الجزء الأول من أربعة أجزاء
تأليف
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين
، كالمبتدعة والمشركين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إله الأولين
والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وخيرته من
خلقه أجمعين .
قال المصنف رحمه الله تعالى : الحمد لله .
قال المصنف رحمه الله : وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم .
قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى :
وقول الله تعالى : ' 51: 56 ' "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله ' 16 : 36 ' " ولقد بعثنا في
كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " .
قال المصنف رحمه الله تعالى : قوله تعالى : '17 : 23' " وقضى ربك
أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " .
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله : '4 : 36' "واعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئاً" .
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله تعالى :'6 : 151-153' " قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا "
الآيات .
قال المصنف رحمه الله تعالى : قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى
وصية محمد صلى الله عليه وسلم التى عليها خاتمه فليقرأ : "قل تعالوا أتل ما
حرم ربكم عليكم "- إلى قوله - " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه "
الآية .
قال المصنف رحمه الله تعالى : وعن معاذ بن جبل قال : كنت رديف النبى
صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لى : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ، وما
حق العباد على الله ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به
شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ، قلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال :
لا تبشرهم فيتكلوا " . أخرجاه فى الصحيحين .
فضل التوحيد
حديث عبادة من شهد أن لا إله إلا الله إلخ
معنى لا إله إلا الله
معنى محمد رسول الله
معنى أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته
حديث عتبان بن مالك : أن الله حرم على النار
علو الله على عرشه
حديث : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا
من حقق التوحيد دخل الجنة
معنى أن إبراهيم كان أمة
من يدخل الجنة بغير حساب
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام
خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الشرك
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله بعث معاذ إلى اليمين يدعوهم
إلى
بعث معاذ الى اليمن يدعوهم الى التوحيد
________________________________________
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجز الرابع
العودة الي مدونة رحال مخلوقات مدهشة صفحات رحال صفحات مخلوقات مدهشة بيانات الإتصال تنويه عن رحال كلمة المدون صفحاتنا علي فيسبوك
هذا المصنف مرخص بموجب المشاع الابداعي نسب العمل- المشاركة على قدم المساواة 3.0 الاصليةالترخيص .
تأليف
الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
ت 1285 هـ.
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه التكلان .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد: فإن كتاب التوحيد الذى ألفه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد
الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب ، وغفر له ولمن أجاب دعوته إلى يوم يقوم الحساب
- قد جاء بديعاً فى معناه من بيان التوحيد ببراهينه ، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه
وتبيينه . فصار علماً للموحدين ، وحجة على الملحدين . فانتفع به الخلق الكثير ،
والجم الغفير . فإن هذا الإمام رحمه الله فى مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق
المبين ، الذى بعث الله به المرسلين : من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب
العالمين ، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين ، فأعلى الله همته ، وقوى
عزيمته ، وتصدى لدعوة أهل نجد إلى التوحيد ، الذى هو أساس الإسلام والإيمان ،
ونهاهم عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور ، والطواغيت والأوثان ، وعن الإيمان
بالسحرة والمنجمين والكهان .
فأبطل الله بدعوته كل بدعة وضلالة يدعو إليها كل شيطان ، وأقام الله به
علم الجهاد ، وأدحض به شبه المعارضين من أهل الشرك والعناد ، ودان بالإسلام أكثر
أهل تلك البلاد ، الحاضر منهم والباد وانتشرت دعوته ومؤلفاته فى الآفاق ، حتى أقر
الله له بالفضل من كان من أهل الشقاق . إلا من استحوذ عليه الشيطان . وكره إليه
الإيمان ، فأصر على العناد والطغيان . وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته ، كما قال
قتادة رحمه الله عن حال أول هذه الأمة إن المسلمين لما قالوا ( لا إله إلا الله)
أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم ، وضاق بها إبليس ، وجنوده . فأبى الله إلا أن
يمضيها ويظهرها ، ويفلجها وينصرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ،
ومن قاتل بها نصر ، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التى يقطعها الراكب فى ليال قلائل
، ويسير من الدهر ، في فئام من الناس ، لا يعرفونها ولا يقرون بها .
وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته ، وسروا واستبشروا بطلعته ،
وأثنوا عليه نثراً ونظماً .
فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء : محمد بن إسماعيل الأمير فى هذا الشيخ
رحمه الله تعالى :
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه يعد لنا الشرع الشـريف بما يبدى
وينشر جهراً ما طوى كل جاهـل ومبتدع منه ، فوافق ما عندى
ويعمر أركان الشريعة هادماً مشاهد ، ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سـواع ومثله يغوث وود ، بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتـف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا فى سوحها من عقيرة أهلت لغير الله جهراً على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل ومستلم الأركان منهن بالأيدى
وقال شيخنا عالم الإحساء أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى فيه :
لقد رفع المولى به رتبة الهدى بوقت به يعلى الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى وعام بتيار المعارف يقطـع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التى ما ارتقى لها سواه ولا حاذى فناها سميذع
وشمرفى منهاج سنة أحمد يشيد ويحيى ما تعفى ، ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التى أمرنا إليها فى التنازع نرجع
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها وأمسى محياها يضىء ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامساً وقد كان مسلوكاً به الناس ترتع
وجرت به نجد ذبول افتخارها وحق لها بالألمعى ترفع
فأثاره فيها سوام سوافر وأنواره فيها تضىء وتلمع
وأما كتابه المذكور فموضوعه فى بيان ما بعث به الله رسله : من توحيد
العبادة ، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة ، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر أو
ينافى كماله الواجب ، من الشرك الأصغر ونحوه ، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه .
وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف ، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله
تعالى فوضع عليه شرحاً أجاد فيه وأفاد ، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه
ويراد ، وسماه تيسير العزيز الحميد ، فى شرح
كتاب التوحيد .
وحيث أطلق شيخ الإسلام فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن
عبد السلام بن تيمية ، و الحافظ فالمراد
به أحمد بن حجر العسقلانى .
ولما قرأت شرحه رأيته أطنب فى مواضع ، وفى بعضها تكرار يستغنى بالبعض
منه عن الكل ، ولم يكمله . فأخذت فى تهذيبه وتقريبه وتكميله ، وربما أدخلت فيه بعض
النقول المستحسنة تتميماً للفائدة وسميته
فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد .
وأسأل الله أن ينفع به كل طالب للعلم ومستفيد ، وأن يجعله خالصاً لوجهه
الكريم وموصلاً من سعى فيه إلى جنات النعيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى
العظيم .
قال المصنف رحمه الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم .
ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملاً بحديث " كل
أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" أخرجه ابن حبان من
طريقين . قال ابن صلاح : والحديث حسن . ولأبى دواد وابن ماجه " كل أمر ذى بال
لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد
فهو أقطع " ولأحمد " كل أمر ذى بال لا يفتتح بذكر الله فهو
أبتر أو أقطع " وللدارقطني عن أبى هريرة مرفوعاً " كل أمر ذى بال لا
يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع " .
والمصنف قد اقتصر فى بعض نسخه على البسملة ، لأنها من أبلغ الثناء
والذكر للحديث المتقدم . وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقتصر عليها فى مراسلاته ،
كما فى كتابه لهرقل عظيم الروم ووقع لى نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها
بالبسملة ، وثنى بالحمد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وآله . وعلى هذا
فالابتداء بالبسملة حقيقى ، وبالحمدلة نسبى إضافى ، أى بالنسبة إلى ما بعد الحمد
يكون مبدوءاً به .
والباء فى بسم الله متعلقة بمحذوف ، واختار كثير من المتأخرين كونه
فعلاً خاصاً متأخراً .
أما كونه فعلا ، فلأن الأصل فى العمل للأفعال .
وأما كونه خاصاً ، فلأن كل مبتدىء بالبسملة فى أمر يضمر ما جعل البسملة
مبدأ له .
وأما كونه متأخراً ، فلدلالته على الاختصاص ، وأدخل فى التعظيم ، وأوفق
للوجود ، ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى .
وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد ، منها أنه
موطن لا ينبغى أن يتقدم فيه غير ذكر الله . ومنها : أن الفعل إذا حذف صح الابتداء
بالبسملة في كل عمل وقول حركة . فكان الحذف أعم . إنتهى ملخصاً .
وباء بسم الله للمصاحبة . وقيل : للاستعانة . فيكون التقدير : بسم الله
أؤلف حال كونى مستعيناً بذكره ، متبركاً به . وأما ظهوره فى " اقرأ باسم ربك
" وفي " بسم الله مجريها " فلأن المقام يقتضى ذلك كما لا يخفى .
والاسم مشتق من السمو وهو العلو . وقيل : من الوسم وهو العلامة ، لأن
كل ما سمى فقد نوه باسمه ووسم .
قوله ( الله ) قال الكسائي والفراء : أصله الإله ، حذفوا الهمزة ،
وأدغموا اللام فى اللام ، فصارتا لاماً واحدة مشددة مفخمة . قال العلامة ابن القيم
رحمه الله : الصحيح : أنه مشتق ، وأن أصله الإله ، كما هو قول سيبويه وجمهور
أصحابه إلا من شذ . وهو الجامع لمعانى الأسماء الحسنى والصفات العلى . والذين
قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى . وهى الإلهية كسائر أسمائه
الحسنى ، كالعليم والقدير ، والسميع ، والبصير ، ونحو ذلك . فإن هذه الأسماء مشتقة
من مصادرها بلا ريب ، وهى قديمة ، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية
لمصادرها فى اللفظ والمعنى ، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله . وتسمية
النحاة للمصدر والمشتقق منه : أصلاً وفرعاً . ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر
. وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الأخر وزيادة .
قال أبو جعفر بن جرير الله أصله الإله أسقطت الهمزة التى هى فاء الاسم
. فالتقت اللام التى هى عين الاسم واللام الزائدة وهى ساكنة فأدغمت فى الأخرى ،
فصارتا فى اللفظ لاماً واحدة مشددة . وأما تأويلالله فإنه على معنى ما روى لنا عن
عبد الله بن عباس قال : هو الذى يألهه كل شئ ويعبده كل خلق وساق بسنده عن الضحاك
عن عبد الله بن عباس قال : الله ذو
الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين فإن
قال لنا قائل : وما دل على أن الألوهية هى العبادة وأن الإله هو المعبود ، وأن له
أصلاً فى فعل ويفعل ، وذكر بيت رؤية بن العجاج .
لله در الغانيات المدة سبحن
واسترجعن من تألهى
يعنى من تعبدى وطلبى الله بعملى . ولا شك أن التأله التفعل ، من أله
يأله وأن معنى أله إذا نطق به : عبد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد
نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة . وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع - وساق السند إلى
ابن عباس أنه قرأ " ويذرك وآلهتك " قال : عبادتك . ويقول : إنه كان يعبد
ولا يعبد وساق بسند آخر عن ابن عباس ويذرك
وإلاهتك . قال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد
وذكر مثله عن مجاهد ، ثم قال : فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا : أن أله
عبد وأن الإلهة مصدره وساق حديثاً عن أبى سعيد مرفوعاً أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه . فقال
له المعلم : اكتب بسم الله . فقال عيسى : أتدرى ما الله ؟ الله إله الآلهة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لهذا الاسم الثسريف عشر خصائص لفظية
وساقها . ثم قال : وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم :
" لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكيف نحصى خصائص اسم
لمسماه كل كمال على الإطلاق ، وكل مدح وحمد ، وكل ثناء وكل مجد ، وكل جلال وكل
كمال ، وكل عز وكل جمال ، وكل خير وإحسان ، وجود وفضل وبر فله ومنه ، فما ذكر هذا
الاسم فى قليل إلا كثره ، ولا عند خوف إلا أزاله ، ولا عند كرب إلا كشفه ، ولا عند
هم وغم إلا فرجه ، ولا عند ضيق إلا وسعه ، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة ، ولا
ذليل إلا أناله العز ، ولا فقير إلا أصاره غنياً ، ولا مستوحشاً إلا آنسه ، ولا
مغلوب إلا أيده ونصره ، ولا مضطر إلا كشف ضره ، ولا شريد إلا آواه . فهو الاسم
الذى تكشف به الكربات ، وتستنزل به البركات ، وتجاب به الدعوات ، وتقال به العثرات
، وتستدفع به السيئات ، وتستجلب به الحسنات . وهو الاسم الذى قامت به الأرض
والسماوات ، وبه أنزلت الكتب ، وبه أرسلت الرسل ، وبه شرعت الشرائع . وبه قامت
الحدود ، وبه شرع الجهاد ، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء ، وبه حقت الحاقة
. ووقعت الواقعة . وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط ، وقام سوق الجنة والنار .
وبه عبد رب العالمين وحمد ، وبحقه بعثت الرسل ، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث
والنشور وبه الخصام وإليه المحاكمة ، وفيه الموالاة والمعاداة ، وبه سعد من عرفه
وقام بحقه ، وبه شقى من جهله وترك حقه ، فهو سر الخلق والأمر . وبه قاما وثبتا ،
وإليه انتهيا ، فالخلق به وإليه ولأجله . فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب
إلا مبتدئاً منه ومنتهياً إليه ، وذلك موجبه ومقتضاه '3 : 191' " ربنا ما
خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " إلى آخر كلامه رحمه الله .
قوله (الرحمن الرحيم) قال ابن جرير : حدثنى السري بن يحيى حدثنا عثمان
بن زفر سمعت العزرمى يقول : الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين . وساق بسنده
عن أبى سعيد - يعنى الخدرى - "قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن
عيسى ابن مريم قال : الرحمن : رحمن الآخرة
والدنيا . والرحيم : رحيم الآخرة" .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فاسمه الله دل على كونه مألوهاً
معبوداً . يألهه الخلائق : محبة وتعظيماً وخضوعاً ، ومفزعاً إليه فى الحوائج
والنوائب . وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته ، المتضمنين لكمال الملك والحمد ،
وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه ، مستلزم لجميع صفات كماله . إذ يستحيل ثبوت ذلك
لمن ليس بحى ، ولا سميع ، ولا بصير ، ولا قادر ، ولا متكلم ، ولافعال لما يريد ،
ولا حكيم فى أقواله وأفعاله . فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله ، وصفات الفعل
والقدرة والتفرد بالضر والنفع (العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبر أمر
الخليقة : أخص باسم الرب) ، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة
والعطف أخص باسم الرحمن .
وقال رحمه الله أيضاً : الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه
والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم . واذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى : '33 :
44' "وكان بالمؤمنين رحيماً " '9 : 117' "إنه بهم رؤوف رحيم"
ولم يجيء قط رحمان بهم .
وقال : إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات
كماله . فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه ، فمن
حيث هو صفة جرى تابعاً لاسم الله ، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع ، بل
ورد الاسم العلم ، كقوله تعالى "الرحمن على العرش استوى " انتهى ملخصاً
.
ش : ومعناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم ،
فمورده : اللسان والقلب ، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان ، فهو أعم من
الحمد متعلقاً ، وأخص منه سبباً ، لأنه يكون في مقابلة النعمة ، والحمد أعم سبباً
وأخص متعلقاً، لأنه يكون فى مقابلة النعمة وغيرها . فبينهما عموم وخصوص وجهى ،
يجتمعان فى مادة وينفرد كل واحد عن الآخر فى مادة .
ش : أصح ما قيل فى معنى صلاة الله على عبده : ما ذكره البخارى رحمه
الله تعالى عن أبى العالية قال : "صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند
الملائكة" وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره فى كتابيه جلاء الأفهام وبدائع
الفوائد .
قلت : وقد يراد بها الدعاء ، كما فى المسند عن على مرفوعاً "
الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه " .
قوله (وعلى آله) أى أتباعه على دينه ، نص عليه الإمام أحمد هنا . وعليه
أكثر الأصحاب . وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين .
ش : كتاب : مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتباً ، ومدار المادة على
الجمع . ومنه : تكتب بنو فلان ، إذا اجتمعوا . والكتيبة لجماعة الخيل ، والكتابة
بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف . وسمى الكتاب كتاباً : لجمعه ما وضع له .
والتوحيد نوعان : توحيد فى المعرفة والإثبات . وهو توحيد الربوبية
والأسماء والصفات . وتوحيد فى الطلب والقصد . وهو توحيد الإلهية والعبادة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وأما التوحيد الذى دعت إليه الرسل
ونزلت به الكتب فهو نوعان : توحيد فى المعرفة والإثبات ، وتوحيد فى الطلب والقصد .
فالأول هو : إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه
بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده ، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته ، وقد أفصح القرآن
عن هذا النوع جد الإفصاح ، كما فى أول سورة الحديد ، وسورة طه ، وآخر الحشر ، وأول
تنزيل السجدة ، وأول آل عمران ، وسورة الإخلاص بكمالها ، وغير ذلك .
النوع الثانى : ما تضمنته سورة " قل يا أيها الكافرون "
وقوله تعالى : '3 : 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون
الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها .
وأول سورة المؤمن : ووسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها . وجملة سورة
الأنعام ، وغالب سور القرآن . بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعى التوحيد ،
شاهدة به داعية إليه .
فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله ، فهو
التوحيد العلمى الخبرى وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه
، فهو التوحيد الإرادي الطلبي . وإما أمر ونهى ، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه ، فهو
حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل به فى الدنيا وما
يكرمهم به فى الآخرة ، فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم فى
الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب . فهو جزاء من خرج عن حكم
التوحيد . فالقرآن كله فى التوحيد ، وحقوقه وجزائه ، وفى شأن الشرك وأهله وجزائهم
. انتهى .
قال شيخ الإسلام : التوحيد الذى جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات
الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله : لا يعبد إلا إياه ، ولا يتوكل إلا
عليه ، ولا يوالى إلا له ، ولا يعادى إلا فيه ، ولا يعمل إلا لأجله . وذلك يتضمن
إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات . قال تعالى : '2 : 163' "وإلهكم
إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" قال تعالى : '16 : 51' " وقال
الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون " وقال تعالى :
'23 : 117' "ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه
إنه لا يفلح الكافرون" وقال تعالى : '43: 45' "واسأل من أرسلنا من قبلك
من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" وأخبر عن كل نبى من الأنبياء
أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقال : '60 : 4' " قد كانت
لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون
من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله
وحده " وقال عن المشركين : '37 :35 ،36' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا
إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " وهذا فى
القرآن كثير .
وليس المراد بالتوحيد : مجرد توحيد الربوبية . وهو اعتقاد أن الله وحده
خلق العالم ، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف . ويظن هؤلاء أنهم إذا
أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد . وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد
فنوا فى غاية التوحيد فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن
كل ما ينزه عنه . وأقر بأنه وحده خالق كل شئ ، لم يكن موحداً حتى يشهد بأن لا إله
إلا الله وحده . فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة . ويلتزم بعبادة
الله وحده لا شريك له . و الإله هو المألوه المعبود الذى يستحق العبادة . وليس هو
الإله بمعنى القادر على الاختراع . فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على
الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله . وجعل إثبات هذا هو الغاية فى
التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية . وهو الذى يقولونه عن أبى
الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذى بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم
. فإن مشركى العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شئ . وكانوا مع هذا مشركين .
قال تعالى : '12 : 106' "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قالت
طائفة من السلف تسألهم : من خلق السموات والأرض ؟ فيقولون : الله وهم مع هذا
يعبدون غيره قال تعالى : '23 : 84 - 89' " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم
تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم
* سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن
كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون " فليس كل من أقر بأن الله تعالى
رب كل شئ وخالقه يكون عابداً له ، دون ما سواه . داعيا له دون ما سواه راجياً له
خائفاً منه دون ما سواه . يوالى فيه ويعادى فيه . ويطيع رسله ويأمر بما أمر به .
وينهى عما نهى عنه . وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شئ . وأثبتوا الشفعاء
الذين يشركونهم به وجعلوا له أنداداً . قال تعالى : '39 : 43، 44 '" أم
اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله
الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض " وقال تعالى : '10 : 18' "
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل
أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون
" وقال تعالى : '6 : 14' "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء
لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون" وقال تعالى : '2 : 165' "ومن
الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله" ولهذا كان أتباع هؤلاء
من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها . ويصوم وينسك لها ويتقرأ إليها . ثم يقول
: إن هذا ليس بشرك . إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لى . فإذا جعلتها سبباً
وواسطة لم أكن مشركاً. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك . انتهى
كلامه رحمه الله تعالى .
ش : بالجر عطف على التوحيد . ويجوز الرفع على الابتداء .
قال شيخ الإسلام : العبادة هى طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على
ألسنة الرسل .
وقال أيضاً : العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال
والأعمال الظاهرة والباطنة .
قال ابن القيم : ومدارها على خمس عشرة قاعدة . من كملها كمل مراتب
العبودية .
وبيان ذلك : أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح . والأحكام
التى للعبودية خمسة : واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح . وهن لكل واحد من القلب
واللسان والجوارح .
وقال القرطبى : أصل العبادة التذلل والخضوع . وسميت وظائف الشرع على
المكلفين عبادات . لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى .
ومعنى الآية : أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته
. فهذا هو الحكمة في خلقهم .
قلت : وهي الحكمة الشرعية الدينية .
قال العماد ابن كثير : وعبادته هى طاعته بفعل المأمور وترك المحظور .
وذلك هو حقيقة دين الاسلام . لأن معنى الإسلام : الاستسلام لله تعالى ، المتضمن
غاية الانقياد والذل والخضوع . انتهى .
وقال أيضا فى تفسير هذه الاية : ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه
وحده لا شريك له . فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء . ومن عصاه عذبه أشد العذاب . وأخبر
أنه غير محتاج إليهم . بل هم الفقراء فى جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم . وقال
علي بن
أبى طالب رضى الله عنه فى الآية إلا لآمرهم أن يعبدونى وأدعوهم إلى
عبادتى وقال مجاهد : إلا لآمرهم وأنهاهم اختاره الزجاج وشيخ الإسلام . قال : ويدل
على هذا قوله ' 75 : 36 ' "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" قال الشافعى : لا
يؤمر ولا ينهى وقال فى القرآن فى غير موضع "اعبدوا ربكم" "اتقوا
ربكم" فقد أمرهم بما خلقوا له . وأرسل الرسل بذلك . وهذا المعنى هو الذى قصد
بالآية قطعاً ، وهو الذى يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه .
قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى : ' 4 : 64 ' "وما أرسلنا من رسول
إلا ليطاع بإذن الله" ثم قد يطاع وقد يعصى . وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته . ثم
قد يعبدون وقد لا يعبدون . وهو سبحانه لم يقل : إنه فعل الأول . وهو خلقهم ليفعل
بهم كلهم . الثانى : وهو عبادته ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثانى .
فيكونوا هم الفاعلين له . فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم
. انتهى .
ويشهد لهذا المعنى : ما تواترت به الأحاديث .
فمنها ما أخرجه مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً : لو كانت
لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها ؟ فيقول : نعم . فيقول : قد أردت
منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم . أن لا تشرك - أحسبه قال : ولا أدخلك النار -
فأبيت إلا الشرك" فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه : من توحيده
وأن لا يشرك به شيئاً . فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره . وهذه هى الإرادة
الشرعية الدينية كما تقدم .
فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص
مطلق .
يجتمعان فى حق المخلص المطيع . وتنفرد الإرادة الكونية القدرية فى حق
العاصى . فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم .
ش : الطاغوت : مشتق من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد . قال عمر بن الخطاب
رضى الله عنه : الطاغوت الشيطان . وقال جابر رضى الله عنه الطاغوت كهان كانت تنزل
عليهم الشياطين رواهما ابن أبى حاتم . وقال مالك : الطاغوت كل ما عبد من دون الله
.
قلت : وذلك المذكور بعض أفراده ، وقد حده العلامة ابن القيم حداً
جامعاً فقال الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده : من معبود أو متبوع أو مطاع .
فطاغوت كل قوم : من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله أو
يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه
طاعة لله . فهذه طواغيت العالم . إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها . رأيت
أكثرههم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته .
وأما معنى الآية : فأخبر تعالى أنه بعث فى كل طائفة من الناس رسولاً
بهذه الكلمة "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" أي اعبدوا الله وحده
واتركوا عبادة ما سواه ، كما قال تعالى : '2 : 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن
بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" وهذا معنى لا إله إلا الله
فإنها هي العروة الوثقى .
قال العماد ابن كثير فى هذه الآية : كلهم - أى الرسل - يدعو إلى عبادة
الله ، وينهى عن عبادة ما سواه ، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ
حدث الشرك فى بنى آدم فى قوم نوح الذين أرسل إليهم ، وكان أول رسول بعثه الله
تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذى طبق دعوته
الإنس والجن فى المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : '21 : 25'
"وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون"
وقال تعالى فى هذه الآية الكريمة : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا
الله واجتنبوا الطاغوت " فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول :
" لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء " ، فمشيئة الله تعالى الشرعية
عنهم منفية ، لأنه نهاههم عن ذلك على ألسن رسله ، وأما مشيئته الكونية - وهى
تمكينهم من ذلك قدراً - فلا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من
الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعبادة الكفر ، وله فى ذلك الحجة البالغة والحكمة
القاطعة ، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة فى الدنيا بعد إنذار
الرسل ، فلهذا قال : '16 : 36' "فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه
الضلالة" انتهى .
قلت : وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها . وذلك قوله : "فمنهم من
هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" فتدبر .
ودلت هذه الآية على أن الحكمة في ارسال الرسل ، دعوتهم أممهم إلى عبادة
الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين ، وإن
اختلفت شريعتهم كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" وأنه لا
بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح .
ش : قال مجاهد قضى يعني وصى ، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم
ولابن جرير عن ابن عباس وقضى ربك يعني أمر .
وقوله تعالى : " أن لا تعبدوا إلا إياه " المعنى ، أن تعبدوه
وحده دون ما سواه ، وهذا معنى لا إله إلا الله .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى ، والنفي المحض ليس توحيداً ، وكذلك
الاثبات بدون النفي ، فلا يكون التوحيد إلا متضمناً للنفي والإثبات ، وهذا هو
حقيقة التوحيد .
وقوله :" وبالوالدين إحسانا "أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين
إحساناً ، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له . كما قال تعالى في الآية الأخرى '13 :
14'"أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير"
وقوله : "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف
ولا تنهرهما" أى ألا تسمعهما قولاً سيئاً ، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى
مراتب القول السيء "ولا تنهرهما" أي : لا يصدر منك إليهما فعل قبيح ،
كما قال عطاء بن أبي رباح لا تنفض يديك عليهما .
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول
الحسن فقال : "وقل لهما قولاً كريماً" أي ليناً طيباً بأدب وتوقير وقوله
"واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" أى تواضع لهما "وقل رب
ارحمهما" أي في كبرهما وعند وفاتهما " كما ربياني صغيرا " وقد ورد
في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها : الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : آمين ، آمين ، آمين ، فقالوا
يا رسول الله ، على ما أمنت ؟ قال أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرىء ذكرت
عنده فلم يصل عليك قل : آمين ، فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف امرىء دخل عليه شهر
رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل آمين : فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف امرىء أدرك
أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل : آمين ، فقلت آمين" وروى الامام أحمد
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "رغم أنف ، ثم
رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه ، أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة "
قال العماد ابن كثير : صحيح من هذا الوجه عن أبى بكرة رضى الله عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا : بلى يا رسول
الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين . وكان متكئاً فجلس ، فقال ألا وقول
الزور ، ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت" رواه
البخارى ومسلم . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "رضى الرب فى رضى الوالدين ، وسخطه فى سخط الوالدين "
، عن أسيد الساعدى رضى الله عنه قال : "بينا نحن جلوس عند النبى صلى الله
عليه وسلم إذ جاءه رجل من بنى سلمة فقال : يا رسول الله ، هل بقى من بر أبوي شئ
أبرهما به بعد موتهما ؟ فقال : نعم ، الصلاة عليهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ
عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما "
رواه أبو داود وابن ماجة . والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة جداً .
ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله فى هذه الآية : يأمر الله تعالى
عباده بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه فى جميع
الحالات ، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته . انتهى .
وهذه الاية هى التى تسمى آية الحقوق العشرة ، وفى بعض النسخ المعتمدة
من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام ، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام
ابن مسعود الآتي لآية الأنعام ، ليكون ذكره بعدها أنسب .
ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى
الله عليه وسلم (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله
(تعالوا) أي هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ماحرم ربكم عليكم) حقاً ، لا تخرصاً
ولا ظناً ، بل وحياً منه وأمراً من عنده (ألا تشركوا به شيئاً) وكأن في الكلام
محذوفاً دل عليه السياق تقديره : وصاكم ألا تشركوا به شيئاً ، ولهذا قال في آخر
الآية (ذلكم وصاكم به) ا هـ .
قلت : فيكون المعنى : حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به ، وفي
المغني لابن هشام فى قوله تعالى " أن لا تشركوا به شيئا " سبعة أقوال ،
أحسنها : هذا الذى ذكره ابن كثير ، ويليه : بين لكم ذلك لئلا تشركوا ، فحذفت
الجملة من أحدهما ، وهى (وصاكم) وحرف الجر وما قبله من الأخرى . ولهذا إذا سئلوا
عما يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يقول اعبدوا الله ولا تشركوا
به شيئاً ، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان ، لهرقل وهذا هو الذى فهمه
أبو سفيان وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم قولوا لا اله إلا الله تفلحوا
.
وقوله تعالى : "وبالوالدين إحساناً" قال القرطبى : الإحسان
إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما ، وإزالة الرق عنهما ، وترك
السلطنة عليهما ، و(إحساناً) نصب على المصدرية ، وناصبه فعل من لفظه تقديره :
وأحسنوا بالوالدين إحساناً .
وقوله "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم"
إلاملاق : الفقر ، أى لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر ، فإنى رازقكم وإياهم ،
وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر ، ذكره القرطبى . وفى الصحيحين "عن
ابن مسعود رضى الله عنه (قلت : يا رسول الله ، أى الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن
تجعل لله نداً وهو خلقك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك .
قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
'25 : 68 - 70' " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم
الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة
ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم
حسنات وكان الله غفورا رحيما " " .
وقوله : "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال ابن
عطية : نهي عام عن جميع أنواع الفواحش ، وهى المعاصى .
و(ظهر) و (بطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء . انتهى .
وقوله : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " فى
الصحيحين : "عن ابن عباس رضى الله عنه مرفوعاً : لا يحل دم امرىء مسلم يشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس
بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" .
وقوله : "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" قال ابن عطية : (ذلكم)
إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر . وقوله (لعلكم تعقلون) (لعل)
للتعليل أى إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها ، وفى تفسير
الطبرى الحنفى : ذكر أو لا (تعقلون) في (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا
تذكروا وخافوا واتقوا .
وقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده
" قال ابن عطية : هذا نهى عام عن القرب الذى يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة
، ثم استثنى ما يحسن وهو السعى فى نمائه ، قال مجاهد : التي هي أحسن ، إشارة فيه ،
وفي قوله : (حتى يبلغ أشده) قال مالك وغيره : هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ ،
روى نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبى وربيعة وغيرهم .
وقوله : "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " قال ابن كثير :
يأمر تعالى بإقامة العدل فى الأخذ والإعطاء " لا نكلف نفساً إلا وسعها "
أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج
عليه .
وقوله : "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" هذا أمر بالعدل
فى القول والفعل على القريب والبعيد . قال الحنفي : العدل فى القول فى حق الولى
والعدو لا يتغير فى الرضى والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى
الحبيب والقريب '5: 8' " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو
أقرب للتقوى " .
وقوله "وبعهد الله أوفوا" قال ابن جرير : وبوصية الله تعالى
التي وصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه . وأن
يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك هو الوفاء بعهد الله . وكذا قال
غيره ، وقوله "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه
.
وقوله : "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق
بكم عن سبيله" قال القرطبي : هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم . فإنه نهي
وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف . و
(أن) فى موضع نصب . أي أتلو أن هذا صراطي ، عن الفراء و الكسائي . ويجوز أن يكون
خفضاً . أي وصاكم به وبأن هذا صراطي . قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام .
(مستقيماً) نصب على الحال ومعناه مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه . فأمر باتباع طريقه
الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق ،
فمن سلك الجادة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار . قال الله تعالى :
"ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" أي
يميل . انتهى .
وروى الإمام أحمد والنسائي و
الدارمي و ابن أبي حاتم و الحاكم - وصححه - "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ، ثم قال هذا سبيل الله مستقيماً ، ثم
خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه
شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
" الآية " . وعن مجاهد : ولا تتبعوا السبل ، قال : البدع والشهوات .
قال ابن القيم رحمه الله : ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً فإن
الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته ، وحقيقته شئ واحد ، وهو طريق
الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه ولا طريق إليه سواه ، بل الطرق كلها مسدودة
على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله ، وجعله موصلاً لعبادة الله وهو
إفراده بالعبادات ، وإفراد رسله بالطاعة ، فلا يشرك به أحداً في عبادته ولا يشرك
برسوله صلى الله عليه وسلم أحداً في طاعته . فيجرد التوحيد ، ويجرد متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول
الله فأي شئ فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين . ونكتة ذلك ، أن
تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله ، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه ، ولا يكون
لك إرادة متعلقة بمرضاته . فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، والثاني
يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله . وهذا هو الهدى ودين الحق ، وهو معرفة
الحق والعمل به ، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به ، وقل ما شئت من
العبارات التى هذا آخيتها وقطب رحاها . قال : وقال سهل بن عبد الله : عليكم بالأثر
والسنة ، فإنى أخاف ، إنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبى صلى الله عليه
وسلم والاقتداء به فى جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه ، وأذلوه وأهانوه .
ا هـ .
ش : قوله : ابن مسعود هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء -
ابن حبيب الهذلى أبو عبد الرحمن ، صحابى جليل من السابقين الأولين ، وأهل بدر وأحد
والخندق وبيعة الرضوان من كبار علماء الصحابة ، أمر عمر على الكوفة ، ومات سنة
اثنتين وثلاثين رضى الله عنه .
وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه ، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى
بنحوه . وقال بعضهم : معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التى كأنها كتب وختم عليها
فلم تغير ولم تبدل فليقرأ : (قل تعالوا -إلى آخر الآيات) شبهها بالكتاب الذى كتب
ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص . فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب
الله ، كما قال فيما رواه مسلم : "وإنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا :
كتاب الله" وقد روى عبادة بن الصامت قال : "قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا قوله تعالى : "قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" حتى فرغ من الثلاث الآيات . ثم قال من وفى بهن
فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به فى الدنيا كانت عقوبته ،
ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " رواه
ابن أبي حاتم و الحاكم وصححه و محمد بن نصر فى الاعتصام .
قلت : ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله
تعالى به على لسانه . وفى كتابه الذى أنزله '16 : 89' " تبيانا لكل شيء وهدى
ورحمة وبشرى للمسلمين " وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله
عليه وسلم .
ش : هذا الحديث فى الصحيحين من طرق . وفى بعض رواياته نحو مما ذكره
المصنف .
و معاذ بن جبل رضى الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصارى الخزرجى أبو
عبد الرحمن صحابى مشهور من أعيان الصحابة ، شهد بدراً وما بعدها . وكان إليه
المنتهى فى العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه . وقال النبى صلى الله عليه وسلم
معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي بخطوة ، قال فى القاموس والرتوة
الخطوة وشرف من الأرض ، وسويعة من الزمان ، والدعوة ، والفطرة ، ورمية بسهم أو نحو
ميل أو مدى البصر . والراتي العالم الربانى . انتهى
وقال فى النهاية أنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم . وقيل : بميل ،
وقيل : مد البصر . وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثمانى عشرة
بالشام فى طاعون عمواس . وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح
يعلمهم دينهم.
قوله : (كنت رديف النبى صلى الله عليه وسلم) فيه جواز الإرداف على
الدابة ، وفضيلة معاذ رضى الله عنه .
قوله : (على حمار) فى رواية اسمه عفير ، قلت : أهداه إليه المقوقس صاحب
مصر .
وفيه : تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرادف عليه ، خلافاً
لما عليه أهل الكبر .
قوله : (أتدرى ما حق الله على العباد) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام
ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم وحق الله على العباد وهو ما يستحقه
عليهم وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة ، لأنه وعدهم ذلك جزاء لهم على
توحيده '30 : 6' "وعد الله لا يخلف الله وعده" .
قال شيخ الإسلام : كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ،
ليس هو استحقاق مقابلة ، كما يستحق المخلوق على المخلوق ، فمن الناس من يقول : لا
معنى للاستحقاق ، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً
زائداً على هذا ، كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى '30 : 47' "وكان حقاً
علينا نصر المؤمنين" لكن أهل السنة يقولون : هو الذي كتب على نفسه الرحمة
وأوجب على نفسه الحق ، ولم يوجبه عليه مخلوق ، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس
على المخلوق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له ، وأنهم يستحقون
الجزاء بدون أن يكون هو الموجب ، وغلطوا في ذلك ، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية
والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية .
قوله (قلت الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم ، وأنه ينبغي
لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك ، بخلاف أكثر المتكلفين .
قوله : (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) أي يوحدوه بالعبادة . ولقد
أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال :
وعبادة الرحمن غاية حبه مع
ذل عابده هما قطبان
ومداره بالأمر - أمر رسوله-
لا بالهوى والنفس والشيطان
قوله : (ولا يشركوا به شيئاً) أى يوحدوه بالعبادة ، فلابد من التجرد من
الشرك فى العبادة ، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله وحده ، بل هو
مشرك قد جعل لله نداً . وهذا معنى قول المصنف رحمه الله :
(وفيه أن العبادة هى التوحيد ، لأن الخصومة فيه ، وفى بعض الآثار
الإلهية : إنى والجن والانس فى نبأ عظيم ،
أخلق ويعبد غيرى ، وأرزق ويشكر سواى ، خيري إنى العباد نازل ، وشرهم إلى صاعد ،
أتحبب إليهم بالنعم ، ويتبغضون إلى بالمعاصى) .
قوله : (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) قال الحافظ
: اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ، ويستدعى إثبات الرسالة
باللزوم ، إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب الله ، ومن كذب الله
فهو مشرك وهو مثل قول القائل : ومن توضأ صحت صلاته ، أى مع سائر الشروط . ا هـ .
قوله : (أفلا أبشر الناس) فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره ، وفيه ما
كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا . قال المصنف رحمه الله .
قوله (لا تبشرهم فيتكلوا) أى يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس فى
الأعمال . وفى رواية : فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً أى تحرجاً من الإثم . قال
الوزير أبو المظفر : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك
الخدمة فى الطاعة ، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا فى الطاعة ،
ورأوا أن زيادة النعم تستدعى زيادة الطاعة ، فلا وجه لكتمانها عنهم.
وفى الباب من الفوائد غير ما تقدم ، الحث على إخلاص العبادة لله وأنها
لا تنفع مع الشرك ، بل لا تسمى عبادة . والتنبيه على عظمة حق الوالدين . وتحريم
عقوقهما . والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات فى سورة الأنعام . وجواز كتمان العلم
للمصلحة .
قوله : (أخرجاه) أى البخارى ومسلم. و البخارى رحمه الله هو الإمام محمد
ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح
والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته . روى عن الإمام أحمد بن حنبل
والحميدى وابن المدينى وطبقتهم . وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربرى رواى
الصحيح . ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين .
و مسلم رحمه الله هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيرى النيسابورى
صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبى
خيثمة وابن أبى شيبة وطبقتهم . وروى عن البخاري . وروى عنهالترمذي وإبراهيم بن
محمد بن سفيان راوى الصحيح وغيرهما . ولد سنة أربع ومائتين . ومات سنة إحدى وستين
ومائتين بنيسابور رحمهما الله .
قوله : (باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)
باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا (قلت) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف
تقديره هذا . و ما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي وبيان الذي يكفره من
الذنوب ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي وتكفيره الذنوب ، وهذا الثانى أظهر .
قوله : وقول الله تعالى : '6 : 82' "الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال ابن جرير : حدثنى المثنى -
وساق بسنده - عن الربيع ابن أنس قال : الإيمان الإخلاص لله وحده ) .
وقال ابن كثير فى الآية : أى هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم
يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون فى الدنيا والاخرة . وقال زيد
بن أسلم وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه .
وعن ابن مسعود : (لما نزلت هذه الآية قالوا : فأينا لم يظلم نفسه ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بذلكم ، ألم تسمعوا إلى قول لقمان :
"إن الشرك لظلم عظيم" ) .
وساقه البخارى بسنده فقال "حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي
حدثنا الأعمش حدثنى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت : "الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم" قلنا : يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما
تقولون ، لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، بشرك . أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه :
" يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " " .
ولأحمد بنحوه عن "عبد الله قال : ( لما نزلت "الذين آمنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : إنه ليس الذى تعنون . ألم
تسمعوا ما قال العبد الصالح : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم
" إنما هو الشرك) " . وعن عمر أنه فسره بالذنب . فيكون المعنى : الأمن
من كل عذاب . وقال الحسن والكلبي : أولئك لهم الأمن ، فى الآخرة ، وهم مهتدون فى
الدنيا .
قال شيخ الإسلام : والذى شق عليهم أنهم ظنوا أن الظالم المشروط عدمه هو
ظلم العبد نفسه ، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه ، فبين لهم النبى
صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم فى كتاب الله ، فلا يحصل الأمن
وإلاهتداء إلا لمن يلبس إيمانه بهذا الظلم ، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان
من أهل الأمن والاهتداء ، كما كان من أهل الاصطفاء فى قوله : '35 : 32' "ثم
أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق
بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" وهذا لا ينفى أن يؤاخذ أحدهم بظلمه
لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى : '99 : 7 ، 8' " فمن يعمل مثقال ذرة
خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد " سأل أبو بكر الصديق رضى
الله عنه النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أينا لم يعمل سوءاً ؟
فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون
به" فبين أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته فى الدنيا بالمصائب .
فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة : الشرك ، وظلم العباد . وظلمه لنفسه بما دون
الشرك . كان له الأمن التام والاهتداء التام . ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له
الأمن والاهتداء المطلق . بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك فى الآية
الأخرى : وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذى تكون عاقبته فيه إلى الجنة .
ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد
النبى صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له
الأمن التام والاهتداء التام . فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل
الكبائر معرضون للخوف ، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون
بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، من غير عذاب يحصل
لهم . بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم
من دخول الجنة . وقوله إنما هو الشرك إن أراد الأكبر ، فمقصوده أن من لم يكن من
أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة . وإن كان مراده جنس
الشرك . يقال ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر . وحبه
ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك . فهذا فاته
من الأمن والاهتداء بحسبه . ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب فى هذا الشرك بهذا
الاعتبار ملخصاً .
وقال ابن القيم رحمه الله : قوله : "الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال الصحابة : وأينا يا رسول الله
لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال : ذلك الشرك . ألم تسمعوا قول العبد الصالح "إن
الشرك لظلم عظيم" لما أشكل عليهم
المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه .
وأن من ظلم نفسه أى ظلم كان لم يكن آمناً ولا مهتدياً . أجابهم صلوات
الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك . وهذا
والله هو الجواب ، الذى يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو
الشرك . الذى هو وضع العبادة فى غير موضعها . والأمن والهدى المطلق : هما الأمن فى
الدنيا والآخرة.
والهدى إلى الصراط المستقيم . فالظلم المطلق التام رافع للأمن
والاهتداء المطلق التام . ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق
الهدى . فتأمله . فالمطلق للمطلق ، والحصة للحصة ا هـ ملخصاً .
وقوله ("عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : من شهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه . والجنة حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل
" . أخرجاه) .
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصارى الخزرجى ، أبو الوليد ، أحد النقباء
بدرى مشهور مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة ، وقيل : عاش إلى
خلافة معاوية رضى الله عنه .
قوله (من شهد أن لا إله إلا الله) أى من تكلم بها عارفاً لمعناها ،
عاملاً بمقتضاها ، باطناً وظاهراً ، فلابد فى الشهادتين من العلم واليقين والعمل
بمدلولها ، كما قال الله تعالى : '7 4 : 19'"فاعلم أنه لا إله إلا الله"
وقوله '43 : 86' "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" أما النطق بها من غير
معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول
والعمل : قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع .
قال القرطبى فى المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفى مجرد التلفظ
بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب - هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة
المرجئة ، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف فى الإيمان . وأحاديث هذا الباب تدل
على فساده . بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها . ولأنه يلزم منه
تسويغ النفاق ، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح . وهو باطل قطعاً ا هـ .
وفى هذا الحديث ما يدل على هذا . وهو قوله : من شهد فإن الشهادة لا تصح
إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق .
قال النووي : هذا حديث عظيم جليل الموقع ، وهو أجمع - أو من أجمع -
الأحاديث المشتملة على العقائد . فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل
الكفر على اختلاف عقائدههم وتباعدها . فاقتصر صلى الله عليه وسلم فى هذه الأحرف
على ما يباين جميعهم ا هـ .
ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله . وهو فى غير موضع من
القرآن ، ويأتيك فى قول البقاعى صريحا قوله (وحده) تأكيد للإثبات (لا شريك له)
تأكيد للنفى . قال الحافظ : كما قال تعالى : '2 : 163'"وإلهكم إله واحد لا
إله إلا هو الرحمن الرحيم" وقال : '21 : 25' " وما أرسلنا من قبلك من
رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال : '7 : 65' "وإلى
عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" فأجابوه رداً
عليه بقولهم : " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " وقال
تعالى : '22 : 62' " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل
وأن الله هو العلي الكبير " .
فتضمن ذلك نفى الإلهية عما سوى الله ، وهي العبادة . وإثباتها لله وحده
لا شريك له ، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه .
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل
رغباً ورهباً ، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى ، كما تقدم فى أدلة هذا الباب
وما قبله . فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد جعله لله نداً ، فلا ينفعه مع ذلك
قول ولا عمل .
(ذكر كلام العلماء ، فى معنى لا إله إلا الله)
قد تقدم كلام ابن عباس ، وقال الوزير أبو المظفر فى الإفصاح : قوله :
شهادة أن لا إله إلا الله يقتضى أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله ، كما
قال تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" قال: واسم (الله) بعد (إلا) من
حيث أنه الواجب له الإلهية ، فلا يستحقها غيره سبحانه . قال : وجملة الفائدة فى
ذلك : أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، فإنك لما
نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله .
وقال ابن القيم فى البدائع رداً لقول من قال : إن المستثنى مخرج من
المستثنى منه . قال ابن القيم : بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه ، فلا يكون
داخلاً فى المستثنى ، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل فى الإسلام بقوله : لا إله إلا
الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى . وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفى الإلهية
عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص . فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من
دلالة قولنا : (الله إله) ولا يستريب أحد فى هذا البتة . انتهى بمعناه .
وقال أبو عبد الله القرطبي فى تفسيره (لا إله إلا الله) أى لا معبود
إلا هو . وقال الزمخشرى : الإله من أسماء الأجناس . كالرجل والفرس ، يقع على كل
معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق .
وقال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع ، فإن الإله هو المألوه ،
والمألوه هو الذى يستحق أن يعبد . وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات
التى تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع ، قال : فإن
الإله هو المحبوب المعبود الذى تألهه القلوب بحبها ، وتخضع له وتذل له ، وتخافه
وترجوه ، وتنيب إليه فى شدائدها ، وتدعوه فى مهماتها ، وتتوكل عليه فى مصالحها ،
وتلجأ إليه وتطمئن بذكره ، وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده ، ولهذا كانت
(لا إله إلا الله) أصدق الكلام ، وكان أهلها أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها
أعداءه وأهل غضبه ونقمته ، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق ، وإذا لم يصححها
العبد فالفساد لازم له فى علومه وأعماله .
وقال ابن القيم : (الإله) هو الذى تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة ،
وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً .
وقال ابن رجب : (الإله) هو الذى يطاع فلا يعصى ، هيبة له وإجلالاً ،
ومحبة وخوفاً ورجاء ، وتوكلاً عليه ، وسؤالاً منه ودعاء له ، ولا يصلح هذا كله إلا
الله عز وجل ، فمن أشرك مخلوقاً فى شئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان
ذلك قدحاً في إخلاصه فى قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب
مافيه من ذلك .
وقال البقاعي : لا إله إلا الله ، أى انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق
غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما
يكون علماً إذا كان نافعاً ، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما
تقتضيه ، وإلا فهو جهل صرف .
وقال الطيبي : (الإله) فعال بمعنى مفعول ، كالكتاب بمعنى المكتوب ، من
أله إلهة أى عبد عبادة . قال الشارح : وهذا كثير فى كلام العلماء وإجماع منهم .
فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى
كائناً ما كان ، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه ، و هذا هو التوحيد الذى
دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره ، كما قال تعالى عن الجن : '72 :
1' " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي
إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من
عرف مدلولها نفياً وإثباتاً ، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير
علم واعتقاد وعمل ، فقد تقدم فى كلام العلماء أن هذا جهل صرف ، فهى حجة عليه بلا
ريب .
فقوله فى الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها . وقد أوضح
الله ذلك وبينه فى قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين ، فما أجهل عباد القبور
بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافى لكلمة الاخلاص لا إله إلا الله !
فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظاً ومعنى . وهؤلاء المشركون
أقروا بها لفظاً وجحدوها معنى ، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع
العبادة ، كالحب والتعظيم ، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء ، وغير ذلك من أنواع
العبادة . بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب ، فإن أحدهم إذا وقع فى شدة أخلص
الدعاء لغير الله تعالى ، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً من الله ، بخلاف حال المشركين
الأولين ، فإنهم يشركون في الرخاء ، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده ، كما
قال تعالى '29 : 65' " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما
نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " الآية . فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه
الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم .
وقوله : (وأن محمداً عبده ورسوله) أي وشهد بذلك ، وهو معطوف على ما
قبله على نية تكرار العامل ، ومعنى العبد هنا المملوك العابد ، أي أنه مملوك لله
تعالى . والعبودية الخاصة وصفه ، كما قال تعالى : '39 : 26' "أليس الله بكاف
عبده" فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فالنبى صلى الله عليه وسلم
أكمل الخلق فى هاتين الصفتين الشريفتين . وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله
تعالى ، لا يشركه فى شئ منهما ملك مقرب ولا نبى مرسل . وقوله : عبده ورسوله أتى
بهاتين الصفتين وجمعهما دفعاً للإفراط والتفريط ، فإن كثيراً ممن يدعى أنه من أمته
أفرط بالغلو قولاً وعملاً ، وفرط بترك متابعته ، واعتمد على الآراء المخالفة لما
جاء به ، وتعسف فى تأويل أخباره وأحكامه ، بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد
لها مع إطراحها فإن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضى الإيمان به وتصديقه فيما أخبر
، وطاعته فيما أمر ، والانتهاء عما عنه نهى وزجر ، وأن يعظم أمره ونهيه ، ولا يقدم
عليه قول أحد كائناً من كان . والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من
القضاة والمفتين - خلاف ذلك ، والله المستعان . وروى الدارمى فى مسنده عن
"عبد الله بن سلام رضى الله عنه أنه كان يقول : إنا لنجد صفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم : إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين ، أنت عبدي
ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب بالأسواق ، ولا يجزى
بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويتجاوز ، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد
أن لا إله إلا الله ، يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً " قال عطاء بن يسار : وأخبرنى أبو واقد
الليثى أنه سمع كعباً يقول مثل ما قال ابن سلام .
قوله : (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أى خلافاً لما يعتقده النصارى أنه
الله أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة . تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً '23 :
91'"ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" فلا بد أن يشهد أن عيسى
عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله ، خلقه من أنثى بلا ذكر ، كما قال
تعالى : '3 : 59'"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون" فليس رباً ولا إلهاً . سبحان الله عما يشركون . قال تعالى '19 : 29 -
36'" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله
آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما
دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت
ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ
من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه
هذا صراط مستقيم " وقال : '4 : 172'"لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله
ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً "
ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود : أنه ولد بغى ، لعنهم الله تعالى .
فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى
عليه السلام ، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه : أنه عبد الله ورسوله .
قوله : (وكلمته) إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى :
كن كما قاله السلف من المفسرين . قال الإمام أحمد فى الرد على الجهمية بالكلمة
التى ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن بكن كان .
فكن من الله تعالى قول ، وليس كن مخلوقاً ، وكذب النصارى والجهمية على الله فى أمر
عيسى انتهى .
قوله : (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير : خلقه بالكلمة التى أرسل بها
جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل : فكان عيسى بإذن الله عز وجل ،
فهو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التى أرسل بها : هو جبريل عليه
السلام .
وقوله : (وروح منه) قال أبى بن كعب : عيسى روح من الأرواح التى خلقها
الله تعالى واستنطقها بقوله : '7 : 271' "ألست بربكم قالوا بلى" بعثه
الله إلى مريم فدخل فيها رواه عبد بن حميد
وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند ، وابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهم . قال الحافظ
: ووصفه بأنه منه ، فالمعنى أنه كائن منه ، كما فى قوله تعالى'45 : 12'" وسخر
لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " فالمعنى أنه كائن منه ، كما أن
معنى الأية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته
وحكمته .
قال شيخ الإسلام : المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه
ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به ، وامتنع أن تكون
إضافته إضافة مخلوق مربوب . وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبريل
عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى ، لأن ما قام بنفسه لا
يكون صفة لغيره .
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين :
أحدهما : أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها ، فهذا شامل لجميع
المخلوقات ، كقولهم : سماء الله ، وأرض الله . فجميع المخلوقين عبيد الله ، وجميع
المال مال الله .
الوجه الثانى : أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه ،
كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون فى غيره. وكما يقال فى مال الخمس والفىء :
هو مال الله ورسوله . ومن هذا الوجه : فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره .
فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه ، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه . ا . هـ
ملخصاً .
قوله : (والجنة حق والنار حق) أى وشهد أن الجنة التى أخبر بها الله
تعالى فى كتابه أنه أعدها للمتقين حق ، أى ثابتة لا شك فيها ، وشهد أن النار التى
أخبر بها تعالى فى كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة ، كما قال تعالى : '57
:1' " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين
آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وقال
تعالى : '2 : 24'" فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
" وفى الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافا
للمبتدعة . وفيهما الإيمان بالمعاد .
وقوله : (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) هذه الجملة جواب الشرط
وفى رواية : أدخله الله من أى أبواب الجنة الثمانية شاء . قال الحافظ : معنى قوله
: على ما كان من العمل أى من صلاح أو فساد ، لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول
الجنة ، ويحتمل أن يكون معنى قوله : على ما كان من العمل أن يدخله الجنه على حسب
أعمال كل منهم فى الدرجات .
قال القاضى عياض : ما ورد فى حديث عبادة يكون مخصوصاً لمن قال ما ذكره
صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه
فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول
وهلة .
(قال : ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا
الله يبتغي بذلك وجه الله) .
قوله : (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله . وهذا طرف من
حديث طويل أخرجه الشيخان .
وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة ، ابن مالك بن عمرو بن
العجلان الأنصاري ، من بنى سالم بن عوف ، صحابي مشهور ، مات فى خلافة معاوية .
وأخرج البخاري فى صحيحه بسنده "عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك
أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال : يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
قال : يا معاذ ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ ، قال : لبيك يا
رسول الله وسعديك - ثلاثاً - قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار ، قال : يا رسول الله أفلا
أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذاً يتكلوا ، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً
" . وساق بسند آخر : "حدثنا معتمر قال : سمعت أبي ، قال : سمعت أنساً
قال : ذكر لي أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ ابن جبل : من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة . قال :
ألا أبشر الناس ؟ قال : لا ، إنى أخاف أن يتكلوا " .
قلت : فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنها تتضمن
ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص .
قال شيخ الإسلام وغيره : فى هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات
عليها ، كما جاءت مقيدة بقوله : خالصاً من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى
جملة ، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة ، لأن الإخلاص هو
انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً ، فإذا مات على تلك
الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله
إلا الله ، وكان فى قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، وما يزن خردلة ، وما يزن
ذرة" وتواترت بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها ،
وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا
يصلون ويسجدون لله ، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ، ومن
شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال ، وأكثر
من يقولها لا يعرف الإخلاص ، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة ، ولم
تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه . وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء
، كما فى الحديث "سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته" وغالب أعمال هؤلاء
إنما هى تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى : '43 : 23'
"إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" .
وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث ، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم
يكن فى هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله
أحب إليه من كل شئ ، فإذاً لا يبقى فى قلبه إرادة لما حرم الله ، ولا كراهة لما
أمر الله . وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك ، فإن هذا
الإيمان وهذا الإخلاص ، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين ، لا تترك له ذنباً
إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار ، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك
الأكبر والأصغر ، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً ، فيغفر له ويحرم على النار ، وإن
قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك ،
فهذه الحسنة لا يقاومها شئ من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات ، كما فى حديث
البطاقة فيحرم على النار ، ولكن تنقص درجته فى الجنة بقدر ذنوبه ، وهذا بخلاف من
رجحت سيئاته بحسناته ومات مصراً على ذلك ، فإنه يستوجب النار . وإن قال لا إله إلا
الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك ، بل أتى بعدها بسيئات رجحت
على حسنة توحيده ، فإنه فى حال قولها كان مخلصاً لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد
والإخلاص فأضعفته ، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن ، فإن
حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصراً على سيئات ، فإن مات على ذلك
دخل الجنة .
وإنما يخاف على المخلص أن يأتى بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها
بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات ، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر ، فإن
سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح
جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين ، فيضعف قول لا إله إلا الله ،
فيمتنع الإخلاص بالقلب ، فيصير المتكلم بها كالهاذى أو النائم ، أو من يحسن صوته
بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة ، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين
، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك ،
ويموتون على ذلك ، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة . فإذا كثرت الذنوب ثقل
على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها ، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن
، واستبشر بذكر غير الله ، واطمأن إلى الباطل ، واستحلى الرفث ، ومخالطة أهل
الغفلة ، وكره مخالطة أهل الحق ، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس فى قلبه ،
وبفيه ما لا يصدقه عمله .
قال الحسن : ليس الإيمان
بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر فى القلوب وصدقته الأعمال . فمن قال خيراً وعمل
خيراً قبل منه ، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه .
وقال بكر بن عبد الله المزنى : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة
ولكن بشئ وقر في قلبه .
فمن قال : لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً ،
وكان صادقاً فى قولها موقناً بها ، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه ، وانضاف إلى
ذلك الشرك الأصغر العملي ، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة ، ومات مصراً على
الذنوب ، بخلاف من يقولها بيقين وصدق ، فإنه إما أن لا يكون مصراً على سيئة أصلاً
، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها
: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها ، أو
قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ، ثم
لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام ، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من
قلوبهم ، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوي على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم
. انتهى ملخصاً .
وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم و ابن رجب وغيرهم .
قلت : وبما قرره شيخ الاسلام تجتمع الأحاديث .
قال : وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد
وبالعكس، وفي تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا
كان خالصاً لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
(تنبيه) قال القرطبي في تذكرته : قوله في الحديث من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال
الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، والدليل على أنه
أراد بالإيمان ما قلناه ، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء
والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا - ثم بعد ذلك
يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد بذلك التوحيد المجرد من
الأعمال ا هـ ملخصاً من شرح سنن ابن ماجة .
قال المصنف رحمه الله ("وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى
عليه السلام : يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به ، قال : قل يا موسى لا إله إلا
الله . قال : كل عبادك يقولون هذا ، قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن
غيري والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله
رواه ابن حبان والحاكم وصححه") .
أبو سعيد : اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي ، صحابي
جليل وأبوه كذلك ، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها ، مات بالمدينة سنة ثلاث أو
أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وستين .
قوله (أذكرك) أي أثني عليك به (وأدعوك) أي اسألك به .
قوله (قل يا موسى لا إله إلا الله) فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ،
ولا يقتصر على لفظ الجلالة ، ولا على هو كما يفعله غلاة جهال المتصوفة ، فإن ذلك
بدعة وضلال .
قوله : (كل عبادك يقولون هذا) ثبت بخط المصنف بالجمع ، والذى فى الأصول
يقول بالإفراد مراعاة للفظة كل وهو فى المسند من حديث عبد الله بن عمر بلفظ الجمع
كما ذكره المصنف على معنى كل ومعنى قوله كل عبادك يقولون هذا أي إنما أريد شيئاً تخصني
به من بين عموم عبادك ، وفى رواية بعد قوله كل عبادك يقولون هذا - قل لا إله إلا
الله ، قال لا إله إلا أنت يارب، إنما أريد شيئاً تخصنى به .
ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما
لا نهاية له ، كانت من أكثر الأذكار وجوداً ، وأيسرها حصولاً ، وأعظمها معنى .
والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التى ليست في الكتاب ولا في
السنة .
قوله (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات ، أي لو أن السموات
السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى ، والأرضين السبع ومن فيهن ، وضعوا فى
كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى ، مالت بهن لا إله إلا الله .
وروى الإمام أحمد عن "عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه
وسلم أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته : آمرك بلا إله إلا الله ، فإن
السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ، ولا إله إلا الله فى كفة رجحت بهن
لا إله إلا الله ، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا
إله إلا الله " .
قوله : (في كفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء ، أي كفة الميزان .
قوله : (مالت بهن) أي رجحت . وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك ، وتوحيد
الله الذي هو أفضل الأعمال . وأساس الملة والدين ، فمن قالها بإخلاص ويقين ، وعمل
بمقتضاها ولوازمها وحقوقها ، واستقام على ذلك ، فهذه الحسنة لا يوازنها شئ ، كما
قال الله تعالى : '46 : 13' "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون" .
ودل الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر . كحديث عبد الله بن
عمرو مرفوعاً : خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى : لا
إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير رواه أحمد
والترمذي ، وعنه أيضا مرفوعاً يصاح برجل من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة
فينشر له تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مد البصر ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟
أظلمك كتبتى الحافظون فيقول : لا يارب . فيقال : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل
فيقول : لا ، فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له
بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . فيقول يا رب ما
هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ،
والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه .
والنسائى وابن حبان والحاكم . وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقال الذهبي
في تلخيصه : صحيح .
قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما
تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما
بين السماء والأرض . قال : وتأمل حديث البطاقة التى توضع فى كفة ويقابلها تسعة
وتسعون سجلاً كل سجل منها مدى البصر ، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات ، فلا يعذب .
ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه .
قوله : (رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر
المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ ، أبو حاتم التميمي البستي
الحافظ صاحب التصانيف : كالصحيح ، والتاريخ ، والضعفاء ، والثقات وغير ذلك . قال
الحاكم : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ، ومن عقلاء الرجال .
مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة .
وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبوعبد الله
الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وصنف التصانيف ، كالمستدرك
وتاريخ نيسابور وغيرهما ، ومات سنة خمس وأربعمائة .
قال المصنف رحمه الله (وللترمذي - وحسنه - "عن أنس : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض
خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة") .
ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث ، وقد رواه الترمذي
بتمامه فقال : "عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال
الله تبارك وتعالى : يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا
أبالي ، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى يا
بن آدم ، إنك لو أتيتني - الحديث ".
الترمذي : اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - بن موسى بن
الضحاك السلمي أبو عيسى ، صاحب الجامع وأحد الحفاظ ، كان ضرير البصر ، روى عن
قتيبة وهناد والبخاري وخلق . مات سنة تسع وسبعين ومائتين .
وأنس : هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرج] ، خادم رسول الله صلى
الله عليه وسلم خدمه عشر سنين ، وقال له : اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة مات
سنة اثنتين وقيل : ثلاث وتسعين ، وقد جاوز المائة .
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه ، وهذا لفظه
"ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة"
ورواه مسلم ، وأخرجه الطبرانى من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم .
قوله : (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف : وقيل بكسرها والضم أشهر
وهو ملؤها أو ما يقارب ملئها .
قوله : (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) شرط ثقيل فى الوعد بحصول المغفرة
، وهو السلامة من الشرك : كثيره وقليله ، صغيره وكبيره . ولا يسلم من ذلك إلا من
سلم الله تعالى ، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى : '26 : 89' " يوم لا
ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " .
قال ابن رجب : من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها
مغفرة -إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه ، وقام بشروطه
بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عند الموت ، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من
الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية . فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه
كل ما سوى الله : محبة وتعظيماً ، وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً ، وحينئذ تحرق
ذنوبه وخطاياه كلها ، وإن كانت مثل زبد البحر ا هـ ملخصاً .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فى معنى الحديث : ويعفى لأهل
التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك . فلو لقى الموحد
الذي لم يشرك بالله شيئاً ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة ، ولا
يحصل هذا لمن نقص توحيده . فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب
، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه ، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل
الذنوب ولو كانت قراب الأرض ، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى . ا هـ .
وفى هذا الحديث : كثرة ثواب التوحيد ، وسعة كرم الله وجوده ورحمته
والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب ، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة
بين المنزلتين ، وهي الفسوق ، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر ، ويخلد في النار .
والصواب قول أهل السنه : أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ، و لا يعطاه على الإطلاق ،
بل يقال هو مؤمن عاص ، أو مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته . وعلى هذا يدل الكتاب
والسنة وإجماع سلف الأمة . و "عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي
به إلى سدرة المنتهى ، فأعطي ثلاثاً : أعطى الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ،
وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً : المقحمات " رواه مسلم .
قال ابن كثير فى تفسيره : وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه
والنسائى "عن أنس ابن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليبه وسلم هذه
الآية '74 : 56' "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" وقال : قال ربكم : أنا
أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له "
.
قال المصنف رحمه الله : (تأمل الخمس اللواتي فى حديث عبادة فإنك إذا
جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله :
لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين .
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه
لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه . وفيه إثبات
الصفات خلافاً للمعطلة . وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله فى "حديث
عتبان إن الله حرم على النار من قال لا
إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله " تبينت لك أن ترك الشرك في قولها باللسان
فقط .
قوله : (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) أي ولا عذاب .
(قلت) تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصى .
قال الله تعالى : '16 : 120' "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله
حنيفاً ولم يك من المشركين" وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية
فى تحقيق التوحيد .
الأولى : أنه كان أمة ، أي قدوة وإماماً معلماً للخير . وما ذاك إلا
لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة فى الدين .
الثانية : قوله قانتاً قال شيخ الإسلام : القنوت دوام الطاعة ، والمصلي
إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت . قال تعالى : '39 : 9' "أمن هو
قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" ا هـ . ملخصاً .
الثالثة : أنه كان حنيفاً (قلت) قال العلامة ابن القيم الحنيف المقبل
على الله ، المعرض عن كل ما سواه ا . هـ .
الرابعة : أنه كان من المشركين ، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه ، وبعده عن
الشرك .
قلت : يوضح هذا قوله تعالى : '60 : 4' "قد كانت لكم أسوة حسنة في
إبراهيم والذين معه" أي على دينه من إخوانه المرسلين ، قاله ابن جرير رحمه
الله تعالى : " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا
بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول
إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء " وذكر تعالى عن خليله
عليه السلام أنه قال لأبيه آزر : '19 : 48 ، 49' " وأعتزلكم وما تدعون من دون
الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون
الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا " فهذا هو تحقيق التوحيد . وهو
البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم ، والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم . فالله المستعان
.
قال المصنف رحمه الله في هذه الآية : "إن إبراهيم كان أمة"
لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين (قانتاً لله) لا للملوك ولا للتجار
المترفين (حنيفاً) لا يميل يميناً ولا شمالاً ، كفعل العلماء المفتونين (ولم يك من
المشركين) خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين . أ هـ .
وقد روى ابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله : "إن إبراهيم كان
أمة" على الإسلام . ولم يك فى زمانه أحد على الإسلام غيره.
قلت : ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم : من أنه كان إماماً يقتدى به
فى الخير .
قال : (وقوله تعالى : '23 : 57 - 59' " إن الذين هم من خشية ربهم
مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون " .
وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التى أعظمها :
أنهم بربهم لا يشركون . ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح فى إسلامه : من شرك جلي
أو خفي ، نفى ذلك عنهم ، وهذا هو تحقيق التوحيد ، الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت
ونفعتهم .
قلت : قوله حسنت وكملت هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر ، وأما
الشرك الأكبر فلا يقال فى تركه ذلك ، فتدبر . ولو قال الشارح : صحت لكان أقوم .
قال ابن كثير : "والذين هم بربهم لا يشركون" أي لا يعبدون مع
الله غيره ، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا
ولداً وأنه لا نظير له .
قال المصنف : ("عن حصين بن عبد الله بن عبد الرحمن قال : كنت عند
سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي
انقض البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن فى صلاتي ولكني لدغت ، قال :
فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ،
قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين
أو حمة . قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : عرضت على الأمم ، فرأيت النبى ومعه الرهط ، والنبى ومعه
الرجل والرجلان ، والنبى وليس معه أحد . إذ رفع لى سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ،
فقيل : هذا موسى وقومه ، فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون
ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب . ثم نهض فدخل منزله ، فخاض الناس فى أولئك
، فقال بعضهم : فلعلهم اللذين صحبوا رسول الله صلى اله عليه وسلم وقال بعضهم :
فلعلهم الذين ولدوا فى الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئاً ، وذكروا أشياء ، فخرج
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال : هم الذين لا يسترقون ، ولا
يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون . فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول
الله ادع الله أن يجعلنى منهم . قال : أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن
يجعلني منهم . فقال : سبقك بها عكاشة ") .
هكذا أورده المصنف غير معزو ، وقد رواه البخارى مختصراً ومطولاً ،
ومسلم ، واللفظ له ، والترمذي والنسائي .
قوله : عن (حصين بن عبد الرحمن) هو السلمي ، أبو الهذيل الكوفى . ثقة ،
مات سنة ست وثلاثين ومائة ، وله ثلاث وتسعون سنة .
وسعيد بن جبير : هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس ، روايته عن
عائشة وأبى موسى مرسلة . وهو كوفى مولى لبني أسد ، قتل بين يدى الحجاج سنة خمس
وتسعين ولم يكمل الخمسين .
قوله : (انقض) هو بالقاف والضاد المعجمة أى سقط . والبارحة هى أقرب
ليله مضت . قال أبو العباس ثعلب : يقال قبل الزوال : رأيت الليلة ، وبعد الزوال :
رأيت البارحة ، وكذا قال غيره ، وهى مشتقة من برح إذا زال .
قال : (أما إني لم أكن فى صلاة) قال فى مغنى اللبيب : أما بالفتح
والتخفيف على وجهين : أحدهما أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا فإذا وقعت أن بعدها
كسرت . الثانى أن تكون بمعنى حقاً أو أحق . وقال آخرون : هى كلمتان الهمزة للاستفهام
، ما اسم بمعنى شئ ، أى أذلك الشئ حق ، فالمعنى أحق هذا ؟ وهو الصواب و ما نصب على
الظرفية ، وهذه تفتح أن بعدها . انتهى .
والأنسب هنا هو الوجه الأول والقائل هو حصين ، خاف أن يظن الحاضرون أنه
رآه وهو يصلي ، فنفى عن نفسه إبهام العبادة ، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على
الإخلاص وبعدهم على الرياء والتزين بما ليس فيهم .
وقوله (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه ، قال أهل اللغة : يقال لدغته
العقرب وذوات السموم ، إذا أصابته بسمها ، وذلك بأن تأبره بشوكتها .
قوله : (قلت وارتقيت) لفظ مسلم استرتقيت أي طلبت من يرقيني .
قوله (فما حملك على ذلك) فيه طلب الحجة على صحة المذهب .
وقوله (حديث حدثناه الشعبي) اسمه : عامر بن شراحيل الهمداني ولد في
خلافة عمر ، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم مات سنة ثلاث ومائة .
قوله : (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة . ابن الحصيب - بضم
الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمى ، صحابى شهير . مات سنة ثلاث
وستين . قاله ابن سعد .
قوله : (لا رقية إلا من عين أو حمة) وقد رواه أحمد وابن ماجة عنه
مرفوعاً . ورواه أحمد وأبو داود والترمذى عن عمران بن حصين به مرفوعاً قال الهيثمى
: رجال أحمد ثقات .
والعين هى إصابة العائن غيره بعينه . والحمة - بضم المهملة وتخفيف
الميم - سم العقرب وشبهها . قال الخطابى : ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من
رقية العين والحمة . وقد رقى النبى صلى الله عليه وسلم ورقي .
قوله : (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أى من أخذ بما بلغه من العلم
وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل ، أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسىء آثم . وفيه
فضيلة علم السلف وحسن أدبهم .
قوله : (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن
عم النبي صلى الله عليه وسلم . دعا له فقال : "اللهم فقهه فى الدين ، وعلمه
التأويل " فكان كذلك . مات بالطائف سنة ثمان وستين .
قال المصنف رحمه الله : (وفيه عمق علم السلف لقوله : قد أحسن من انتهى
إلى ما سمع ولكن كذا وكذا . فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثانى) .
قوله : (عرضت على الأمم) وفى الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم
عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء قال الحافظ : فإن كان ذلك محفوظاً
كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء ، وأنه وقع بالمدينة أيضاً (قلت) وفي هذا
نظر .
قوله : (فرأيت النبي ومعه الرهط) والذي فى صحيح مسلم الرهيط بالتصغير
لا غير ، وهم الجماعة دون العشرة ، قاله النووي.
قوله : (والنبى ومعه الرجل والرجلان ، والنبى وليس معه أحد) فيه الرد
على من احتج بالكثرة .
قوله : (إذ رفع لي سواد عظيم) المراد هنا الشخص الذى يرى من بعيد .
قوله : (فظننت أنهم أمتى) لأن الأشخاص التى ترى فى الأفق لا يدرك منها
إلا الصورة وفى صحيح مسلم ولكن انظر إلى الأفق ولم يذكره المصنف ، فلعله سقط فى
الأصل الذى نقل الحديث منه . والله أعلم .
قوله : (فقيل له : هذا موسى وقومه) أي موسى بن عمران كليم الرحمن ،
وقومه : أتباعه على دينه من بنى إسرائيل .
قوله : (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لى هذه أمتك ومعهم سبعين ألفا
يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أي لتحقيقهم التوحيد، وفى رواية ابن فضيل ويدخل
الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفاً و"فى حديث أبي هريرة فى الصحيحين أنهم
تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " وروى الإمام أحمد والبيهقي فى "حديث
أبى هريرةفاستزدت ربى فزادنى مع كل ألف سبعين ألفاً" قال الحافظ : وسنده جيد
.
قوله : (ثم نهض) أي قام ، قوله : (فخاض الناس فى أولئك) خاض بالخاء
والضاد المعجمتين وفى هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه
الاستفادة وبيان الحق ، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل
، وفيه حرصهم على الخير ، ذكره المصنف .
قوله : (فقال هم الذين لا يسترقون) هكذا ثبت فى الصحيحين وهو كذلك فى
حديث ابن مسعود فى مسند أحمد . وفى رواية لمسلم ولا يرقون قال شيخ الإسلام ابن
تيمية : هذه الزيادة وهم من الراوي ، لم يقل النبى صلى الله عليه وسلم و لا يرقون
وقد "قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل على الرقى : من استطاع منكم أن
ينفع أخاه فلينفعه" . و"قال : لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً" قال
: وأيضاً فقد "رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم" و "رقى النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه" قال والفرق بين الراقي والمسترقي : أن المسترقى
سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلب ، والراقى محسن . قال : وإنما المراد وصف
السبعين ألفاً بتمام التوكل ، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم . وكذا قال
ابن القيم .
قوله : (ولا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم
أن يرقيهم ، استسلاماً للقضاء ، وتلذذاً بالبلاء .
قلت : والظاهر أن قوله لا يكتوون أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك
باختيارهم . أما الكي فى نفسه فجائز ، كما فى الصحيح "عن جابر بن عبد الله أن
النبى صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبى بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه" .
وفى صحيح البخارى "عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبى صلى الله
عليه وسلم حى" وروى الترمذى وغيره "عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم
كوى أسعد بن زرارة من الشوكة" .
وفي صحيح البخارى "عن ابن عباس مرفوعاً الشفاء فى ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية
نار ، وأنا أنهى أمتى عن الكى وفى لفظ :وما أحب أن أكتوى" .
قال ابن القيم رحمه الله : قد تضمنت أحاديث الكى أربعة أنواع (أحدها)
فعله . (والثانى) عدم محبته . (والثالث) الثناء على من تركه . (والرابع) النهي عنه
. ولا تعارض بينها بحمد الله ، فإن فعله يدل على جوازه ، وعدم محبته له لا يدل على
المنع منه ، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل ، وأما النهي عنه
فعلى سبيل الاختيار والكراهة .
قوله : (ولا يتطيرون) أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها . وسيأتي إن شاء
الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها فى بابها .
قوله : (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذى تنوعت عنه هذه
الأفعال والخصال وهو التوكل على الله ، وصدق الالتجاء إليه ، والاعتماد بالقلب
عليه ، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف : من المحبة والرجاء
والخوف ، والرضا به رباً وإلهاً ، والرضا بقضائه .
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً ، فإن
مباشرة الأسباب فى الجملة أمر فطري ضروري ، لا انفكاك لأحد عنه ، بل نفس التوكل :
مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى : '65 : 3' "ومن يتوكل على الله فهو
حسبه" أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها ،
توكلاً على الله تعالى ، كالاكتواء والاسترقاء ، فتركهم له لكونه سبباً مكروهاً ،
لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سبباً لشفائه - بخيط العنكبوت .
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه ، فغير قادح فى
التوكل ، فلا يكون تركه مشروعاً ، لما فى الصحيحين "عن أبي هريرة مرفوعاً ما
أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله" .
"وعن أسامة بن شريك قال : كنت عند
النبى صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب ، فقالوا يا رسول الله أنتداوى ؟ قال :
نعم . يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، غير
داء واحد . قالوا : وما هو ؟ قال : الهرم" رواه أحمد .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات
الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، والأمر بالتداوى ، وأنه لا ينافى
التوكل ، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش ، والحر والبرد : بأضدادها بل لا تتم
حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً
وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل ، كما يقدح فى الأمر والحكمة . ويضعفه من
حيث يظن معطلها أن تركها أقوى فى التوكل ، فإن تركها عجز ينافى التوكل الذى حقيقته
اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد فى دينه ودنياه ، ودفع ما يضره
فى دينه ودنياه . ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً
للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً .
وقد اختلف العلماء فى التداوى هل هو مباح ، وتركه أفضل ، أو مستحب أو
واجب ؟
فالمشهور عند أحمد : الأول لهذا الحديث وما في معناه ، والمشهور عند
الشافعية الثاني ، حتى ذكر النووى فى شرح مسلم : أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف
وعامة الخلف ، واختاره الوزير أبو الظفر . قال : ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى
يدانى به الوجوب . قال : ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال : لا بأس
بالتداوي ولا بأس بتركه .
وقان شيخ الاسلام : ليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة
قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد .
فقوله : (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف ، ومحصن بكسر
الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان - بضبم المهملة وسكون الراء
بعدها مثلثة - الأسدي : من بني أسد بن خزيمة . كان من السابقين إلى الإسلام ومن
أجمل الرجال ، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها ، واستشهد فى قتال الردة مع خالد بن
الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتى عشرة ، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم
القادسية مع سعيد بن أبي وقاص ، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة .
قوله : (فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال أنت منهم)
وللبخاري فى رواية : فقال اللهم اجعله منهم وفيه : طلب الدعاء من الفاضل .
قوله : (ثم قام رجل آخر) ذكر مبهماً ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه .
قوله : (فقال سبقك بها عكاشة) قال القرطبي : لم يكن عند الثانى من
الأحوال ما كان عند عكاشة ، فلذلك لم يجبه ، إذ لو أجابه لجاز أن يقلب ذلك كل من
كان حاضراً فيتسلسل الأمر ، فسد الباب بقوله ذلك ا هـ .
باب الخوف من الشرك
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلى
الله عليه وسلم .
قوله : باب (الخوف من الشرك)
وقول الله عز وجل : '4: 48 و 116' "إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال ابن كثير : أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك
به) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي من الذنوب لمن
يشاء من عباده . انتهى .
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب ، لأن الله تعالى أخبر أنه لا
يغفره لمن لم يتب منه ، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن
لقيه به ، وإن شاء عذبه به ، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه
عند الله ، لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم ، وتنقص لرب العالمين ، وصرف خالص حقه لغيره
وعدل غيره به ، كما قال تعالى : '6 : 1' "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون"
ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه ، وذلك غاية المعاندة لرب
العالمين ، والاستكبار عن طاعته ، والذل له ، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح
للعالم إلا بذلك ، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة ، كما "قال صلى الله عليه
وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض
الله الله "رواه مسلم . ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى ومشاركة فى
خصائص الإلهية : من ملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، الذى يوجب تعلق الدعاء
والخوف والرجاء ، والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق
فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ،
شبيهاً بمن له الحمد كله ، وله الخلق كله ، وله الملك كله ، وإليه يرجع الأمر كله
، وبيده الخير كله ، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه ، فما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن . لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، الذي إذا فتح للناس رحمة
فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم . فأقبح التشبيه
تشبيه العاجز الفقير بالذات : بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية : الكمال
المطلق من جميع الوجوه ، الذى لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون
العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال ، والخشية والدعاء ، والرجاء والإنابة
والتوكل والتوبة والاستعانة ، وغاية الحب مع غاية الذل : كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً
وفطرة أن يكون لله وحده ، ويمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره . فمن فعل
شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له ، ولا ند له ،
وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره،
مع أنه كتب على نفسه الرحمة . هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله .
وفى الاية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب . وعلى المعتزلة القائلين
بأن أصحاب الكبائر يخلدون فى النار ، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار .
ولا يجوز أن يحمل قوله : "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" على
التائب ، فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى :
'39 : 53' " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " فهنا عمم وأطلق ، لأن المراد به
التائب ، وهناك خص وعلق ، لأن المراد به من لم يتب . هذا ملخص قول شيخ الإسلام .
قوله : (وقال الخليل عليه السلام) '14 : 35' "واجنبني وبني أن
نعبد الأصنام" الصنم ما كان منحوتاً على صورة ، والوثن ما كان موضوعاً على
غير ذلك . ذكره الطبري عن مجاهد .
قلت : وقد يسمى الصنم وثناً كما قال الخليل عليه السلام '29 : 17'
" إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا " الآية ويقال : إن
الوثن أعم ، وهو قوى ، فالأصنام أوثان ، كما أن القبور أوثان .
قوله : "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" أي اجعلني وبني فى
جانب عن عبادة الأصنام ، وباعد بيننا وبينها . وقد استجاب الله تعالى دعاءه ، وجعل
بنيه أنبياء ، وجنبهم عبادة الأصنام . وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله :
"رب إنهن أضللن كثيراً من الناس" فإنه هو الواقع فى كل زمان . فإذا عرف
الإنسان أن كثيراً وقعوا فى الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام : أوجب ذلك خوفه من
أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله .
قال إبراهيم التيمي : من يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ رواه إبن جرير وابن
أبي حاتم .
فلا يأمن الوقوع فى الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم
بالله وبما بعث به رسوله من توحيده ، والنهي عن الشرك به .
قال المصنف : (وفى الحديث : "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ،
فسئل عنه فقال : الرياء") أورد المصنف هذا الحديث مختصراً غير معزو . وقد
رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي ، وهذا لفظ أحمد : حدثنا يونس حدثنا ليث عن
يزيد - يعنى ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . قالوا وما الشرك الأصغر
يا رسول الله ؟ قال : الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة ، إذا جازى الناس
بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءوا فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء
" .
قال المنذري : ومحمود بن لبيد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولم يصح له
منه سماع فيما أرى . وذكر ابن أبى حاتم أن البخارى قال : له صحبة ، ورجحه ابن عبد
البر والحافظ . وقد رواه الطبرانى بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج.
مات محمود سنة ست وتسعين . وقيل سنة سبع وتسعين وله تسع وتسعون سنة .
قول : (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) هذا من شفقته صلى الله
عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم ، فلا خير إلا دلهم عليهم وأمرهم به ، ولا شر
إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه ، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه :
" ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم .
. . " الحديث ، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم ، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم فى
العلم والإيمان بمراتب ؟ خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من
التوحيد إلا ما أقر به المشركون ، وما عرفوا معنى الإلهية التى نفتها كلمة الإخلاص
عن كل ما سوى الله .
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " الشرك أخفى من دبيب النمل . قال أبو بكر : يا
رسول الله ، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعى مع الله ؟ قال : ثكلتك
أمك ، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل" الحديث . وفيه : أن تقول أعطاني الله
وفلان ، والند أن يقول الإنسان : لولا فلان قتلنى فلان ا هـ . من الدر .
قال المصنف : (وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" رواه البخارى) .
قال ابن القيم رحمه الله : الند الشبيه ، يقال : فلان ند فلان ، وند
يده ، أى مثله وشبيهه ا هـ . قال تعالى : '2 : 22' "فلا تجعلوا لله أنداداً
وأنتم تعلمون" .
قوله : (من مات وهو يدعو لله نداً) أي يجعل لله نداً فى العبادة يدعوه
ويسأله ويستغيث به دخل النار . قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
والشرك فاحذره ، فشرك ظاهر
ذا القسم يقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أياً
كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
ويحبه كمحبة الديان
واعلم أن اتخاذ الند على قسمين :
الأول : أن يجعله لله شريكاً فى أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم ، وهو
شرك أكبر .
والثانى : ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل : ما شاء الله وشئت ،
ولولا الله وأنت . وكيسير الرياء ، فقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قال
له رجل: "ما شاء الله وشئت ، قال : أجعلتنى لله نداً ؟ بل ما شاء الله
وحده" رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخارى في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه
. وقد تقدم حكمه فى باب فضل التوحيد .
وفيه : بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي ،
كطلب الشفاعة من الأموات ، فإنها ملك لله تعالى وبيده ، ليس بيد غيره منها شئ ،
وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى لله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر ،
كما يأتي تقريره فى باب الشفاعة إن شاء الله تعالى .
قال المصنف رحمه الله تعالى : (ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة . ومن لقيه يشرك به
شيئاً دخل النار" ) .
جابر : هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم
السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه ، ولأبيه مناقب مشهورة رضى الله عنهما مات
بالمدينة بعد السبعين ، وقد كف بصره ، وله أربع وتسعون سنة .
قوله : (من لقي الله لا يشرك به شيئاً) قال القرطبي : أى لم يتخذ معه
شريكاً فى الإلهية ، ولا فى الخلق ، ولا فى العبادة ، ومن المعلوم من الشرع المجمع
عليه عند أهل السنة : أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة ، وإن جرت عليه
قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة . وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله
من الله رحمة ، ويخلد فى النار أبد الآباد ، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد .
وقال النووي : أما دخول المشرك النار فهو على عمومه ، فيدخلها ويخلد
فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة
، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره ، ولا بين من خالف ملة الإسلام
وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك . وأما دخول من مات غير مشرك
الجنة فهو مقطوع له به . لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها دخل الجنة أولا
، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة . فإن عفا الله عنه دخل
الجنة أولاً ، وإلا عذب فى النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة .
وقال غيره : اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء
واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم . إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله ، ومن كذب
الله فهو مشرك ، وهو كقولك : من توضأ صحت صلاته . أي مع سائر الشروط ، فالمراد :
من مات حال كونه مؤمناً بجميع ما يجب الإيمان به إجمالاً فى الإجمالي وتفصيلاً فى
التفصيلي . انتهى .
قوله : (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)
لما ذكر المصنف رحمه الله التوحيد وفضله ، وما يوجب الخوف من ضده ، نبه
بهذه الترجمة على أنه لا ينبغى لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه ، بل يجب عليه أن
يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة . كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم كما
قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى : '41 : 33' " ومن أحسن قولا ممن دعا
إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله
، هذا خيرة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله فى دعوته . ودعا الناس
إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحاً فى إجابته : إنني من المسلمين . هذا
خليفة الله .
قال رحمه الله : (وقوله '12 : 108' "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله
على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".
قال أبو جعفر ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم (قل) يا محمد (هذه) الدعوة التى أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ، من
الدعاء إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان . والإنتهاء إلى
طاعته وترك معصيته (سبيلي) طريقتي ، ودعوتي (أدعو إلى الله) تعالى وحده لا شريك له
(على بصيرة) بذلك ، ويقين علم مني به (أنا) ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني
وصدقني وآمن بي (وسبحان الله) يقول له تعالى ذكره : وقل. تنزيهاً لله تعالى
وتعظيماً له من أن يكون له شريك فى ملكه أو معبود سواه فى سلطانه (وما أنا من
المشركين) يقول : وأنا برىء من أهل الشرك به . لست منهم ولاهم منى انتهى .
قال فى شرح المنازل : يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى
البصيرة التى تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المائي إلى البصر ، وهذه هي
الخصيصة التى اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء . قال تعالى
: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" أي أنا
وأتباعي على بصيرة . وقيل (من اتبعنى) عطف على المرفوع فى (أدعو) أى أنا أدعو إلى
الله على بصيرة ، ومن اتبعنى كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة ، وعلى القولين :
فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى ، ومن ليس منهم
فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة ، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى .
قال المصنف رحمه الله : فيه مسائل (منها التنبيه على الإخلاص لأن
كثيراً ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ، ومنها : أن البصيرة من الفرائض .
ومنها : أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة . ومنها أن من قبح
الشرك كونه مسبة لله تعالى . ومنها إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم
يشرك) ا هـ .
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فى معنى قوله تعالى : '16
:125' " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " الآية . ذكر سبحانه
مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو ، فإنه إما أن يكون طالباً للحق
محباً له . مؤثراً له على غيره إذا عرفه . فهذا يدعى بالحكمة . ولا يحتاج إلى
موعظة وجدال . وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق . لكن لو عرفه آثره واتبعه . فهذا
يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب . وإما أن يكون معانداً معارضاً ، فهذا يجادل
بالتي هى أحسن . فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن . انتهى .
قال : (وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب . فليكن أول
ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله الا الله - وفى رواية : إلى أن يوحدوا الله - فإن
هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة . فإن هم
أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم
. فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم . فإنه ليس بينها
وبين الله حجاب" أخرجاه) .
قال الحافظ : كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر . قبل حج النبى صلى الله
عليه وسلم كما ذكره المصنف - يعنى البخارى فى أواخر المغازي - وقيل : كان ذلك فى
آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك . رواه الواقدي بإسناد إلى كعب
بن مالك . وأخرجه ابن سعد في لطبقات عنه واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن
قدم فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ثم توجه إلى الشام فمات بها .
قال شيخ الإسلام : ومن فضائل معاذ رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم
بعثه إلى اليمن مبلغاً عنه . ومفقهاً ومعلماً وحاكماً .
قوله (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) قال القرطبي : يعني اليهود
والنصارى ، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب ، وإنما نبه على ذلك
ليتهيأ لمناظرتهم .
وقال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها .
قوله (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله شهادة رفع
على أنه اسم يكن مؤخر . و أول خبرها مقدم . ويجوز العكس .
قوله : (وفى رواية إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة فى كتاب
التوحيد من صحيح البخارى . وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبية على معنى
شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه .
وفى رواية فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان
بالله ، كما قال تعالى : '2 : 256' " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " والعروة الوثقى هى (لا إله إلا الله)
وفى رواية للبخارى فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .
قلت : لا بد فى شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع
قائلها إلا باجتماعها ، أحدها : العلم المنافي للجهل . الثانى : اليقين المنافي
للشك . الثالث : القبول المنافي للرد . الرابع : الانقياد المنافي للترك . الخامس
: الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب . السابع : المحبة المنافية
لضدها .
وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له
وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب . ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام
: "أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" وقال نوح : "أن لا تعبدوا
إلا الله" وفيه معنى (لا إله إلا الله) مطابقة .
قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم
واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق : شهادة أن لا إله إلا
الله ، وأن محمداً رسول الله ، فبذلك يصير الكافر مسلماً ، والعدو ولياً ، والمباح
دمه وماله : معصوم الدم والمال . ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل فى الإيمان وإن
قاله بلسانه دون قلبه فهو فى ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان . قال : وأما إذا لم
يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً ، عند سلف الأمة
وأئمتها وجماهير العلماء ا هـ .
قال المصنف رحمه الله تعالى : (وفيه أن الإنسان قد يكون عالماً وهو لا
يعرف معنى لا إله إلا الله أو يعرفه ولا يعمل به) .
قلت : فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى .
قوله : (فإن هم أطاعوك لذلك) أي شهدوا وانقادوا لذلك (فأعلمهم أن الله
افترض عليهم خمس صلوات) فيه : أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين . قال النووى ما
معناه : أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض فى الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام .
ولا يلزم من ذلك أن لا يكونا مخاطبين بها ، ويزاد فى عذابهم بسببها فى الآخرة .
والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه . وهذا قول
الأكثرين ا هـ .
قوله : (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم) .
فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات ، وأنها تؤخذ من
الأغنياء وتصرف إلى الفقراء ، وإنما خص النبى صلى الله عليه وسلم الفقراء لأن حقهم
في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية .
وفيه : أن الإمام هو الذى يتولى قبض الزكاة وصرفها : إما بنفسه أو
نائبه ، فمن امتنع عن آدائها إليه أخذت منه قهراً .
في الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة فى صنف واحد ، كما هو مذهب
مالك وأحمد .
وفيه : أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف ، وإن
الزكاة واجبة فى مال الصبى والمجنون ، كما هو قول الجمهور ، لعموم الحديث .
قلت : والفقير إذا أفرد فى اللفظ تناول المسكين وبالعكس ، كنظائره .
كما قرره شيخ الإسلام .
قوله (إياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم على التحذير ، وجمع كريمة قال
صاحب المطالع هي الجامعة للكمال الممكن في حقها ، من غزارة لبن ، وجمال صورة ،
وكثرة لحم وصوف . ذكر النووي (قلت) وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً .
وفيه : أنه يحرم على العامل فى الزكاة أخذ كرائم المال ، ويحرم على
صاحب المال إخراج شرار المال . بل يخرج الوسط ، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز .
قوله : (واتق دعوة المظلوم) أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك
الظلم ، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى .
وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم .
قوله : (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة
لضمير الشأن ، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها .
وفى الحديث أيضاً قبول خبر الواحد العدل ، ووجوب العمل به . وبعث
الإمام العمال لجباية الزكاة . وأنه يعظ عماله وولاته ، ويأمرهم بتقوى الله تعالى
، ويعلمهم ، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته . والتنبيه على التعليم بالتدريج
. قاله المصنف .
قلت : ويبدأ بالأهم فالأهم .
واعلم أنه لم يذكر فى الحديث الصوم والحج ، فأشكل ذلك على كثير من
العلماء . قال شيخ الإسلام : أجاب بعض الناس : أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس
كذلك . فإن هذا طعن فى الرواة . لأن ذلك إنما يقع فى الحديث الواحد ، مثل حديث وفد
عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره ، فأما الحديثان المنفصلان فليس
الأمر فيها كذلك ، ولكن عن هذا جوابان :
أحدهما : أن ذلك بحسب نزول الفرائض ، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم
الصلاة . فإنه أمر بالصلاة فى أول أوقات الوحي ، ولهذا لم يذكر وجوب الحج ، كعامة
الأحاديث ، إنما جاء فى الأحاديث المتأخرة .
الجواب الثانى : أنه كان يذكر فى كل مقام ما يناسبه . فيذكر تارة
الفرائض التى يقاتل عليها : كالصلاة والزكاة . ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم
يكن عليه زكاة ، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم . فإما أن يكون قبل فرض الحج ،
وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه ، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر
الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى فى كتابه القتال عليهما ، لأنهما عبادتان ظاهرتان ،
بخلاف الصوم بأنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ، ونحو ذلك مما
يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سراً ، كما يمكنه
أن يكتم حدثه وجنابته ، وهو يذاكر فى الأعمال الظاهرة التى يقاتل الناس عليها
ويصيرون مسلمين بفعلها . فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم ، وإن كان
واجباً كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس . وكذلك لما بعث
معاذاً إلى اليمن لم يذكر فى حديث الصوم ، لأنه تبع وهو باطن ، ولا ذكر الحج لأن
وجوبه خاص ليس بعام ، و لا يجب فى العمر إلا مرة . انتهى بمعناه .
قوله (أخرجاه) أي البخارى ومسلم ، وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة .
إعطاء على الراية يوم خيبر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام
قال : (ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال يوم خيبر : " لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله ، يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم ، أيهم يعطاها . فلما
أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : أين
علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق فى
عينيه ودعا له ، فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، قال انفذ على رسلك حتى
تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى
فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم")[1].
يدوكون أي يخوضون .
قوله : (عن سهل بن سعد) أي ابن مالك بن خالد الأنصارى الخزرجى الساعدى
، أبي العباس صحابي شهير ، وأبوه صحابي أيضاً ، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز
المائة .
قوله : (قال يوم خيبر) وفى الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : "كان
علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فى خيبر ، وكان أرمد ، فقال
: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي رضى الله عنه فلحق بالنبى
صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التى فتحها الله عز وجل فى صباحها قال
صلى الله عليه وسلم : لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غداً رجل يحبه الله
ورسوله ، أو قال : يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه . فإذا نحن بعلي وما
نرجوه ، فقالوا : هذا علي ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية ففتح الله
عليه" .
قوله : (لأعطين الراية) قال الحافظ : فى رواية بريدة : "إنى دافع
اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها ،
ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس "كانت راية رسول الله صلى الله عليه
وسلم سوداء ، ولواؤه أبيض" ومثله عند الطبرانى عن بريدة . وعن ابن عدي عن أبى
هريرة وزاد مكتوب فيه : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
قوله : (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة عظيمة لعلي رضى
الله عنه .
قال شيخ الإسلام : ليس هذا الوصف مختصاً بعلي ولا بالأئمة ، فإن الله
ورسوله يحب كل مؤمن تقي ، يحب الله ورسوله ، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به
على النواصب الذين لا يتولونه ، أو يكفرونه أو يفسقونه ، كالخوارج . لكن هذا
الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة
كانت قبل ردتهم ، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك ، ولكن هذا باطل ، فإن الله
تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافراً .
وفيه إثبات صفة المحبة خلافاً للجهمية ومن أخذ عنهم .
قوله : (يفتح الله على يديه) صريح فى البشارة بحصول الفتح ، فهو علم من
أعلام النبوة .
قوله : (فبات الناس يدوكون ليلتهم) بنصب (ليلتهم) و يدوكون قال المصنف
: يخوضون . أي فيمن يدفعها إليه . وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به ، وعلو
مرتبتهم فى العلم والإيمان .
قوله : (أيهم) هو برفع أي على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها .
قوله : (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو
أن يعطاها) وفى رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال : "ما أحببت الإمارة إلا
يومئذ" .
قال شيخ إلإسلام : إن فى ذلك شهادة النبى صلى الله عليه وسلم لعلي
بإيمانه باطناً وظاهراً وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين
له ، وإذا شهد النبى صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة ، أو دعا له أحب كثير من
الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء ، وإن كان النبى يشهد بذلك لخلق
كثير ويدعو لخلق كثير ، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس .
وعبد الله بن سلام وإن كان شهد بالجنة لآخرين ، والشهادة بمحبة الله
ورسوله للذي ضرب فى الخمر .
قوله : (فقال أين علي بن أبى طالب) فيه سؤال الإمام عن رعيته ، وتفقد
أحوالهم .
قوله : (فقيل هو يشتكي عينيه) أي من الرمد ، كما فى صحيح مسلم عن سعد
بن أبي وقاص فقال : ادعوا لي علياً فأتي به أرمد الحديث ، وفى نسخة صحيحة بخط
المصنف : فقيل هو يشتكي عينيه ، فأرسل
إليه مبني للفاعل[2] ، وهو
ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون مبنياً لما
لم يسم فاعله . ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : فأرسلنى[3]
إلى علي فجئت به أقوده أرمد .
قوله : (فبصق) بفتح الصاد ، أي تفل .
وقوله (ودعا له فبرأ) هو بفتح الراء والهمزة[4] ،
أي عوفي في الحال ، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر .
وعند الطبراني من حديث علي فما رمدت[5]
ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية[6]
وفيه دليل على الشهادتين[7] .
قوله (فأعطاه الراية) قال المصنف : فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم
يسع ومنعها عمن سعى[8] .
وفيه إن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل[9] .
قوله (وقال انفذ على رسلك) بضم الفاء ، اي امض ورسلك بكسر الراء وسكون
السين ، أي على رفقك من غير عجلة . وساحتهم فناء أرضهم وهو ما حولها[10] .
وفيه : الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش[11] ،
والأصوات التى لا حاجة إليها .
وفيه : أمر الإمام عماله بالرفق[12]
من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة[13] ،
كما يشير إليه قوله ثم ادعهم إلى الإسلام[14]
أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإن شئت قلت
الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله[15] ،
وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده ، وإخلاص الطاعة لرسوله صلى الله
عليه وسلم[16] . ومن
هنا طابق الحديث الترجمة[17]
كما قال تعالى لنبيه ورسوله : '3 : 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون "[18] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : والإسلام هو الاستسلام لله[19] ،
وهو الخضوع له والعبودية له . كذا قال أهل اللغة .
وقال رحمه الله تعالى : ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله[20] :
هو الاستسلام له وحده ، فأصله فى القلب . والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه
. فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً[21] .
ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً[22] ،
وفى الأصل : هو من باب العمل ، عمل القلب والجوارح . وأما الإيمان فأصله تصديق
القلب ، وإقراره ومعرفته ، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب[23] .
انتهى .
فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد[24]
ونفي الشرك فى العبادة وهو دعوة جميع المرسلين ، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد
، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله[25] ،
كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله : '71 : 3' "أن اعبدوا الله واتقوه
وأطيعون"[26] .
وفيه : مشروعية الدعوة قبل القتال ، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز
قتالهم ابتداء[27] لأن
النبى صلى الله عليه وسلم أغار على بنى المصطلق [28]وهم
غارون وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم[29] .
قوله وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه أي في الإسلام إذا
أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التى لابد لهم من فعلها : كالصلاة والزكاة ،
كما فى حديث أبى هريرة : "فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحقها " ولما قال عمر لأبي بكر فى قتاله مانعي الزكاة :" كيف تقاتل
النساء وقد قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا :
لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . قال أبو بكر
: فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، لقاتلتهم على منعها " .
وفيه : بعث إلإمام الدعاة إلى الله تعالى ، كما كان النبي صلى الله
عليه وسلم وخلفائه الراشدون يفعلون ، كما فى المسند عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه
أنه قال فى خطبته : " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا
ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم " .
لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك إلخ
قوله : (فو الله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)
أن مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم . وأن والفعل بعدها فى تأويل مصدر
، رفع على الابتداء والخبر خير و حمر بضم المهملة وسكون الميم ، جمع أحمر . و
النعم بفتح النون والعين المهملة ، أي خير لك من الإبل الحمر . وهي أنفس أموال
العرب .
قال النووي : وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى
الأفهام ، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها .
وفيه : فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد ، وجواز الحلف على الخبر
والفتيا ولو لم يستحلف .
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
قوله : (باب - تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله)
قلت : هذا من عطف الدال على المدلول .
فإن قيل : قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى لا إله الا
الله وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى '17 : 23' " وقضى ربك أن لا تعبدوا
إلا إياه " وسابقها ولاحقها ، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها ، فما فائدة
هذه الترجمة ؟
قيل : هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى
كلمة الإخلاص وما دلت عليه : من توحيد العبادة . فيها : الحجة على من تعلق من
الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم . لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الايات ، كالآية
الأولى : '17 : 56' "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" أكثر المفسرين على
أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه ، والعزير والملائكة ، وقد نهى الله عن ذلك أشد
النهى ، كما فى هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من
دون الله شرك بالله ، ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن
التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده . وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك ، لأن دعوة غير
الله تأليه وعبادة له . و الدعاء مخ العبادة .
وفى هذه الآية : أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان
إلى مكان ، ولا من صفة إلى صفة . ولو كان المدعو نبياً أو ملكاً . وهذا يقرر بطلان
دعوة كل مدعو من دون الله كائناً من كان ، لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها
، لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره . وهذه الآية تقرر التوحيد ، ومعنى لا
إله إلا الله .
الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة
وقوله تعالى : "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة"
يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين . قال قتادة : تقربوا
إليه بطاعته والعمل فيما يرضيه وقرأ ابن زيد :" أولئك الذين يدعون يبتغون إلى
ربهم الوسيلة أيهم أقرب " قال العماد ابن كثير : وهذا لا خلاف فيه بين
المفسرين . وذكره عن عدة من أئمة التفسير .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : في هذه الآية ذكر المقامات
الثلاث : الحب ، وهو ابتغاء التقرب إليه . والتوسل إليه بالأعمال الصالحة .
والرجاء والخوف . وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز
بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم " والله يا رسول
الله ما أتيتك إلا بعد ما حلقت عدد أصابعي هذه : أن لا آتيك . فبالذي بعثك بالحق ،
ما بعثك به ؟ قال : الإسلام . قال : وما الإسلام ؟ قال : أن تسلم قلبك وأن توجه
وجهك إلى الله ، وأن تصلي الصلوات المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة" وأخرج
محمد بن نصر المروزى من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق . من ذلك أن تعبد الله
ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر" وهذا معنى قوله تعالى : '31 : 22' "ومن يسلم وجهه إلى
الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور" .
وقوله تعالى : '43 : 26 - 28' " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني
براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه "
أي لا إله إلا الله .
فتدبر كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي
دلت عليه . ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة
في الخارج : كالكواكب والهياكل والأصنام التى صورها قوم نوح على صور الصالحين : ود
وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وغيرها من الأوثان والأنداد التى كان يعبدها المشركون
بأعيانها . ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره ، وهو الله وحده لا شريك له
، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص . كما قال تعالى : '22 : 62' "ذلك بأن
الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل" فكل عبادة يقصد بها غير الله :
من دعاء وغيره فهي باطلة ، وهي الشرك الذي لا يغفره الله ، قال تعالى : '40 :
73،74' " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم
نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين " .
وقوله تعالى : ' 9 : 31 ' "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من
دون الله والمسيح ابن مريم" .
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي
بن حاتم الطائي فقال : "يارسول الله ، لسنا نعبدهم. قال : أليس يحلون لكم ما
حرم الله فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى . قال النبي صلى
الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم " .
فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أرباباً ، كما
هو الواقع في هذه الأمة ، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول
شهادة لا إله إلا الله .
فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه
الكلمة . فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد .
وقوله تعالى : '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً
يحبونهم كحب الله" فكل من اتخذ نداً لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه
لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت
والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك ، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا
يحبون الله تعالى .
ويقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ، فقد أشركوا بالله فى المحبة
بمحبة غيره وعبادة غيره فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه
وكل عمل يعملونه . لأن المشرك لا يقبل منه عمل ، ولا يصح منه . وهؤلاء وإن قالوا
لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة : من العلم بمدلولها
. لأن المشرك جاهل بمعناها ، ومن جهله بمعناها جعل الله شريكاً في المحبة وغيرها ،
وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص : ولم يكن صادقاً في قولها :
لأنه لم ينف ما نفته من الشرك ، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص وترك اليقين أيضاً
، لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه ، ولم يقبله وهو الحق ، ولم
يكفر بما يعبد من دون الله ، كما في الحديث ، بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه
الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله كما قال تعالى "والذين آمنوا أشد
حباً لله" لأنهم اخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون
أعمالهم جميعاً لله ، ويكفرون بما عبد من دون الله . فبهذا يتبين لمن وفقه الله
تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا
الله ، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين . فتدبر .
قال : وقوله تعالى '17 : 57' " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم
الوسيلة أيهم أقرب " الآية، يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها ، وهو قوله
تعالى "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا
تحويلاً" .
قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى (قل) يا محمد للمشركين الذين
عبدوا غير الله "ادعوا الذين زعمتم من دونه" من الأصنام والأنداد
وارغبوا إليهم ، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية (ولا تحويلا) أي ولا
يحولوه إلى غيركم .
والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له ، الذي له
الخلق والأمر . قال العوفي عن ابن عباس فى الآية : كان أهل الشرك يقولون : نعبد
الملائكة والمسيح وعزيراً ، وهم الذين يدعون . يعنى الملائكة والمسيح وعزيراً .
وروى البخاري فى الآية عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : "ناس من
الجن كانوا يعبدون فأسلموا " وفى رواية : "كان ناس من الإنس يعبدون
ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" .
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هى الإسلام ، وهو كذلك على كلا
القولين .
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فى الآية قال : عيسى وأمه وعزير
وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول فى هذه الآية : هم عيسى وعزير والشمس
والقمر وقال مجاهد : عيسى وعزير والملائكة .
وقوله : "يرجون رحمته ويخافون عذابه "لا تتم العبادة إلا
بالخوف والرجاء ، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك ، فإما أن
يكون خائفاً وإما أن يكون راجياً ، وإما أن يجتمع فيه الوصفان .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، في هذه الآية الكريمة ، لما ذكر
أقوال المفسرين : وهذه الأقوال كلها حق ، فإن الآية تعم من كان معبوده عابداً لله
، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر ، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير
جنس المراد بالآية على نوع التمثيل ، كما يقول الترجمان لمن سأله : ما معنى الخبز
؟ فيريه رغيفاً ، فيقول هذا ، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه ، وليس مرادهم من هذا
تخصيص نوع من شمول الآية ، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً ، وذلك
المدعو يبتغي الى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه ، فكل من دعا ميتاً أو
غائباً من الأولياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه
الآية الكريمة ، كما تتناول من دعا الملائكة والجن ، فقد نهى الله تعالى من دعائهم
، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله ، ولا يرفعونه بالكلية ولا
يحولونه من موضع إلى موضع ، كتغيير صفته أو قدره ، ولهذا قال : (ولا تحويلا) فذكر
نكرة تعم أنواع التحويل ، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأولياء والصالحين أو
دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله اهـ .
وفى هذه الآية رد على من يدعو صالحاً ويقول : أنا لا أشرك بالله شيئاً
، الشرك عبادة الأصنام .
براءة إبراهيم مما يعبد قومه إلا الله
قال: (وقوله " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون
* إلا الذي فطرني " الآية) قال ابن كثير : يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله
وخليله إمام الحنفاء ، ووالد من بعث بعده من الأنبياء ، الذي تنتسب إليه قريش فى
نسبها ومذهبها : أنه تبرأ من أبيه وقومه فى عبادتهم الأوثان فقال : " إنني
براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم
يرجعون " أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له . وخلع ما سواه من
الأوثان ، وهي لا إله إلا الله جعلها فى ذريته يقتدى به فيها من هداه الله من ذرية
إبراهيم عليه السلام (لعلهم يرجعون) أي إليها .
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم فى قوله : "
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " يعنى لا إله إلا لله لا يزال في
ذريته من يقولها .
وروى ابن جرير عن قتادة " إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني
" قال : كانوا يقولون : الله ربنا '53 : 87' "ولئن سألتهم من خلقهم
ليقولن الله" فلم يبرأ من ربه رواه عبد بن حميد . وروى ابن جرير وابن المنذر
عن قتادة " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : الإخلاص والتوحيد لا يزال
في ذريته من يعبد الله ويوحده .
قلت : فتبين أن معنى لا إله إلا الله توحيد العبادة بإخلاص العبادة له
والبراءة من كل ما سواه .
قال المصنف رحمه الله (وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة ، هي
شهادة أن لا إله إلا الله) .
وفى هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله فى الكلمة
الشافية :
وإذا تولاه امرؤ دون الورى
طرا تولاه العظيم الشان
معنى واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً
قال : (وقوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون
الله" . . . الآية) .
الأحبار : هم العلماء والرهبان هم العباد . وهذه الاية قد فسرها رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم ، وذلك أنه لما جاء مسلماً دخل على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم .
فقال : بلى : إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم
إياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق .
قال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال
تعالى : "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما
يشركون" فإن الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله ، والدين ما شرعه
الله .
فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله ، وأعرض عن
الأخذ بالكتاب والسنة فى تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحله الله ، وأطاعه فى
معصية الله ، واتبعه فيما لم يأذن به الله ، فقد اتخذه رباً ومعبوداً وجعله لله
شريكاً ، وذلك ينافي
التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (لا إله إلا
الله) فإن الإله هو المعبود ، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم ، وسماهم
أرباباً كما قال تعالى '3 : 80' "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين
أرباباً " أي شركاء لله تعالى في العبادة " أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم
مسلمون " وهذا هو الشرك . فكل معبود رب ، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه
الله ورسوله فقد اتخذا المطيع المتبع رباً ومعبوداً ، كما قال تعالى في آية
الأنعام : '6 : 121' "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" وهذا هو وجه مطابقة
الآية للترجمة ، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى '42 : 21' "أم لهم
شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" والله أعلم .
قال شيخ الإسلام في معنىقوله "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من
دون الله" وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في
تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين : أحدهما : أن يعلموا أنهم
بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل ، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم
ما أحل الله ، اتباعاً لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل . فهذا كفر ،
وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم . فكان من اتبع
غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين ، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله
ورسوله ، مشركاً مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال
ثابتاً ، لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي
يعتقد أنها معاص ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما قد ثبت "عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما الطاعة في المعروف" .
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل
لكن خفى عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع ، فهذا لا يؤاخذه الله
بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه . ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء
به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول . فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي
ذمه الله ، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف
للرسول . فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف
الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على
الاستدلال . وإن كان عاجز عن إظهار الحق الذي يعلمه . فهذا يكون كمن عرف أن الدين
الإسلام حق وهو بين النصارى ، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه
، وهؤلاء كالنجاشي وغيره . وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى :
'3 : 199 ' "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل
إليهم" وقوله : '5 : 83 ' "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " الآية وقوله '7 : 159 ' "ومن قوم
موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " . وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن
معرفة الحق على التفضيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله : من الاجتهاد في التقليد فهذا
لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة . وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ، ونصره
بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق ، فهذا من أهل الجاهلية ، وإن كان متبوعه
مصيباً لم يكن عمله صالحاً ، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً . كمن قال فى القرآن
برأيه ، فإن أصاب فقد أخطأ ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار ، وهؤلاء من جنس
مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد ، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة
والخميصة ، فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبداً له، وكذلك
هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر ، ولهم من الوعيد بحسب ذلك ، وفي الحديث : "إن
يسير الرياء شرك" وهذا مبسوط عند النصوص التى فيها إطلاق الكفر والشرك على
كثير الذنوب . انتهى.
معنى اتخاذ الأنداد من دون الله
وقال أبو جعفر بن جرير فى معنى قول الله تعالى "وتجعلون له
أنداداً" أي وتجعلون لمن خلق ذلك أنداداً وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم فى
معاصى الله . انتهى .
قلت : كما هو الواقع من كثير ومن عباد القبور .
قال : (وقوله '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً
يحبونهم كحب الله ". . . .) الآية .
قال العماد ابن كثير رحمه الله : يذكر الله حال المشركين به فى الدنيا
ومآلهم فى الدار الآخرة ، حيث جعلوا لله أنداداً ، أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه
ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ند له ، ولا شريك معه .
وفى لصحيحين عن "عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ؟ أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل
لله نداً وهو خلقك" .
وقوله : "والذين آمنوا أشد حباً لله" ولحبهم لله تعالى وتمام
معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئاً . بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه
، ويلجأون فى جميع أمورهم إليه . ثم توعد تعالى المشركين به ، الظالمين لأنفسهم
بذلك . فقال تعالى : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله
جميعاً" قال بعضهم تقدير الكلام ، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة
لله جميعاً ، أي أن الحكم له وحده لا شريك له ، فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته
وسلطانه " وأن الله شديد العذاب " كما قال تعالى : '89 : 25 ، 26'
" فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد " يقول : لو علموا ما
يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا
عما هم فيه من الضلال . ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين .
فقال تعالى : "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" ترأت منهم
الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم فى الدار الدنيا ، فتقول الملائكة '28
: 63' "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون '34 : 41'
"سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون"
الجن أيضاً يتبرأون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : '46 : 5 ، 6'
" ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن
دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " .
انتهى كلامه .
روى ابن جرير عن كلامه في قوله تعالى "يحبونهم كحب الله"
مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد "والذين آمنوا أشد حباً لله" من
الكفار لأوثانهم .
قال المصنف رحمه الله تعالى (ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة
أن لا إله إلا الله : آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم "وما هم
بخارجين من النار" ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله ، فدل على أنهم يحبون
الله حباً عظيماً ، فلم يدخلوا في الإسلام ، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟
فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ؟) ا هـ .
ففى الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره فى المحبة فقد جعله
شريكاً لله فى العبادة واتخذه نداً من دون الله ، وأن ذلك هو الشرك الذى لا يغفره
الله ، كما قال تعالى فى أولئك "وما هم بخارجين من النار" وقوله :
"ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب" المراد بالظلم هنا الشرك . كقوله
: '7 : 82 ' "ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" كما تقدم . فمن أحب الله وحده ،
وأحب فيه وله فهو مخلص ، ومن أحبه وأحب معه غيره ، فهو مشرك ، كما قال تعالى : '2
: 21 ، 22' " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم
تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من
الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه : فمن رغب إلى غير الله
فى قضاء حاجة أو تفريج كربة : لزم أن يكون محباً له ومحبته هى الأصل فى ذلك .
انتهى .
فكلمة الإخلاص لا إله إلا الله تنفى كل شرك . فى أى نوع كان من أنواع
العبادة ، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى . وقد تقدم بيان أن الإله هو
المألوه الذى تألهه القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة فلا إله إلا الله ،
نفت ذلك كله عن غير الله ، وأثبتته لله وحده . فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص
مطابقة ، فلابد من معرفة معناها واعتقاده ، وقبوله ، والعمل به باطناً وظاهراً .
والله أعلم .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد
محبوبه ، أى مع الله تعالى بعبادته له ، وتوحيد الحب : أن لا يبقى فى قلبه بقية حب
حتى يبذلها له ، فهذا الحب - وإن سمى عشقاً - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة
عينه ، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما
سواهما ، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى ، فلا يحب إلا الله ،
ولا يحب إلا الله ، كما فى الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه الحديث ومحبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم هى من محبة الله ، ومحبة المرء إن كانت لله فهى من محبته ، وإن
كانت لغير الله فهى منقصة لمحبة الله مضعفة لها ، ويصدق هذه المحبة بأن تكون
كراهيته لأبغض الأشياء إلى الله محبوبه وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه فى
النار أو أشد ، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة ، فإك الإنسان لا يقدم على محبة
نفسه وحياته شيئاً ، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر
وبين إلقائه فى النار لاختار أن يلقى فى النار ولا يكفر ، كان أحب إليه من نفسه ،
وهذه المحبة هى فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم ، بل لا نظير لهذه
المحبة . كما لا مثل لمن تعلقت به ، وهى محبة تقتضى تقديم المحبوب فيها على النفس
والمال والولد . وتقتضى كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد
ظاهراً وباطناً . وهذا لا نظير له فى محبة المخلوق ، ولو كان المخلوق من كان .
ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره فى هذه المحبة الخاصة كان مشركاً شركاً لا يغفره
الله . كما قال تعالى : "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب
الله والذين آمنوا أشد حباً لله" والصحيح : أن معنى الاية : أن الذين آمنوا
أشد حباً من الله أهل الأنداد لأندادهم . كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا
يماثلها محبة مخلوق أصلاً ، كما لا يماثل محبوبهم غيره ، وكل أذى فى محبة غيره فهو
نعيم فى محبته . وكل مكروه فى محبة غيره فهو قرة عين محبته . ومن ضرب لمحبته
الأمثال التى فى محبة المخلوق للمخلوق : كالوصل ، والهجر والتجنى بلا سبب من المحب
، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علواً كبيراً . فهو مخطىء أقبح الخطأ وأفحشه ،
وهو حقيق بالإبعاد والمقت . انتهى .
من هو الذي يحرم ماله ودمه
(وفى "الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قال لا
إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )"
قوله فى الصحيح : أى صحيح مسلم عن أبى مالك الأشجعى عن أبيه عن النبى صلى الله
عليه وسلم فذكره .
وأبو مالك اسمه سعد بن طارق ، كوفى ثقة مات فى حدود الأربعين ومائة .
وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعى ،
صحابى له أحاديث . قال مسلم : لم يرو عنه غير ابنه . وفى مسند الامام أحمد عن أبى
مالك قال : وسمعته يقول للقوم :"من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم
ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" ورواه الامام أحمد من طريق يزيد بن هارون
قال أخبرنا أبو مالك الأشجعى عن أبيه . ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال :
سمعت أبا مالك قال : قلت لأبى - الحديث . ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر : لا إله
إلا الله .
________________________________________
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجز الرابع
العودة الي مدونة رحال مخلوقات مدهشة صفحات رحال صفحات مخلوقات مدهشة بيانات الإتصال تنويه عن رحال كلمة المدون صفحاتنا علي فيسبوك
هذا المصنف مرخص بموجب المشاع الابداعي نسب العمل- المشاركة على قدم المساواة 3.0 الاصليةالترخيص .
Howdy! I know this is kinda off topic but I'd figured I'd ask.
ردحذفWould you be interested in exchanging links or
maybe guest writing a blog article or vice-versa? My site covers a lot of
the same topics as yours and I believe we could greatly benefit from each other.
If you might be interested feel free to send me an e-mail.
I look forward to hearing from you! Great blog by the
way!
Feel free to surf to my blog post :: payday loan yes