:
خطبت كما لو كنت قدّمت قبلها

لكانت بلا شكٍ لأوّل خاطـب
إذا غاب بعلٌ كان بعلٌ مكانـه

فلا بدّ من آتٍ وآخر ذاهـب
?تزوّجته وطافت بالبيت عريانةً
وعن المطّلب بن الوداعة السّهميّ قال: كانت ضباعة بنت عامر، من بني عامر بن صعصعة، تحت عبد الله بن جدعان. فمكثت عنده زماناً لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة: ما تصنعين بهذا الشّيخ الكبير الذي لا يولد له: فقولي له فليطلّقك. فقالت ذلك لعبد الله بن جدعان، فقال لها: إنّي أخاف إن طلّقتك تتزوّجي هشام بن المغيرة??! قالت له:فإنّ لك عليّ أن لا أفعل هذا. قال لها: فإن فعلت، فإنّ عليك مائةً من الإبل تنحرينها وتنسجين ثوباً يقطع ما بين الأخشبين وتطوفين بالبيت عريانةً. قالت: لا أطيق ذلك.
وأرسلت إلى هشام فأخبرته، فأرسل إليها ما أهون ذلك، وما يكن بك من ذلك، أنا أيسر من قريش في المال، ونسائي أكثر النّساء بالبطحاء، وأنت أجمل النّساء ولا تعابين في عريك، فلا تأبي ذلك عليه. فقالت لابن جدعان: طلّقني، فإن تزوّجت هشاماً فعليّ ما قلت. فطلّقها بعد استيثاقه منها. فتزوّجها هشام، فنحر عنها مائة جزور، وأمر نساؤه فنسجن ثوباً يملأ ما بين الأخشبين، ثمّ طافت بالبيت عريانةً. قال المطّلب: فأتبعها بصري إذا أدبرت وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئاً ممّا خلق الله منها وهي واضعة يدها على فرجها وقريش قد أحدقت بها، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّـه
التّلفيق عند الزّبير بن بكار
قال الزّبير بن بكار: خطب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من عمّه الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال له: يا ابن أخي، قد انتظرت هذا منك انطلق معي، فخرج معه حتّى أدخله منزله ثمّ أخرج إليه ابنته فاطمة وسكينة، وقال له: اختر أيّهما شئت! فاختار فاطمة، فزوّجه إيّاها. فلمّا حضرت الحسن الوفاة قال لها: إنّك امرأة مرغوب فيك، متشوّف إليك لا تتركين، وإنّي ما أدع في قلبي حسرةً سواك. فتزوّجي من شئت سوى عبد الله بن عمر بن عثمان. ثمّ قال لها: كأنّي قد خرجت وقدمت جاءك لابساً حلّته، مرجلاً جمته، يسير في جانب النّاس معترضاً لك، ولست أدع من الدّنيا همّاً غيرك. فلم يدعها حتّى استوثق منها بالإيمان.
ومات الحسن، فأخرجت جنازته، فوافاه عبد الله بن عمر وكان يجد بفاطمة وجداً شديداً، وكان رجلاً جميلاً كان يقال له المطرف من حسنه، فنظر إلى فاطمة وهي تلطم وجهها على الحسن، فأرسل إليها مع وليدة له: أنّ لابن عمّك أرباً في وجهك فارفقي به. فاسترخت يدها واحمرّ وجهها حتّى عرف ذلك جميع من حضرها. فلمّا انقضت عدّتها خطبها فقالت: كيف أفعل بإيماني? قال لها: لك بكلّ مالٍ مالان؛ وبكلّ مملوكٍ مملوكان. فوفّى لها وتزوجها فولدت له محمّداً. وكان يسمّى من حسنه الدّيباج والقاسم ورقيّة.
وقال الزّبير: لمّا حضرت الوفاة حمزة بن عبد الله بن الزّبير خرجت عليه فاطمة بنت القاسم بن علي بن جعفر بن أبي طالب فقال لها: كأنّي????????? بك تزوّجت طلحة بن عمر بن عبد الله بن معمر، فحلفت له بعتق رقيقها، وإنّ كلّ شيءٍ لها في سبيل الله أن تزوّجته أبداً. فلمّا توفّي حمزة بن عبد الله وحلّت، أرسل إليها طلحة بن عمر فخطبها فقالت له: قد حلفت. وذكرت يمينها، فقال لها: أعطيك بكلّ شيءٍ شيئين. وكانت قيمة رقيقها وما حلفت عليه عشرين ألف دينار، فأصدقها ضعفها فتزوّجته، فولدت له إبراهيم ورملة. فزوّج طلحة ابنته رملة من إسماعيل بن علي بن العبّاس بمائة ألف دينار وكانت فائقة الجمال والخلق، فقال إسماعيل لطلحة بن عمر: أنت أتجر النّاس. قال له والله ما عالجت تجارةً قط. قال: بلى حين تزوّجت فاطمة بنت القاسم بأربعين ألفاً فولدت لك إبراهيم ورملة، فزوّجت رملة بمائة ألف دينار فربحت ستّين ألفاً وإبراهيم.
تزوّجته قبل انقضاء عدّتها
وعن هشام بن الكلبي قال: قال عبد الله بن عكرمة: دخلت على عبد الرّحمن بن هشام أعوده فقلت: كيف تجد? فقال: أجد بي والله الموت، وما موتي بأشد عليّ من أمّ هشام، أخاف أن تتزوّج بعدي. فحلفت له أنّها لا تتزوّج بعده فغشي وجهه نوراً، وقال: الآن فلينزل الموت متى شاء. فلمّا انقضت عدّتها تزوّجت عمر بن عبد العزيز. فقلت في ذلك?.
فإن لقيت خيراً فلا يهنـيهـا

وإن تعست بؤساً فللعين والفم
فلمّا بلغها ذلك كتبت إليّ: قد بلغني ما تمثّلت به، وما مثلي في أخيك إلاّّ كما قال الشّاعر:
وهل كنـت إلاّّ والـهـاً ذات تـرحةٍ

قضت نحبها بعد الحنين الـمـرجّـع
فدع ذكر من قد وارت الأرض شخصه

ففي غير من قد وارت الأرض مقنع
قال: فبلغ منّي كلّ مبلغ. فحسبت حسابها فإذا هي قد عجّلت بالتزوّج وبقي عليها من عدّتها أربعة أيّام. فدخلت على عمر فأخبرته فانقضى النّكاح.
هل يزول الهوى بعد الموت
قال الزّبير بن بكار: كانت إمرأةٌ من العرب تزوّجت رجلاً، فكانت تجد به، ويجد بها وجداً شديداً، فتحالفا وتعاهدا أن لا يتزوّج الباقي منهما. فما لبث أن مات بعلها، فتزوّجت، فلامها أهلها على نقض عهدها، فقالت:
لقد كان حبّي ذاك حبّاً مبرّحـاً

وحبّي لذا مـات ذاك شـديد.
وكانت حياتي عند ذلـك جـنّةٌ

وحبّي لذا طول الـحـياة يزيد
فلمّا مضى، عادت لهذا مودّتي،

كذاك الهوى بعد الممات يبـيد
لم ترع لبعلها حرمةً
حكى الهيثم بن عدي قال:عاهد رجلٌ امرأته وعاهدته أن لا يتزوّج الباقي منهما،فهلك الرّجل، فلم تلبث المرأة أن تزوّجت. فلمّا كان ليلة البناء بها رأت في أوّل الليل شخصاً فتأمّلته، فإذا هو زوجها، وهو يقول لها: نقضت العهد ولم ترعي له. وأصبحت فأتمّت نكاحها.
تركها وأوصى بها فخانته
وروى ابن شهاب: أنّ رجلاً من الأنصار غزا فأوصى ابن عمٍّ له بأهله، فأتى ابن عمّ الرّجل ليلة من الليالي فتطلّع على حال زوجة ابن عمّه فإذا بالبيت مصباحٌ يزهر ورائحةٌ طيّبةٌ، وإذا برجلٍ متّكىءٍ على فراش ابن عمّه وهو يتغنّى ويقول:
وأشعث غرّة الإسلام منّي

خلوت بعرسه بدر التّمام
أبيت على ترائبها ويغـدو

على جرداء لاحقة الحزام
كأنّ مجامع الرّبلات منها

فئام ينتمـين إلـى فـئام

فلم يقدّر الرّجل أن يملك نفسه حتّى دخل عليه فضربه حتّى قتله. ورفع الخبر إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فصعد المنبر وخطب وقال: عزمت عليكم أن كان الرّجل الذي قتل حاضراً ويسمع كلامي فليقم. فقال: أبعده الله، ما كان من خبره? فأخبره وأنشده الأبيات، فقال: أضربت عنقه? قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أبعده الله، فقد هدر دمه.
لم ترع عهداً ولم يرع قرابةً
قال أبو عمرو الشّيباني: كان أبو ذؤيب الهذلي يهوى امرأةً يقال لها أم عمرو، وكان يبعث إليها خالد ابن أخيه زهير، فراودت الغلام عن نفسها، فامتنع وقال: أكره أن يبلغ أبا ذؤيب. فقالت له: ما يراني وإيّاك إلاّّ الكواكب. فبات وقال:
ما ثمّ إلاّّ أنا والكـواكـب

وأمّ عمرو فلنعم الصّاحب
فلمّا رجع إلى أبي ذؤيب استراب به، وقال: والله إنّي لأجد ريح أمّ عمرو منك. ثمّ جعل لا يأتيه إلاّّ استراب به، فقال خالد:
يا قوم ما لي وبـي ذؤيب،

كنت إذا ما جئته من غيب،
يمسّ عطفي، ويشمّ ثوبـي،

كأنّنـي أربـتـه بـريب.
فقال أبو ذؤيب، وهي من قصيدة من جيّد شعره:
دعا خالداً أسرى ليالي نـفـسـه

يولي على قصد السّبيل أمورهـا
فلمّا توفّاها الشّـبـاب وغـدره،

وفي النّفس منه غدرها وفجورها
لوى رأسه عنّي، ومـال بـودّه،

أغانيج خودٍ كان حينـاً يزورهـا
تعلّقـهـا مـنـه دلال ومـقـلة

يظلّ لأصحاب السّفاه يثـيرهـا
فأجابه خالد:
فلا يبعدنّ الله عقلـك إن غـزا

وسافر والأحلام جمٌّ غيورهـا
وكنت إماماً للعشيرة تنتـهـي

إليك إذا ضاقت بأمرٍ صدورها
وقاسمها بالله جـهـداً لأنـتـم

ألذّ من الشّكوى إذا ما يسورها
فلم يغن عنه خدعه حين أزمعت

صريمته والنّفس مرّ ضميرها
قال:وكان أبو ذؤيب أخذها من ملك بن عويمر وكان ملك يرسله إليها، فلمّا كبر أخذت أبا ذؤيب، فلمّا كبر أخذت خالداً. وقال:
تريدين كيما تجـمـعـينـي وخـالـداً

وهل يصلح السّيفان، ويحك، في غمد?
أخالدٌ، مـا راعـيت مـنّـي قـرابةً

فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبـدي.
عن قريبٍ تبيع كفلها
قال أبو عبيدة: كان صخر بن عبد الله الشّريد يتعشّق ابنة عمّه سلمى بنت كعب، وكان يخطبها فتأبى عليه، فأقام على ذلك حيناً ثمّ أغارت بنو أسدٍ على بني سليمٍ فغلبوهم وصخر غائب. وأخذت سلمى فيمن أخذ من النّساء، وقتل عددٌ منهم، وأسر آخرون. وأقبل صخر فنظر إلى ديارهم بلقعاً وأخبر الخبر، فشدّ عليه سلاحه، واستوى على فرسه، وأخذ أثرهم حتّى لحقهم، فلمّا نظروا إليه قالوا: هذا كان شرّد من بني سليم، وقد أحبّ الله أن لا يدع منهم أحداً. فجعل يبرز إليه الفارس بعد الفارس فيقتله، فلمّا أكثر فيهم القتل، حلّت أسارى بني سليم بعضها بعضاً، وثاروا على بني أسد.
ونظر صخر إلى سلمى وهي مع عبد أسود، قد شدّها على ظهره، فطعنه صخرٌ فقتله واستنقذ سلمى ورجع بها. وقد أصابته طعنة أبي ثور الأسدي في جنبه، وتزوّج سلمى. وكان يحبّها ويكرمها، ويفضّلها على أهله. ثمّ بعد ذلك انتقض جرحه فمرض حولاً، وكان نساء الحيّ يدخلن إلى سلمى عوائد فيقلن: كيف أصبح صخر? فتقول: لا حيّ فيرجى ولا ميت فينسى. ومرّ بها رجلٌ وهي قائمةٌ وكانت ذات خلقٍ وأرداف، فقال: أيباع هذا الكفل? فقالت: عن قريبٍ فسمعها صخر، ولم تعلم، فقال لها: ناوليني السّيف أنظر هل صدىءٌ أم لا? وأراد قتلها، فناولته ولم تعلم، فإذا هو لا يقدر على حمله فقال:
أرى أمّ صخرٍ ما تملّ عيادتـي

وملّت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازةً

عليك ومن يغترّ بالـحـدثـان
فأيّ امرىءٍ ساوى بأمٍ حـلـيلةٍ

فلا عاش إلاّّ في شقا وهـوان
أهمّ بأمر الحرم لو أستطيعـه،

وقد حيل بين العير والنّـزوان
لعمري لقد أيقظت من كان نائماً

وأسمعت من كانت لـه أذنـان
فللموت، خيرٌ من حياةٍ كأنّـهـا

محلة يعسوب برأس سـنـان.

قال: ونتأت في موضع الجرح قطعةً فأشاروا عليه بقطعها، فقال لهم: شأنكم. فلمّا قطعت مات.
غدرت حتّى بأبيها
قال كان السّاطرون والملك، ملك اليونانيين، قد بنى حصناً يسمّى الثّرثار ولم يكن له بابٌ ظاهرٌ فكلّ من غزاه من الملوك رجع عنه خائباً حتّى غزاه سابور ذو الأكتاف، ملك فارس، فحصره أشهراً لا يقدر على شيءٍ. فأشرفت يوماً من الحصن النّضيرة ابنة الملك، فنظرت إلى سابور فهويته، وكان من أجمل النّاس وأمدّهم قامةً، فأرسلت إليه: إن أنت ضمنت لي أن تتزوّجني وتفضّلني على نسائك دللتك على فتح هذا الحصن. فضمن لها ذلك فأرسلت إليه: أن أنثر في الثّرثار تبناً واجعل الرّجال يتبعونه حتّى يروا حيث يدخل. فإنّ ذلك المكان يفضي إلى الحصن، وفيه بابه. ففعل ذلك سابور، وعمدت النّضيرة إلى أبيها فسقته الخمر حتّى أسكرته، فلم يشعر أهل الحصن إلاّّ وسابور معهم وهم آمنون.
قال: فلمّا فر سابور بالحصن، وقتل الملك أبا نضيرة، وجمع جنده، تزوّج بالنّضيرة فباتت معه مسهرةً لا تنام تتقلّب من جنبٍ إلى جنب. فقال لها سابور: ما لك لا تنامين? فقالت: إنّ جنبي تجافى عن فراشك. قال: ولم، فوالله ما نامت الملوك على ألين منه ولا أوطأ، وإنّ فرشه لزغب اليمام. فلمّا أصبح سابور نظر إلى ورقة آس بين أعكانها، فتناولها، فدمى موضعها. فقال لها: ويحك بماذا كان أبوك يغذّيك? قالت: بالمخّ والزّبد والبلح والشّهد وصفو الخمر. فقال لها سابور: إنّي لجديرٌ أن لا أستبقيك بعد إهلاك أباك وقومك، وكانت حالك عندهم هذه الحالة التذ تصفين، وأمر بإحضار فرسين فربطت إلى أرجلهما بغدائرها ونفّرا فقطعاها نصفين، فذلك قول عدي حيث يقول:
والحصن صبّت عليه داهيةٌ

من قعره أيد مناكـبـهـا
من يعد ما كان وهو يعمره

أرباب ملك جزل مواهبها
وصلت الخيانة حتّى إلى أمّ البنين?
ويروى أنّ وضّاح اليمن نشأ هو وأمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان بالمدينة صغيرين فأحبّها وأحبّته، وكان لا يصبر عنها حتّى إذا شبّت حجبت عنه، فطال بهما البلاء. فحجّ الوليد بن عبد الملك فبلغه جمال أمّ البنين وأدبها فتزوّجها ونقلها معه إلى الشّام فذهب عقل وضّاح عليها وجعل يذوب وينحل فلمّا طال عليه البلاء وصار إلى الوسواس خرج إلى مكّة حاجاً وقال لعلّي أستعيذ بالله ممّا أنا فيه وأدعو الله فلعلّه يرحمني.
فلمّا قضى حجّه شخص إلى الشّام فجعل يطوف بقصر الوليد بن عبد الملك في كلّ يومٍ لا يجد حيلةً حتّى أرى في يومٍ من الأيّام جاريةً صفراء خارجةً من القصر تمشي فمشى معها ولم يزل بها حتّى أنست به فقال لها: أتعرفين أمّ البنين بموضعي? فقالت: عن مولاتي تسأل? قال لها: هي ابنة عمّي، وإنّها لتسرّ بموضعي لو أخبرتها، قالت: فأنا أخبرها.
فمضت الجّارية فأخبرت أمّ البنين فقالت لها: ويلك أحيٌّ هو? قالت لها: نعم يا مولاتي. قالت لها: إرجعي إليه، وقولي له كن مكانك حتّى يأتيك رسولي، فإنّي لا أدع الاحتيال لك: واحتالت له فأدخلته في صندوق، فمكث عندها حيناً فإذا أمنت أخرجته فقعد معها، وإذا خافت عين رقيب أدخلته في الصّندوق.
وأهدي يوماً لوليد جوهر فقال لبعض خدمه خذ هذا العقد وأمض به إلى أمّ البنين وقل لها: أهدي هذا إلى أمير المؤمنين فوجّه به إليك. فدخل الخادم مفاجأةً ووضّاح معها قاعد فلمحه الخادم،ولم تشعر أمّ البنين، فبادر إلى الصّندوق فدخله.
وأدّى الخادم الرّسالة وقال: هبي لي من هذا الجوهر حجراً واحداً. فقالت له: لا أمّ لك، فما تصنع بهذا. فخرج وهو عليها حنق، فجاء الوليد فأخبره الخبر ووصف له الصّندوق الذي رآه دخله، فقال له: كذبت، لا أمّ لك: ثمّ نهض الوليد مسرعاً فدخل إليها وهي في ذلك البيت وفيه صناديق كثيرة فجاء حتّى جلس على ذلك الصّندوق الذي وصف له الخادم فقال لها: يا أمّ البنين هبي لي صندوقاً من صناديقك هذه? قالت: أنا لك يا أمير المؤمنين، وهي لك، فخذ أيّها شئت. قال: ما أريد إلاّّ هذا الذي تحتي. قالت له يا أمير المؤمنين إنّ فيه شيئاً من أمور النّساء. فقال: ما أريد غيره. قالت فهو لك.
قال فأمر به فحمل، ودعا بغلامين وأمرهما أن يحفرا حتّى وصلا إلى الماء ثمّ وضع فمه في الصّندوق وقال يا صاحب الصّندوق قد بلغنا عنك شيء فإن كان حقّاً فقد دفنّا خبرك، وإن كان كذباً فما أهون علينا، إنّما دفنّا صندوقاً. وأمر بالصّندوق فألقي في الحفيرة، وأمر بالخدّام الذي عرفه فقذف معه، وردّ التّراب عليهما. قال فكانت أمّ البنين لا ترى إلاّّ في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت ذات يومٍ مكبوبةً على وجهها ميّتة.
استطعن التّخلص في آخر لحظة
وروي عن أبي نواس قال حجبت مع الفضل بن الرّبيع فلمّا كنّا بأرض فزارة أيّام الرّبيع، نزلنا منزلاً بفنائهم ذا أرضٍ أريضٍ، ونبتٍ غريضٍ، وقد اكتست الأرض نبتها الزّاهر، وبرزت براخم غررها والتّحف أنوار زخرفها الباهر ما يقصر عن حسنه النّمارق المصفوفة، ولا يداني بهجته الزّرابي المبثوثة. فزادت الأبصار في نضرتها، وابتهجت النّفوس بثمارها. فلم نلبث أن أقبلت السّماء بالسّحاب، وأرخت عزاليها ثمّ اندهمت برذاذٍ ثمّ بطشٍ ثمّ بوابلٍ حتّى إذا تركت الدّيم، كالوهاد انقشعت وأقلعت وقد غادرت الغدران مترعةً برفقٍ، والقيعان ناضرةً تتألّق، يتضاحك بأنوار الزّهرالغضّ حتّى إذا هممت بتشبيه منظرٍ حسنٍ رددته إليه، وإذا تقت إلى موضعٍ طيّبٍ لم يجد في البكاء معولاً إلاّّ عليه. فسرحت طرفي راتعاً في أحسن منظرٍ، واستنشقت من رياها أطيب من ريح المسك الأذفر. فقلت لزميلي: ويحك أمض بنا إلى هذه الخيمات، فلعلّنا نلقى من نأثر عنه خبراً، نرجع به إلى بغداد.
فلمّا انتهينا إلى أوائلها إذا نحن بخباء على باب جارية مبرقعة بطرف مريض وسنان النّظر قد حشي فتوراً، ومليء سحراً، فقلت لصاحبي: والله إنّها لترنو عن مقلة لا رقية لسليمها ولا برء لسقيمها. فقال لي: وكيف السّبيل إلى ذلك? فقلت: استسقها ماءً. فدنونا منها فاستسقيناه فقالت نعم، ونعما عين وإن نزلتما ففي الرّحب والسّعة. ثمّ قامت تتهادى كالدّعص الملبد. فراعني والله ما رأيت منها، فأتت بالماء فشربت منه، وصببت باقية على يدي، ثمّ قلت: وصاحبي عطشانٌ أيضاً. فأخذت الإناء ودخلت الخباء ثمّ جاءت، فقلت لصاحبي: تعرض لكشف وجهها. فقال:
إذا بارك الله في ملبـسٍ

فلا بارك الله في البرقع
تريك عيون المها غـرّةً

وتكشف عن منظرٍ أشنع
فمرّت مسرعةً وأتت وقد كشف البرقع وتقنّعت بخمارٍ أسود وأنشأت وهي تقول:
ألا حيّ ضيفي معشر قد أراهما

أضلّا ولمّا يعرفا مبتغاهـمـا
هما استقيا ماءً على غير ظمأةٍ

ليستمتعا باللحظ ممّن سقاهمـا
يذمّان تلباس البـراقـع ضـلّة

كما ذمّ تجرا سلعةً مشتراهمـا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق