الأقسام

الجمعة، 27 مايو 2011

جيرنيكا,لوحة بابلو بيكاسو تدين الحروب


د. علي يحيى منصور*
 أستاذ في كلية اللغات – جامعة صنعاء

قبل سبعيـن سـنة دمـّر طيـارون ألمان وايطاليـون المدينة الباسكيـة جيرنيـكا, كان هدفـهم اختـبار حـرب القنابـل الشاملة. نسـى النـاس أهوال تلك الحملة لكن ذاكرة الفـن والتاريخ ما زالت تسـتعيد فضاعة ما حدث لتحث العالم على رفع صوته ضد قوى الشـر أينما تحركت. اللوحة البيكاسـوية الأصليـة معلقة اليـوم في متحف راينا صوفيا في مدريـد ولها نسـخة بحجم كبير معروضة في اكبر رواق في مبنى الأمم المتحدة في نيويـورك.ومن سخريـة القدر أن يقف أمامها غالبـاً أعتى مروجي الحروب للإدلاء بتصريـحاتهم الداعيـة لإشـعال الحـروب, دون حياء. يتطرق المؤرخ الألماني هانيس هير في مقال مسهب نشره في صحيفة "دي تسايت" الألمانية , العدد 17بتاريخ 19 ابريل 2007 إلى تلك الجريمة البشعة بتفاصيلها الرهيبة ويسمي المذنبين بأسـمائهم . في الساعات المتأخرة من 1 مايو 1937 انتـشرت أخبار تدميـر جيرنيكا في أرجاء العالم . وصل تقريـر إلى البابا في روما كتبه قس باسكي شـاهد أهوال ذلك الحدث : " كان ذلك يـوما رائعا , السماء ناعمة وصافيـه . دخلنا جيرنيـكا في السـاعة الخامسـة عصـرا . كانت الشـوارع تعـج بالنـاس لحضـور يوم التسـوق الأسـبوعي . سمعنا فجأة صفارة الإنذار ففزعنا , هـرب الناس في جهات شـتى تاركين كل شـيء بحثاً عن مكان آمن . واتجه بعـض الناس نحو الجبال. سرعان ما ظهرت طائرة معادية فوق جيرنيكا وألقت بثلاث قنابل على مركز المدينة . بعد فترة وجيزة شاهدت سبع طائرات أخرى جاءت بعدها ست إضافية ثم خمـس . كانت كلها من طراز يونكرس . سـقطت نساء وسقط أطفال ورجال مسنون مثل الذباب وانتشرت برك الدم هنا وهناك . شـاهدت فلاحا ًيقف مذهولاً أمام المشهد وإذا به يـهوي إثر رشقة من سـلاح رشاش . ثم جاءت الموجة الثـانية من الطائرات وألقت قنابل حارقة على مدينـتنا المنكوبة فحـولتها إلى فرن رهيب ". وجـاء التقريـر الثـاني من صحفـي انجليـزي نشره في صحيفة التايمز فيما بعد. كان قد وصل إلى جيرنيكا في الليلة التالية ليوم القصف وتحدث إلى عدد من شهود العيان وكتب :"جيرنيكا أقــدم مديـنة باسكيـة ومركز التقاليد الثقافية للباسكيين تعرضت للتدمير الشـامل يوم أمـس من قبل الثـوار. وهـذا حادثٌ غير مسبوق في التأريـخ العسكري. ليست هذه المدينة بقاعدة عسكرية وانها بعيدة عن جبهة القتال. والظاهر ان هدف القصف كان سحق معنويـات السـكان المدنيين وتدمير مهد ثـقافة الشعب الباسـكي . لم يتوقف القصف إلا حينما خيم الظلام بعد أن تعرض السكان البالغ عددهم سبعة ألاف إضافة إلى ثلاثة الآف من اللاجئين تعرضوا إلى مذبحة مبرمجة ". إن كان القس قد تحدث باسم الضحايا واستنجد بالمعايير الأخلاقية فإن المراسل الصحفي ركز على حق الشعوب ولحظة العطفة التاريخية .
في مدينة بايرويت الألمانية يصدر القرار : هتلر يهاجم
اشـتركت في تدميـر جيرنيـكا ما يـقارب الـ60 طائرة مقاتـلة وسـرب من الطائـرات الايـطالية . كان الطيـارون مزودين بخرائط دقيقة وفي أثناء عملية القصف التي استمرت ثلاث سـاعات أمطروا المدينة بخليـط من القنـابل شديدة الانفجار والحارقة . وقدر عدد القتلى بـ800 وعدد الجـرحى بـ3 الآلف . كان المسـؤول الميداني المباشر عن هـذا القصف المقدم فولفرام فون رشتهوفن , ضابط الأركان والرجل القوي في فرقة كوندور التابعة للقيـادة الألـمانـيـة والـعـقـيـد خـوان فـيـون , أحـد الضـباط المـقـربـين مـن قـائد الـثوار الجنـرال فرنســيــسكـو فـرانـكو .
كان قـرار محـو جيرنيكا قد اتخذ قبـل سنة خلت على بـعد ألف كيلومتر- في بايـرويت في ألمانيـا. هناك وبعيـد انتهاء حفل موسيقي حضره هتلر للتمتع بملحمة سيجفريد على موسيـقى فاغنـر اقتـرب ضابـطان عضـوان فـي الحـزب النازي من هتلر وأوصلا له نداء استغاثة من الجنرال فرانكو للتدخل إلى جانبه. كان ذلك اليوم هو 25 يوليو 1936. وكان فرانكو في ذلك الوقت قائداً لأحدى فرق الجيش الاسباني المسمى جيش إفريقيا وتمرد على الحكومة الاسـبانية الجمهورية في مدريد. لكنـه لم يسـتطع نقل جيشه من إفريقيا إلى اسبانيا.. لامـتناع الأسطول الاسباني عن تنفيذ ذلك. أراد فرانكو الحصول على طائرات فوراً ولم يتردد هتلر بل اتخذ القرار فـي تلك الليلة بالذات. بعد ثلاثة أيام فقط هبطت في تطوان- وهي في الجزء المستعمر من قبـل اسبـانيا آنذاك- عشرون طائرة ركاب. كذلك أرسـل دكتـاتور ايطاليـا موسـوليني بعض الطائـرات. وخـلال 10 أيـام جـرى نـقل 15 ألف جنـدي اسباني وانقلب تمـرد فرانكو إلى حرب, الحـرب الأهليـة الاسـبانية. كان هـدف هتـلر منـع اسـتفحال أمـر اليـسـار والقوى الشعبية في فرنسا واسبانيا والسعي إلى كسب اسبانيا لضمها إلى خططه المتعلقة بالنظام الأوربي الجـديد. اصدر هتلر أوامر جديدة بإرسال طائرات مقاتلة وقاذفة ودبابات ومدافع. وصل إلى ميـناء قاديـس الاسـباني فـي نوفمبر 6500 جندياً من القوة الجوية الألمانية المعروفة بفرقة كوندور ووضعت تـحت قيـادة فرانـكو. ولغـرض إخفاء الأمر سـافر هؤلاء الجنـود والضباط متنكرين كسـواح مـن منظمة " القوة عبر المتعة " النـازيـة. بلـغ عدد الطيارين وغيرهم من أفراد هذه القوة عشرين ألف معهم خمسمائة طائرة. أما موسوليني فقد بعث بما يشبه جيشا مؤلفا من 80 ألف جندي ترافقهم 500 طائرة. ومع كل ذلك الحشـد فإن الوضع لم يكـن في شـتاء 1936-1937 جيـدا بالنسـبة لجبـهة فرانـكو. لقد تحـركت الجبـهات الأخـرى أيـضا إذ وصلت إلى اسـبانيا الجمهوريـة طائرات سوفيتـية واعـداد من المسـتشارين العسـكريين وأول فصائل الفرقة الأممية. حلت أشـهر فبـراير ومـارس 1937 ووضع الانقلابيين مازال حرجا. لذا سعى فرانكو في أول الأمر إلى احتلال بلباو لأنها مركز صناعي في ارض الباسـك وجهـز لذلك أربـعة ألويـة مـن المقاتليـن المغاربة تدعمهم 250 طائرة مقاتـلة من ألمانيا وايطاليا. لم يكن الألمان راضين عن سلوك المقاتلين الأسـبان لذا قرروا أن يقوموا بالعمليـات العسكرية المبـاشرة دون تنسيـق مع الأسـبان. كانت القيـادة الألمانية قد عيـنت ضابط الأركان فولفـرام فون رشـتهوفن للمهمة منذ يناير 1937 فاستلم قيادة القوات الجوية ومد سلطته حتى على القوات البرية الاسبانية. يقول رشتهوفن في مذكراته اليومية :" بإشارة من إصبعي أصبح كل شيء تحت سيـطرتي, نحـن نعمل كما نـشاء دون أي حسـاب. " ومع ذلك, يـقول المـؤرخ هانيس هير- علينا ان نقرأ مذكرات رشتهوفن بحذر لأنه حذف الكثير من مدونـاته لأسباب أمنية وتجنباً للقوانيـن العالمية . بدأ الهـجوم الكبيـر في 31 مـارس 1937 ودمـرت مدن وقرى مثل دورانجو وايبار وغيرها عن بكرة أبيـها دون أي اعتبـار للسـكان المدنييـن . كانت الأهـداف المـحددة لهذه الحمـلات هي تدميـر كل شي , مصانـع الأسلحة والأعتدة والموانئ ومنشآتها ومخازن المواد الغذائيـة بهجمات عنيـفة . وأصدر رشتهوفن أوامـر الهـجوم على السكان المدنيين بصورة مفاجئة وفي ساعة : اختبار وإرهاب . في 3 ابريل 1937 انهال الموت من السماء على مدينة جيـرينكا وكانت المأساة . اهتز العالم واهتز بابلو بيكاسو. صرح فرانكو بأن الجمهوريين هم الفاعلون وادعـت القيـادة الألمانيـة في اسبانيـا جواباً علـى استفسـار من برليـن :"ليـس للألمـان أي يـد في المذبـحة". ومنع الطيـارون مـن التـحدث عن الأمـر . وبعد ثـلاثة أيـام دخـل رجـال الإطفـاء إلـى الـمدينة الـمحروقة لـجمع شظايا القنابل وجثامين الضحايا لإخفاء الآثار المشبوهة . استخدمت قنابل حارقة في الهجوم تلقى من علو 2000 مترا تـخترق سقـوف البيوت محدثة حرارة تبلغ 2400 درجة مئويـة تلتهم السقوف وتـنزل حتـى أسـس البيـوت . كـما فعلت القنابل اللغمية فعلها في تدمير البيوت ذات الطوابق العديدة وكان المهندسون العسكريون يدونون كل شيء بـعد كـل غـارة , لكـن المـخابرات العسكـرية أتـلـفـت هـذه التـقاريـر للمـحافظـة علـى تـلك الأسـرار العـسكريـة . اسـتخـدم الألـمان والايـطاليون أسلـوب قصـف المسـاحات وتـمثلت الـخطة بهجوم طيار واحد يقوم بتحديد مناطق المدينة بإلقاء قنابل عند زاوية كل مربع ثم تأتي الطائرات الأخرى وتتوزع لقصف كل مربع بكامله ومن شارع إلى شارع . ثـم تـأتي الطـائـرات المطـاردة علـى علـو منـخفض وتحـصـد الـناس الهاربين من البيوت والملاجئ المقصوفة . اطلع القراء بعد نصف قرن أو يـزيد على وثيقة سريـة بخط القـائد رشتـهوفن , مـؤرخة في 28 مايو 1937 مصحوبة بـ 14صورة فوتغرافية لأنقاض إحدى المدن, نشرها أحد أفراد عائلة رشتهـوفن ويوُرد فيـها أن من بين المدن المستهدفة : دورانجو وايبار وجيرنيكا . كـان للطيـارين الألـمان الزخـم الرئـيـس فـي الـهجوم على جيرنيكا . القوا أولا قنابل تدمير من زنة 250 كغ فدمروا أنابيب المياه في الـمدينـة وبذا شلّوا أي محـاولة لـرجال الإطفاء , وأدى القصـف إلـى تـدمير المـعنويات أيـضاً . كان قائد الـهجوم علـى جيرنيكا هو البارون فولفرام فون رشتهوفن , المقدم في الجيش الألماني والمقرب من هتلر . كان طياراً في الحرب العالمية الأولى ودرس الهندسة الميكانيكية فيما بعد وعمل أثناء الحكم النازي في تطوير سلاح الجو الألماني في مصـانع سريـة وواصـل مسيـرة حياته العسكرية بعد 1933. وفي العام 1936 نقل إلى اسبانيا للأشراف على اختـبـار فعالية الطـائـرات والقذائف في خطة التفوق على طائرات الفرنسيين والسوفييت وقد نجح في ذلك فوق أشلاء آلاف الضحايا وأنقاض المدن, وكل ذلك في صراع دام للايديولوجيات المجنونة والقادة الأشرار في تـلك الحـقبة التـاريـخية. ويـتابع التـاريخ هذا الضابط الألماني رشتهوفن ويروي لنا سيرة حياته إذ يقول: حيـنما اندلعـت الحـرب العالـميـة الثـانية 1939 عـاد رشتهوفن الى المانيا وواصل خدمته العسكرية قائدا لسرب طائرات مقاتـلة. وعلـى يـده الخـبيـرة في فنون حـرب القنابل تم تدميرمدينة فيلوت البولندية في اول أيام الحرب وهو الأول من سبتمبر 1939 وحطم بطائرات الشتوكا سيـئة الصـيت معـنـويات سكـان المـدن فـي جبهات القتال كافة. وفي أثناء هـجوم الألـمان على الاتـحاد السوفييتي في صيـف عـام 1941 استطـاع رشتهوفـن مـرة اخـرى الاستفـادة من خبراته عن القنابل الحارقة في تدمير مدن منسك وادرشا وجرودتو وسمولنسك وغيرها.
وفي العام 1943 وصـل فولفرام فون رشتـهوفن قمة مسـيرته العسـكرية إذ قام هتلر بترقيته إلى رتبة مشير وهو في الثامنة والأربعين. وبعد مرور سنتين على ذلك التكريم أي بعد أسابيع قليلة على نهاية الحرب العالمية الثانية في مايو 1945 مات رشتهوفن ودفن في مدينة باد إيشل .
عودة إلى لوحة بيكاسو : في مساحة مستطيل بالأسود والأبيض توحي بمأساة إغريقية كلاسيكية يبعث لنا الفنان الاسبـاني رسائـل عـدة عـن الموت, عـن موتـنا نـحـن الـبـشر. يريد أن يـقول لـنا بـأن كـل مـا نـحبه سيموت لذا فمن الضروري أن نركز على كل ما هو جميل ومعبر لكي يبقى خالدا. الصورة تسجل الإبادة بينما تبقى أسباب تلك الإبادة في خارجها. عيون الضـحـايا كـلهم, لحظة الموت, تتطلع نحو السماء التي يحجبها عنها سقف الملجأ. السماء, مصدر الرحمة والعناية الإلهية والخلاص, تبدو هنا مصدر الموت والفناء والدمار. بيكاسو يدين الشعار الذي كان يرفعه المعرض الصناعي العالمي المقام في باريس والذي زامن أحداث مذبحة جيرنيكا : "التكنولوجيا في الحياة المعاصرة." انه يواجه ألوان المعرض الزاهية بتخطيطات تجسد الدم المسفوح ويذكـّر البشر بنذر يوم الآخرة. ستبقى لوحة بيكاسو تصرخ بصوت هادر : لا نريد الانتقام لدماء الضحايا بل نطالب بتحرير البشرية من هذا الخطر الذي يأتي من السماء بفعل تكنولوجيا الحرب المعاصرة. دوت تلك الصرخة التي أطلقها بيكاسو عبر لوحته قبل سبعين سنة فكيف يا ترى سيكون دوي صرخة بيكاسو لو نهض من قبره اليوم لوقت قصير ليرى كم تطـورت تكـنـولوجـيا الحـروب في وقتنـا الحـاضر وكـم من مدن اختفت من الوجود وكـم مـن الشـعـوب احترقت وتحترق وستحترق بـ"فضل" تلك التكنولوجيا الرهيبة.

أستاذ في كلية اللغات – جامعة صنعاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق