الأقسام

الأربعاء، 25 مايو 2011

شـــجــرة الكـون الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي


شـــجــرة الكـون





الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي









بسم الله الرحمن الرحيم



{ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا في السَّمَاءِ}

صدق الله العلي العظيم





بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للهِ الأحدي الذات، الفردي الصفات، الذي تقدس وجهه عن الجهات، وقدسه عن المحدثات، وقدمه عن الجهات، ويده عن الحركات، وعينه عن اللحظات، واستواؤه عن الاتصالات، وقدرته عن الهفوات، وإرادته عن الشهوات، الذي لا تعدد لصفاته بتعدد الموصوفات، ولا تختلف إرادته باختلاف المرادات، وكون بكلمة "كن" جميع الكائنات، وأوجد بها جميع الموجودات، فلا موجود إلا مستخرج من كنهها المكنون، ولا مكنون إلا مستخرج من سرِّها المصون، قال الله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }.



وبعد،

فإني نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتدوينه، فرأيت الكون كله شجرة، وأصل نَوْرِها من حبة "كن"، قد لقحت كاف الكنتية بلقاح حبة {نحن خلقناكم}، فانعقد من ذلك البزر ثمرة {إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ}، وظهر من هذا غصنان مختلفان أصلهما واحدٌ، وهو الإرادة، وفرعها القدرة، فظهر عن جوهر الكاف معنيان مختلفان كاف الكمالية {اليوم أكملت لكم دينكم}، وكاف الكفرية {فمنهم من آمن ومنهم من كفر}، وظهر جوهر النون؛ نون النكرة ونون المعرفة، فلما أبرزهم من "كن" العدم على حكم مراد القدم رش عليهم من نوره، فأما من أصابه ذلك النور فحدق إلى تمثال {كنتم خير أمة}، واتضح له في شرح نونها {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}.

وأما من أخطأه ذلك النور فطولب بكشف المعنى المقصود من حرف "كن" فإنه غلط في هجائه، وخاب في رجائه، فنظر إلى مثال "كن" فظن أنها كاف كفرية بنون نكرة، فكان من الكافرين، وكان حظ كل مخلوق من كلمة "كن" ما علم من هجاء حروفها، وما شهد من سرائر خفائها، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ذلك النور ضل وغوى ).

فلما نظر آدم إلى دائرة الوجود فوجد كل موجود دائرا في دائرة الكون، واحد من نار وواحد من طين، ثم رأى هذه الدائرة على سرائر (كن)، فكيفما دار واستدار، وحيثما طار واستطار، فإليها يؤول، وعليها يجول، ولا يزول عنها ولا يحول.



فواحد شهد كاف الكمالية ونون المعرفة، وواحد شهد كاف الكفرية ونون النكرة، فهو على حكم ما شهد راجع إلى نقطة دائرة (كن) وليس للمكوَّن أن يجاوز ما أراده المكوِّن.

فإذا نظرت إلى اختلاف أغصان شجرة الكون ونوع ثمارها علمت أن أصل ذلك ناشئ من حبة (كن) بائن عنها، فلما أدخل آدم في مكتب التعليم، وعُلِّم الأسماء كلها، نظر إلى مثال (كن)، ونظر إلى مراد المكوِّن من المكوَّن، فشهد المعلَّم من كاف (كن) كاف الكنزية (كنت كنزا مختفيا لا أُعرف فأحببت أن أُعرف)، فنظر من سر النون نون الأنانية {إنني أنا الله لا إله إلا أنا}... الآية، فلما صح الهجاءُ، وحقق الرجاءُ، استنبط له من كاف الكنـزية كافَ التكريم {ولقد كرمنا بني آدم}، وكاف الكنتية {كنت له سمعا وبصرا ويدا}، واستخرج له من نون الأنانية نونَ النورية {وجعلنا له نورا}، واتصلت بها نونُ النعمة {وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها}.

وأما إبليس لعنه الله فإنه مكث في مكتب التعليم أربعين ألف عام يتصفح حروف (كن)، وقد وكله المعلِّم إلى نفسه، وأحاله على حوله وقوته، فكان ينظر إلى تمثال (كن) ليشهد من تمثالها كافَ كفره، فكبر {فأبى واستكبر}، ويشهد من نونها نون ناريته {خلقتني من نار}، فاتصلت كاف كفريته بنون ناريته {فكبكبوا فيها}.

فلما نظر آدم إلى اختلاف هذه الشجرة، وتنوع أزهارها وثمارها، فتثبت بغصن {إني أنا الله}، فنودي: كل من ثمار التوحيد، واستظل بظل التفريد، {ولا تقربا}، فأراد إبليس أن يوصله بغصن {فوسوس لهما.. فأكلا منها}، فزلقا في مزالق {وعصى}، واستمسك بغصن {ربنا ظلمنا أنفسنا}، فتدلت عليه ثمار {فتلقى}.

فلما نودي يوم الإشهاد، على رؤوس الأشهاد، {ألست بربكم} فشهد كلٌّ على مقدار ما شهد وسمع، ثم اتفق الكل في الإيجاب، فقالوا: {بلى}، لكن الاختلاف وقع من حيث الإشهاد، فمن أشهده جمالية ذاته شهد أنه {ليس كمثله شيء}، ومن أشهده جمالية صفاته شهد أنه {لا إله إلا هو الملك القدوس}، ومن أشهده عرائس مخلوقاته اختلفت شهاداتهم لاختلاف المشهود، فقوم جعلوه محدودا، وقوم جعلوه معدوما، وقوم جعلوه حجرا جلمودا، والكل في ذلك على حكم {قل لن يصيبنا}، وهو مستبطن في سر كلمة (كن)، دائر على نقطة دائرتها، ثابت على أصل حبتها.

فلما كانت هذه الحبة بزر شجرة الكون، وبزر ثمرتها، ومعنى صورتها، أحببتُ أن أجعل للمكوَّن مثالا، وللموجود تمثالا، ولما ينتج من الأقوال والأفعال والأحوال منوالا، فمثلت شجرة نبتت عن أصل حبة (كن)، وكل ما يحدث في الكون من الحوادث كالنقص والزيادة، والغيب والشهادة، والكفر والإيمان، وما تثمر من الأعمال وزكاة الأحوال، وما يطهر من قربات المقربين، ومقامات المتقين، ومنازلات الصديقين، ومناجاة العارفين، ومشاهدات المحبين، كل ذلك من ثمرها الذي أثمرته، وطلعها الذي أطلعته.

فأول ما أنبتت هذه الشجرة التي هي حبة (كن) ثلاثةُ أغصان، أخذ غصن منها ذات اليمين، فهم أصحاب اليمين، وأخذ غصن منها ذات الشمال، ونبت غصن منها معتدل القامة على سبيل الاستقامة، فكان منه السابقون المقربون، فلما ثبت واستعلى جاء من فرعها الأعلى وجاء من فرعها الأدنى عالم الصورة والمعنى، فما كان من قشورها الظاهرة، وستورها البارزة، فهو عالم الملك، وما كان من قلوبها الباطنة، ولباب معانيها الخافية، فهو عالم الملكوت، وما كان من الماء الجاري في شريانات عروقها الذي حصل به نموها، وحياتها وسموها، وبه طلعت أزهارها، وأينعت ثمارها فهو عالم الجبروت الذي هو سر كلمة (كن).

ثم أحاط بالشجرة حائطٌ، وحُدَّ لها حدود، ورسم لها رسوم، فحدودها الجهات وهن: العلو والسفل واليمين والشمال ووراء وأمام، فما كان أعلى فهو حدها الأعلى، وما كان أسفل فهو حدها الأسفل.

وأما رسومها وما فيها من الأفلاك والأجرام، والأملاك والأحكام، والآثار والأعلام، فجعل السبع الطباق، بمنزلة ما يستظل به من الأوراق، وجعل الكواكب في الإشراق، بمنزلة الأزهار في الآفاق، وجعل الليل والنهار، بمنزلة رداءين مختلفين: أحدهما أسود يُرتدى به ليحتجب عن الأبصار، والآخر أبيض يُرتدى به ليتجلى على ذوات الاستبصار.

وجعل العرش بمنزلة بيت مال هذه الشجرة وخزانة سلاحها، فمنه يستمد ما فيه صلاحها، وفيه سُوَّاسُ هذه الشجرة وخدمها {وترى الملائكة حافِّين من حول العرش} إليه يتوجهون، وعليه يعوِّلون، وحوله يحومون، وبه يطوفون، وحيثما كانوا فإليه يشيرون.

فمتى حدث في هذه الشجرة حادثة، أو نزل بشيء منها نازلةٌ، رفعوا أيدي المسألة والتضرع إلى جهة عرشه، يطلبون الشفا، ويستعفون عن الخطا، لأن موجد هذه الشجرة لا جهة إليه يشار إليها، ولا أينية يقصدونها، ولا كيفية له يعرفونها، فلو لم يكن العرش جهةً يتوجهون إليه للقيام بخدمته، ولأداء طاعته، لضلوا في طلبهم، فهو سبحانه إنما أوجد العرش إظهارا لقدرته لا محلا لذاته، وأوجد الوجود لا لحاجة له به ، وإنما هو إظهار لأسمائه وصفاته، فإن من أسمائه الغفور، ومن صفاته المغفرة، ومن أسمائه الرحيم، ومن صفاته الرحمة، ومن أسمائه الكريم، ومن صفاته الكرم، فاختلفت أغصانُ هذه الشجرة، وتنوعت ثمارها ليظهر سر مغفرته للمذنب، ورحمته للمحسن، وفضله للطائع، وعدله للعاصي، ونعمته للمؤمن، ونقمته على الكافر.

فهو مقدس في وجوده عن ملامسة ما أوجده ومجانبته ومواصلته ومفاصلته، لأنه كان ولا كون، وهو الآن كما كان لا يتصل بكون، ولا ينفصل عن كون، لأن الوصل والفصل من صفات الحدوث لا من صفات القدم، لأن الاتصال والانفصال، يلزم منه الانتقال والارتحال، ويلزم من الانتقال والارتحال التحول والزوال والتغيير والاستبدال، وهذا كله من صفات النقص لا من صفات الكمال، فسبحانه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.

ثم جعل اللوح والقلم بمنزلة كتاب المُلك وما يسطر فيه من أحكامه، وما حكم بنقضه وإبرامه، وإيجاده وإعدامه، وما يخرج من بره وإنعامه، وما يكون من ثوابه وانتقامه.

ثم جعل سدرة المنتهى بمنزلة غصن من أغصان هذه الشجرة، يقوم تحتها مَنْ يقوم بخدمته وينفذ أحكامه، ويرفع إليه ما يحمل من ثمرة هذه الشجرة وما يدانيها، ثم يتلقى هناك من نسخة كتاب المُلك الذي هو اللوح المحفوظ.

وما يحدث في هذه الشجرة من محو وإثبات ونقص وزيادة فلا يتجاوز تلك الشجرة، إذ لكل واحد منهم حد مفهوم، وحظ مقسوم، ورسم مرسوم { وما منا إلا له مقام معلوم}.

ولا يرفع شيء من ثمرة هذه الشجرة من دني أو سنيٍّ، أو صغير أو كبير، أو جليل أو حقير، أو قليل أو كثير، إلا ختم عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يأمرهم المَلِكُ أن يدفعوا إلى إحدى خزانتيه اللتين ادخرهما لثمرة هذه الشجرة، وهما الجنة والنار، فما كان من ثمر طيب ففي خزانة الجنة " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين "، وما كان من ثمر خبيث ففي خزانة النار {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين}، فأما الجنة فدار أصحاب اليمين من جانب الطور الأيمن من الشجرة المباركة الطيبة، وأما النار فدار أصحاب الشمال من الشجرة الملعونة في القرآن.

ثم جعل الدنيا مستودع زهرتها، والآخرة مستقر ثمرتها، وأحاط على هذه الشجرة حائط إحاطة القدرة {والله بكل شيء محيط}، وأدار عليها دائرة الإرادة {يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد}.

فلما ثبت أصل هذه الشجرة وثبت فرعها، التقى طرفاها، ولحق أخراها بأولاها إلى ربك منتهاها إلى مبتداها، لأن من كان أوله (كن) كان آخره (يكون)، فهي وإن تعددت فروعها، وتنوعت زروعها، فأصلها واحد، فهي حبة كلمة (كن)، وسيكون آخرها واحدا وهي كلمة (كن).

فلو أحدقت ببصر بصيرتك لرأيت أغصان شجرة طوبى معلقةً بأغصان شجرة الزقوم، وبرد نسيم القرب يمازج حر السموم، وظل سماء الوصل متصلا بظل من يحموم، وقد تناول كل حظه المقسوم، فواحد يشرب بكأسه المختوم، وواحد يشرب بكأسه المحتوم، وواحد من بينهم محروم.

فلما برزت أطفال الوجود من حضرة العدم هبت عليهم نسمات القدرة، وغذتها لطائف الحكمة، وأمطرتها سحائب الإرادة بعجائب الصنع، فأنبت كل غصن منها ما سبق له في القدم، ورُكِّب في عنصره من الصحة والسقم، والكون كله من عنصرين مستخرجين من جزأين من كلمة (كن)، وهما: الظلمة والنور، فالخير كله من النور، والشر كله من الظلمة، فملأ الملائكة موجود من عنصر النور، فكان منهم الخير {لا يعصون الله ما أمرهم}، وملأ الشياطين من عنصر الظلمة، فكان منهم الشر.

وأما آدم وبنوه فإنهم جعلت طينتهم من الظلمة والنور، وركب عنصره من الخير والشر، والنفع والضر، وجعلت ذاته قابلةً للنكرة والمعرفة، فأي جوهر غلب عليه نسب إليه، فإن علا جوهر نوره على جوهر الظلمة، وظهرت روحانيته على جسمانيته، فقد فضل على المَلَك، واستوى على الفَلَكِ، وإن غلب جوهر ظلمته على جوهر نوره، وظهرت جسمانيته على روحانيته، فقد فضل على الشيطان.

فلما قبض الله آدم من قبضة تراب (كن) مسح على ظهره {حتى يميز الخبيث من الطيب}، فاستخرج من ظهره مَنْ كان من أصحاب اليمين، فأخذوا ذات اليمين، واستخرج من ظهره مَنْ كان من أصحاب الشمال، فأخذوا ذات الشمال، وما زاغ أحد عن المراد وما مال، ومن قال: لِمَ؟ فقد أخطأ في السؤال.

فأول من عمل حوالي هذه الشجرة إلى أصل حبة (كن) فاعتصر صفوة عنصرها، ومَخَضَهَا حتى بدت زُبْدَتُهَا، ثم صفاها بمصفاة الصفوة حتى زال وَخَمُهَا، ثم ألقى عليها من نور هدايته حتى ظهر جوهرها، ثم غمسها في بحر الرحمة حتى عمت بركتها، ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم زين بنور الملأ الأعلى حتى أضاء وعلا، ثم جعل ذلك النور أصلا لكل نور، فهو أولهم في المسطور، وآخرهم في الظهور، وقائدهم في النشور، ومُبَشَّرُهُمْ بالسرور، ومتَوَّجُهُمْ بالحبور، فهو مستودع في ديوان الإنس، مستقر في رياض الأنس، وحضرة الأنس، ستر معنى روحانيته بستر جسمانيته، وغطى عالم شهوده بعالم وجوده، فهو مستخْرَجٌ في الكون، مستنبَطٌ لأجله الكون.

وذلك أن الله تعالى كون الأكوان اقتدارا عليها لا افتقارا إليها، وكمال حكمته في التكوين، لإظهار شرف الماء والطين، فإنه أوجد ما أوجد ولم يقل في شيء من ذلك: {إني جاعل في الأرض خليفةً}، وكان وجود الآدمي، فكانت حكمته في وجود الآدمي لإظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حكمة الأجساد لاستخراج كاف الكنزية (كنت كنزا مخفيا لا أعرف)، فكان المقصود في الوجود معرفة موجدهم سبحانه، وكان المخصوص بأتم المعارف قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأم معارف الكل كانت تصديقا وإيمانا، ومعرفته صلى الله عليه وسلم مشاهدة وعيانا، وبنور معرفته صلى الله عليه وسلم تعرفوا، وبفضله عليهم اعترفوا، فاستخرجه من لباب حبة (كن) {كزرع أخرج شطأه فآزره} بصحابته {استغلظ} بقرابته {فاستوى على سوقه} بصحة ذوقه، وقوة توقه وشوقه.

فلما ظهر هذا الغصن المحمدي وسما، أورق عوده ونما، وانهل عليه سحاب القبول وهمى، وتباشر بظهوره الحدثان، وبشر بوجوده الثقلان، وتعطرت بقدومه الأكوان، وانتكست بمولده الأوثان، ونسخت بمبعثه الأديان، ونزل بتصديقه القرآن، واهتزت طربا شجرة الأكوان، وتحرك ما فيها من الألوان والعيدان، وكان من أغصان هذه الشجرة من أخذ ذات الشمال، ومال يهوى الضلال، فلما أرسلت رياح الإرسال، برسالة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، استنشقها من سبقت لهم منا الحسنى، فمال إليها متعطفا، وأما من كان مزكوما، أو خلع القبول محروما، فإنه عصفت به عواصف القدرة فأصبح بعد نضارته يابسا، ووجه سعادته عابسا، وراح من رجاء فلاحه قانطا آيسا.

وكان سر هذا الغصن لقاح شجرة الجود، ودرة صدفة الوجود، وكان من روح روحانيته روح {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا *وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}، فهو مصباح ظلمة الكون، وروح جسد الوجود، لأن الله تعالى لما خاطب السموات والأرض وقال لهما: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين}، فأجابه موضع الكعبة من الأرض ومن السماء ما يحاذيه، فكانت تربة بقعة الكعبة، وكان محل الإيمان من الأرض.

فلما أمر الله بالقبضة التي قبضت من الأرض لخلق آدم عليه السلام، فقبضت من سائر الأرض، من طيبها وخبيثها، فكانت طينة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مخلوقة من موضع الكعبة التي هي محل الإيمان بالله تعالى، ثم عجنت تلك الطينة بطينة آدم عليه السلام، فكانت تلك الطينة بمنزلة الخميرة، ولولا ذلك لما أطاقوا الإجابة يوم الإشهاد، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين).

فكانت ذوات الوجود وبركته من ذرة وجوده، فلما أشهدهم على أنفسهم في حضرة شهوده قال: {ألست بربكم قالوا بلى}، فسرت في أجزاء ذراتهم تلك الخميرة النبوية، فانطلقت بإذن الله تعالى ألسنتهم بالتلبية قائلة، فمن كانت طينته قابلة للتخمير، بما سبق في التقدير، بقي معه ذلك التخمير، باقيا فيه مستصحبا، حتى ظهر إلى الحس، وظهر في تلك الصورة، فبرز ذلك المعنى، محققا لتلك الدعوى، فأشرق نور ذلك المعنى الروحاني، على ما يحاذيه من الجسد الجسماني، فأشرق الجسد بعد ظلمته، فاستنارت الجوارح لرشدها فعملت بالطاعة.

وأما من كانت طينته خبيثة غير قابلة للتخمير، وإنما أثرت تلك الخميرة مقدار ما اعترف عند الإشهاد، وأفصحت في ذلك الإقرار، في حال الاستقرار، ثم طال عليها الأمد، ففسدت تلك الخميرة بفساد تلك الطينة، فكأنه كان مستودعا فاسترجع منه ما استودِع، إذ لم يكن لحفظها أهلا، فهو مستودع - أعني الإيمان – في قلوب الكافرين، مستقر في قلوب المؤمنين، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) التي فطر الله الناس عليها، وهو تساويهم في الإيمان في قول: {الست بربكم قالوا بلى}، واستووا في التلبية، ونطقوا بالإجابة، لسريان تلك الخميرة في أجزاء ذراتهم، وقد سبق في علم الله تعالى ونفذ تقديره، فمن تبقى على ذلك الإقرار، لا يستحيل إلى الجحود والإنكار.

وكل ما يحدث في شجرة الكون من نمو وزيادة، وأزهار وإثمار أفكار، ومتشابه شوق، ومحكم ذوق، وصفاء أسرار، ونسيم استغفار، وما ينمو به من الأعمال، وتزكو به الأحوال، وما تورق به من رياضات النفوس، ومناجاة القلوب، ومنازلات الأسرار، ومشاهدات الأرواح، وما ينبت به من أزاهير الحكم، ولطائف المعارف، وما يصعد من طيب الأنفاس، وما يعقد من ورق الإيناس، وما ينشأ من رياح الارتياح، وما يبنى على أصلها من مراتب أهل الاختصاص، ومقامات الخواص، ومنازلات الصديقين، ومناجاة المقربين، ومشاهدات المحبين، كل ذلك من لقاح الغصن المحمدي، متوقد من نوره، مستمد من نماء نهر كوثره، مغذَّى بلباب بره، مربَّى في مهد هدايته، فلذلك عمت بركته، وتمت على الخلائق رحمته {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

فلما مهَّد لأجله الدار، وسخر من أجله الليل والنهار، ورسم الرسوم وحدَّد الأقطار، وأخذ الميثاق على تصديقه، والتمسك بحبل تحقيقه، جلا عروس شريعته، على أتباعه وشيعته، ثم ختم بنبوته الأنبياء، وبكتابه الكتب، وبرسالته الرسل، فمن احتمى بحمى شريعته سلم، ومن استمسك بحبل ملته عُصِم.

لم توسل به آدم عليه السلام، سلم من الملام، ولما انتقل إلى صلب إبراهيم الخليل صارت النار عليه بردا وسلاما، ولما أودعته صدفة إسماعيل فُدِيَ بذبح عظيم، فثمرة غصن أصحاب اليمين {يحبهم ويحبونه}، وثمرة غصن أصحاب الشمال {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، وثمرة غصن السابقين المقربين {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، فبركته على الآفاق قد عمت، وكلمته قد تمت.

خلق آدم على صورة اسمه، لأن اسمه محمد، فرأس آدم دائرة بتدويره، على صورة الميم الأولى من اسمه، وإرسال يده مع جنبه على صورة الحاء، وبطنه على صورة الميم الثانية، ورجلاه في انفتاحهما على صورة الدال، فكمل خلق آدم على صورة اسم محمد صلى الله عليه وسلم.

وقولنا كوَّن الأكوان على هيئة رسمه لأن العالم عالمان: عالم الملك وعالم الملكوت، فعالم الملك كعالم جسمانيته، وعالم الملكوت كعالم روحانيته، فكثيف العالم السفلي ككثيف جسمانيته، ولطيف العالم العلوي كلطيف روحانيته، فما في الأرض من الجبال التي جعلت في الأرض أوتادا، فهي بمنزلة جبال عظامه التي جعلت أوتاد جسمه.

وما فيها من بحار مسجورة جارية وغير جارية، عذبة وغير عذبة فهي بمنزلة ما في جسده من دم جار في تيار العروق، وساكنٍ في جداول الأعضاء، واختلاف أذواقها، فمنها ما هو عذب وهو ماء الريق، يطيب بعجينه المآكل والمشارب، ومنها ما هو مالح، وهو ماء العين، بحفظه شحمة العين، ومنها ما هو مر، وهو ماء الأذن، لصيانة الأذن من حيوان ودبيب يصل إليها فيقتله ذلك الماء.

ثم في أرض جسده ما ينبت كالأرض الجرز، والأرض السبخة التي لا تنبت ويستحيل النبت فيها، ثم لما كان في الأرض بحار عظيمة تتفرع منها أنهار وسواقٍ لنفع الناس بها، كذلك في أرض جسده عروق غلاظ كالوتين الذي يبث الدم، وتستمد العروق منه إلى سائر الجسد.

ثم العالم العلوي، وهو عالم السماء، جعل الله فيه شمسا كالسراج يستضيء به أهل الأرض، كذلك جعلت الروح في الجسد يستضيء بها الجسد، فلو غابت بالموت لأظلم الجسد كظلمة الأرض إذا غابت عنها الشمس.

ثم جعل العقل بمنزلة القمر يستنير في فلك السماء، تارة يزيد وتارة ينقص، فابتداؤه صغير وهو هلال كابتداء عقل الصغير في صغره، ثم يزيد كزيادة القمر ليلة تمامه، ثم يبدو بالنقص، فهو بمنزلة بلوغ الأجل إلى تمام الأربعين، ثم يعود في النقص في تركيبه وقوته.

ثم جعل في السماء كواكب خمسا، وهي الخمس الخنس {الجواري الكنس}، وهي بمنزلة الحواس الخمس، وهي: الذوق والشم واللمس والسمع والبصر.

ثم جعل في عالم السماء عرشا وكرسيا، فالعرش أوجده وجعل وجهة قلوب عباده إليه، ومحل رفع الأيدي إليه، لا محلا لذاته، ولا مجانسا لصفاته، لأن الرحمن - تعالى اسمه – الاستواء نعته وصفته، ونعته وصفته متصلة بذاته، والعرش خلق من خلقه، لا متصل به، ولا ملامس له، ولا محمول عليه، ولا مفتقر إليه، وأما الكرسي فهو وعاء أسراره، وكنانة أنواره، ومستودع ما في دائرة {وسع كرسيه السموات والأرض}.

فجعل الصدر بمنزلة الكرسي، لأن فيه تحصيل العلوم الصادرة بمنزلة الساحة على باب القلب، والنفس يشرع منه بابان إليهما، فما صدر عن القلب من خير، أو عن النفس من شر، فهو محصل في الصدر، وعنه يصدر إلى الجوارح، وهو معنى قوله تعالى:{وحصل ما في الصدور}.

وجعل القلب بمنزلة العرش، لأن عرشه في السماء معروف، وعرشه في الأرض مسكون، لأن عرش القلوب أفضل من عرش السماء، لأن ذلك العرش لا يسعه، ولا يحمله، ولا يدركه، وهذا عرش في كل حين ينظر إليه، ويتجلى عليه، وينزل من سماء كرمه إليه (ما وسعني سمواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن).

ولما جعل في عالم الآخرة جنة ونارا للنعيم والعذاب، هذه خزانة الخير وهذه خزانة الشر، كذلك جعل الخير الذي هو مكان سويداء القلب جعله جنة عبده المؤمن، لأنه محل المشاهدة والتجلي والمناجاة والمنازلات ومنبع الأنوار، وجعل النفس بمنزلة النار، لأنها منبع الشر، ومحل الوسواس، وربع الشيطان، ومحل الظلمة.

ثم جعل اللوح والقلم نسخة كتاب الكون والتكوين، وما كان وما يكون إلى يوم الدين، وجعل الملائكة تستنسخ ما يؤمرون بنسخه، من محو وإثبات، وموت وحياة، ونقص وزيادة، فكذلك اللسان بمنزلة القلم، والصدر بمنزلة اللوح، فما نطق به اللسان، رقمته الأذهان في ألواح الصدور، وما أرخته إرادة القلب إلى الصدر عبر عنه اللسان كالترجمان.

ثم جعل الحواس رسل القلب يستنسخ ما حصل فيها، فالسمع رسول، وهو جاسوسه، والبصر رسول، وهو حارسه، واللسان رسول، وهو ترجمانه.

ثم جعل في الإنسان ما هو دلالة على الربوبية، وتصديق الرسالة المحمدية، وذلك الهيكل الإنساني لما افتقر إلى مدبر وهو الروح، وكان مدبره واحدا، وكانت الروح غير مرئية، ولا مكيفة، ولا متحيزة في شيء من الجسد، ولا يتحرك شيء من الجسد إلا بشعورها به، وإرادتها له، لا يحس ولا يمس إلا بها، وكان ذلك كله دلالة على أن العوالم لا بد لهم من مدبر ومحرك، ويلزم منه أن يكون واحدا عالما بما يحدث في ملكه، قادرا على حدوثه، وأنه غير مكيف، ولا متمثل، ولا مرئي، ولا متحيز، ولا متبعِّض، ولا محسوس، ولا ملموس، ولا مقبوس، بل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

ولما كان رسوله إلى خلقه اثنين: ظاهرا وباطنا، فرسوله الظاهر محمد رسول الله، ورسوله الباطن جبريل، فجبريل يأتيه بالوحي بين قومه ولا يحسونه ولا يعرفونه، فكذلك كان لمدبر هذا الهيكل الإنساني، وهو الروح، رسولان: باطن وظاهر، فالرسول الباطن هي الإرادة، بمنزلة جبريل يوحي إلى اللسان، واللسان يعبر عن الإرادة، وهو بمنزلة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم لما جعل فيك دلالة على صحة نبوته، وصدق رسالته، جعل فيك أيضا دلالة على ما جاء به من تحقيق شريعته، واتباع سنته، فكان أصل الأيدي خمسة أشياء، كل منها خمسة، فالأصل الأول ما بني عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام ).

الأصل الثاني: وكانت الصلاة المفترضة خمسا، والثالث: الزكاة المفروضة في النصاب خمس، والرابع: {محمد رسول الله والذين معه}؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فهم خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم الخامس. أهل البيت خمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

فلما كان أركان الدين إقامة أركان شريعته، ومحبة صحابته، ومودة قرابته، جعل في أعضائك منها دلالة على ذلك خمسة، فالخمسة التي بني الإسلام عليها بمنزلة الحواس الخمس منك، وهي السمع والبصر واللمس والشم والذوق، لأنك تجد بهذه الحواس مذاق كل شيء، ومعرفة كل شيء، وكذلك تجد بإقامة تلك الأركان الخمسة ذوق كل شيء، وإدراك العرفان، ومعرفة الرحمن، وعلم الإيقان.

فحاسة البصر تدعوك إلى إقامة أركان الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة"، وحاسة اللمس تدعوك لأداء الزكاة، قال الله تعالى: {خذ من أموالهم}، وحاسة الذوق تدعوك إلى ترك ذوق الطعام، لإقامة ركن الصيام، وحاسة السمع تدعوك إلى استماع الأذان {وأذن في الناس بالحج}، وحاسة الشم تدعوك إلى انتشاق أنفاس التوحيد {إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن}، فهذه الحواس تدعوك إلى إقامة الأركان الخمسة.

وجعل أصابعك الخمسة في يمينك بمنزلة محمد صلى الله عليه وسلم والذين معه هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن آدم عليه السلام لما خلق نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في جبينه كانت الملائكة تستقبله وتسلم على نور محمد صلى الله عليه وسلم، وآدم عليه السلام لم يره، فقال: يا رب، أحب أن أنظر إلى نور ولدي محمد صلى الله عليه وسلم، فحوِّله إلى عضو من أعضائي لأراه، فحوَّلَهُ إلى سبابته في يده اليمنى، فنظر إليه يتلألأ في مسبحته، فرفعها فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فلذلك سميت المسبحة، فقال: يا رب، هل بقي في صلبي من هذا النور شيء؟ قال: نعم، نور أصحابه، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فجعل نور علي في إبهامه، ونور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر، ونور عثمان في الخنصر، وقيل: إنما جعلت في يدك لتقبض برؤوسهن على حب هؤلاء الخمسة، ولا تفرق بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله جمع بينهم بقوله: {محمد رسول الله والذين معه}.

ثم جعل أصابعك الخمسة في اليد اليمنى مذكرة بالخمسة أشباح، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس بقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلت هذه الآية فينا أهل البيت أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين).

ثم جعل أصابع قدميك الخمسة مشيرة لك مذكرة بالخمس صلوات التي افترضها الله عليك، فتقوم بها على قدميك لأنها خدمة الله تعالى في الأرض، والخدمة إنما تكون من القدمين، فلذلك جعلت قدمك اليمنى مذكرة بالصلوات الخمس، وأصابع قدمك اليمنى تذكرك بما يجب من نصاب الزكاة، وهي خمسة دراهم، فالزكاة مقرونة بالصلاة، فلذلك جعل أصابع القدمين إشارة إلى الصلاة والزكاة.

ثم جعل فيك ما يدل على الموت والبعث، وما يدل على نعيم القبر وعذابه، وهو النوم، وما يراه النائم من منام سيء فيتعذب به فيصير بالنوم كالميت، فاقد الحس فلا سمع له، ولا بصر له، ولا إدراك له، ثم جعل له سمعا وبصرا وإدراكا فيسمع ويبصر بسمع وبصر عن سمعه وبصره، ويرى نفسه تذهب حيث تشاء ويأكل ويشرب، فهي بمنزلة ما يراه الميت في قبره من النعيم والعذاب في مدة البرزخ بين الموت والبعث، ثم يوقظك الله من نومك لا عن مرادك ولا عن اختيارك، فلو أردت أن لا تنتبه من ذلك فأنت تطيق أن لا تبعث، وهذا تكذيب من أنكر البعث بعد الموت وجهله، وهم الزنادقة، والدهرية، والفلاسفة، وردٌّ على من أنكر عذاب القبر ونعيمه ومسألته، وهم المعتزلة.

ثم اعلم أن الله تعالى خلق خلقه على ثلاثة أصناف، فقال تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والديدان ومنهم من يمشي على رجلين كالطير والآدمي ومنهم من يمشي على أربع كالدواب، فمنهم صنف كالساجد، وصنف كالراكع، وصنف كالقائم، فالقائم كالأشجار والجدران لا يطيقون ركوعا، والراكع كالدواب لا يطيقون سجودا ولا قياما، والساجد كالحشرات لا يطيقون رفعا، وكلهم مخلوقون لطاعته وتقديسه وتنزيهه {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، فجمع سبحانه لك سائر عبادات خلقه وطاعتهم، وبسط لك في خلقه، إن شئت أن تعبده قائما وراكعا وساجدا فعلت، ليجمع لك فضيلة جميع خلقه، فكذلك فرض عليك الصلاة، وجعلها تشتمل على سائر عبادة خلقه، فكذلك فضيلة القوَّم والركَّع والسجَّد.

وأنت المقصود من كل الوجود، وأنت خاصة العبيد لمراد المعبود، فهذا معنى قولنا متقدما: خلق الله آدم عليه السلام على صورة اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وخلق الكون على هيئة رسمه.

واعلم أن الملأ الأعلى مسخرون في نفع شجرة الكون، مستعملون لمصالحها، قائمون بحقوقها، لما فيها من خاصية هذا الغصن المحمدي والنور الأحمدي، فأول ما انسلخ نهار الوجود، من ظلمة ليل العدم، شعشعت أنوار الشموس المحمدية، في أفق جبين آدم عليه السلام، فخرت الملائكة سجدا، وقالوا: مليك العرش أبدا، فلما أمروا بالسجود فسجدوا، وخصوا بالشهود فشهدوا، وقيل لهم: شكران هذه المشاهدة، أن تقوموا على قدم المجاهدة، في خدمة شجرة هو أصلها، ودولة هو عقدها وحلها، فليكن منكم السفرة، يسعون بالصحف المطهرة، وليكن منكم البررة، يطوفون حول حمى هذه الشجرة، وليكن منكم الحملة، يحملون لكل عامل عمله، وليكن منكم الكتاب، يقومون على أعتاب من قد تاب، وليكن منكم من يغسل وجوههم من غبار الأوزار، بماء الاستغفار، ويستغفرون لمن في الأرض، وليكن منكم الحفظة، يحفظون عليهم أعمالهم، ويحصون ما عليهم وما لهم، وليكن منكم من يسعى في أرزاقهم، ليتفرغوا لطاعة رازقهم.

فقوم يرسلون الرياح، وقوم يسيرون السحاب، وقوم يسجرون البحار، وقوم ينزلون ماء الأمطار، وقوم يحفظون الأقطار، وقوم يغشون الليل، وقوم يسبحون النهار، وقوم معقبات، يحفظون الجوارح من الموبقات، وقوم يرفعون الآفات، وقوم يزخرفون الجنان، وقوم يسعرون النيران.

فلما تمهدت الدار، ودار كأس إرادته فاستدار، فأول ما استُحْضِر، إلى ذلك المحضر، إبليس، وهو يرفل في ثياب التسبيح والتقديس، لكنها محشوة بأدغال التدليس، فلما حضر إلى ذلك المحضر، وشاهد جمال ذلك المنظر، ووقف على عرفات المعرفة، فأنكر وأصر على العصيان، وأضمر واستصغر حق هذا الماء والطين واستحقر، فلما قيل له: اسجد في صفاء كاساتك، فأبى واستكبر، فتجاوز الكاس، وفاتته صحبة الأكياس، وبقي في ظلمة الغم والوسواس، وفتش أكياس علمه وعمله، فإذا هي فلوس أكياس، فبقي منقطعا في مفازة القطيعة، قاطعا للشيعة والشريعة، كلما تزايد كربه، وتعاظم عليه ضربه، يستغيث بلسان "فلأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم"، والقدر يقول: لأكتبن لهم منشور الأمان {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.

فسَألَ المالك الإنظار، فأنظر ليكون قائد الكفار إلى النار، عكازة يعتمد عليها ذوو الذنوب والأوزار، فإذا زل أحدهم قال: {إنما استزلهم الشيطان}، وإن عمل قال: {هذا من عمل الشيطان}.

فلما اقتحم آدم وإبليس عقبة المعصية، هذا يترك ما أمر به، وذاك يفعل ما نهي عنه، جمع بينهما القدر إذ قدر، لأنه تعالى أمر وأراد خلاف ما أمر، فما وهبه الأمر سلبته الإرادة.

فلما تعدياها حكم لإبليس أن لا يتعداها، وطنب الشقي فيها خيامه، وجعل في عرصتها مقامه، وأما آدم فإنه حن إلى دار المقامة، وتذكر لياليه وأيامه، فعاد على نفسه بالملامة، فنادى بين ندماء الندامة: {ربنا ظلمنا أنفسنا}، فتلقى بشير قربته، بتفريج كربته {فتلقى آدم من ربه كلمات}.

وأما الشقي إبليس فانطلقت إليه خيول اللعنة، مطلقة الأعنة، تبشره بطرده وبعده، فأخرج منها مأمورا {قلنا اهبطوا}، فتقلقل آدم قلقا، وكاد أن يتمزق حرقا، وقال: سيدي، جرعت مرارة الصدود في الصعود، فأعذني من مرارة القنوط في الهبوط، فقيل له: لا بأس عليك حتى تصل إلى مفرق فريقين {فريق في الجنة وفريق في السعير}، فأخذ آدم ذات اليمين، وأخذ إبليس ذات الشمال، فكان أصلا لأصحاب الشمال، لكنهما لما اصطحبا واجتمعا فكان للصحبة أثر، فكان محله من آدم وسيره معه مما يلي شماله، فأثر ذلك على ما كان في أصله من الصفح الأيسر، فبرحوا في ظل ظلمة مخالفته، فكفروا بقربهم منه، ومحاذاتهم له، وبقي من كان في الصفح الأيمن في نور معرفة آدم، فسلموا من ظلمة إبليس لبعدهم عنه، وأثر عليهم جوار من كفر، واستظل بظلمة ضلاله، وهم أهل الصفح الأيسر، وأثر ذلك في صفاتهم، وسلمت لهم أنوار ذواتهم ومعارفهم، فما يرتكبه أهل الصفح الأيمن من المعاصي والأوزار، هو من أثر ذلك الجوار، وأشعة ذلك العذار.

واعلم أنه كان لذلك الأثر أصل آخر وسبب آخر، وهو أنه لما أمر الله تعالى بقبض القبضة التي خلق منها آدم عليه السلام، فهبط ملك الموت لذلك، وكان إبليس يومئذ في الأرض قد استخلفه الله تعالى فيها مع جملة من الملائكة، وقد مكث زمانا طويلا يعبد الله، فقبض ملك الموت القبضة من سائر الأرض، وكان إبليس يطؤها بقدمه، فلما عجنت طينة آدم، وصورت صورته من تلك الطينة، جاء خلق النفس من التراب الذي وطئه إبليس بقدمه، وخلق القلب من التراب الذي لم يطأه إبليس بقدمه، فاكتسبت النفس ما فيها من الخبث والأوصاف المذمومة من ملامسة وطء إبليس، ومن هنا جعلت النفس مأوى الشهوات، وعيشه وسلطانه عليها لوطئه لها، ومن هنا جعل إبليس التكبر على آدم، حيث وجدها من تراب قدمه، ونظر إلى جوهر عنصره، وهو النار، فادعى الفخار، حينئذ، ومال إلى الاستكبار، وهذا معنى قول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان}، التي خلقت من تحت خطواته.

اعلم أنه لما نشأت شجرة الكون أنبتت أغصانا ثلاثة، غصن ذات اليمين، وغصن ذات الشمال، وغصن نبت مستقيما قويما، وهو غصن السابقين، فكانت روحانية محمد صلى الله عليه وسلم قائمة بالثلاثة أغصان، سارية فيها، لكل غصن نصيب على مقدار قابليته لتلك الروحانية، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

فكان حظ غصن أصحاب اليمين روحانية الهداية، والمتابعة له، والعمل بسنته وشريعته، قال الله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي}... الآية، وكان حظ السابقين روحانية القربى منه، والزلفى لديه، والصحبة له {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين}... الآية، وكان حظ أصحاب الشمال من روحانية حمايتهم في الدنيا، وأمنهم من العقوبة المعجلة {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}... الآية.

فلما آن أوان ظهور جسمانيته صلى الله عليه وسلم إلى الوجود نبت غصن وجوده مستقيما قويما، فلما ثبت أصله، ونبت فرعه، ناداه متولي سياسته: {فاستقم كما أمرت}، فكانت صفته صلى الله عليه وسلم الاستقامة، ومقامه دار المقامة، فلما استقام رحل عن الكونين، ولما أقام نقل من مقام إلى مقام، حتى استقر به المنزل فأقام.

فالمقام الأول: مقام الوجود في الدنيا، وهو قوله تعالى: {يا أيها المدثر * قم فأنذر}، والمقام الثاني: المقام المحمود في الآخرة، وهو قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، والمقام الثالث: مقام الخلود في الجنة، وهو قوله تعالى: {الذي أحلنا دار المقامة من فضله}، والمقام الرابع: المقام المشهود، مقام قاب قوسين لرؤية المعبود {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}... الآية.

فهو المخصوص بالدنو والعلو والشهود، إذ كان هو المقصود من كل الوجود، لأن الوجود لما كان شجرة كان هو ثمرتها، وكان هو جوهرتها، فالشجرة المثمرة إنما تثمر بالحبة التي ينبت بها أصلها، فإذا غرست تلك الحبة وغُذيت وربيت حتى نبتت وفرعت وأورقت واهتزت وأثمرت، فإذا نظرت تلك الشجرة رأيتها في تلك الحبة التي نبت منها هذه الشجرة، فالحبة في البداية نطفة حتى أظهرت صورة الشجرة، والشجرة في النهاية بها ظهرت، فأظهرت صورة تلك الحبة.

فكذلك بطونه صلى الله عليه وسلم في المعنى في السابق، واختفاؤه وظهوره في الصورة في اللاحق واشتهاره، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)، فكان هو مظهر معنى هذه الشجرة، وهو مظهر صورته صلى الله عليه وسلم، فما برح بلسان القدم مذكورا، وفي طي العدم منشورا.

وما مثال ذلك إلا مثال تاجر عمد إلى فِرَاشِهِ وبَزِّهِ، فطواه في خزانة ملكه، وعباه أثوابا بعضها فوق بعض، فأول ثوب دمجه وطواه، هو آخر ثوب أظهره وأبداه، كذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان أولا لكل وجودا، وآخرهم ظهورا وخروجا.

فلما تولى مقصار القدر سياسة هذا الغصن النبوي، فغذاه بلباب بره وسقاه بكأس محبته، وحماه في قلة حماه، ورباه حتى اهتزت رُباه، وتفرعت نفحات شذاه، فكانت تلك النفحات غذاء أرواح العارفين، ونر بصائر المؤمنين، وريحانة حضرة المحبين، وعرصة مجمع العاصين، وغياث مستسقي المذنبين، فإن هب من تلقاء أصحاب الشمال سموم خطيئة أو عاصف معصية، فأمال غصنا قد أنبته الله نباتاـ فمال به إلى عمل من أعمال أهل الشمال تلاعب بفرعه، وأثر ذلك في خضرة زرعه، لكن أصله في أرض الإيمان ثابت، فما يضره ما حدث في فرعه النابت، إذا تداركه صاحب سيئاته فحماه من ذلك الهوى، وأماله إلى طريق الاستقامة بعد الطوى، وسقاه بماء الاستغفار حتى ارتوى، فهنالك يقبل منه ما نوى، ويورق غصن إيمانه بعد ما زوى، ويقوم خطيب الاعتذار عنه وهو الصادق فيما نقل وروى، ويقسم بالنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى.

ثم اعلم أن الغصن المحمدي قد حصل من روحانية ما هو مادة الأرواح، ومن جسمانية ما هو مادة الأشباح، فأما مادة روحانيته جوده في سر قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض}، إلى قوله: {مصباح}، يعني مصباح نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعله مصباح مشكاة الوجود، فشبه الكون بالمشكاة، وسيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالزجاجة، والنور الذي هو قلبه بالمصباح، فأشرق نور باطنه على ظاهره، كإشراق المصباح في الزجاجة، فصار نور المصباح نارا، والزجاجة نورا لصفائها، فصار نورا، وكان حظ كل مخلوق من ذلك بحسب قربه منه، واتباعه له، والدخول في شيعته، والعمل بشريعته وهو معنى قوله تعالى: {انزل من السماء ماء بقدر}، فشبه الله تعالى حبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم بالماء النازل من السماء بقدر، لأن الماء حياة كل شيء، وكذلك كان نوره صلى الله عليه وسلم حياة كل قلب، ووجوده رحمة لكل شيء.



ثم بيَّن انتفاع الناس بنوره، وما نالهم من بركته صلى الله عليه وسلم بالأودية، فجعل القلوب أودية، منها الكبير والصغير، والجليل والحقير، فاحتمل كل قلب على قدر وسعه، ومقدار مادته من الماء، وتطرق السيل إليه {قد علم كل أناس مشربهم}، ثم شبه جسمانيته بالزبد الرابي المحتمل على وجه الماء الصافي، وهو مرباه الظاهر من الأكل والشرب والنكاح، ومشاركة الناس في أفعالهم وأحوالهم فذلك كله يذهب ويتلاشى {وأما ما ينفع الناس} من نبوته ورسالته وحكمته وعلمه ومعرفته وشفاعته {فيمكث في الأرض}.

واعلم أنه إنما كانت حكمة خلقه كذلك أنه خلق من لطيف وكثيف، ليكون كامل الخلق، كامل الوصف، خلقه الله تعالى من ضدين: جسماني وروحاني، فجعل جسمانيته وبشريته لملاقاة البشر، ومقايسات الصور، فجعل له قوة يلاقي بها البشر فيمدهم بمادة بشريته، فيكون معهم بهم، فيكون هم لهم (إنما أنا بشر مثلكم)، يجانسهم ويشاكلهم، لأنه لو برز إليهم في هيئة روحانية ملكية نورانية لما أطاقوا مقابلته، وما استطاعوا مقاومته، فلذلك منَّ الله تعالى بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، ثم جعل له قوة وروحانية يقابل بها عالم الروحانيين، وملكوت العلويين، ليكون تام البركة، تام الرحمة، الروحانيون يشهدون جسمانيته.

ثم جعل له وصفا ثالثا خاصا خارجا عن هذين الوصفين، وهو أنه جعل فيه وصفا ربانيا وسرا إلهيا يثبت به عند تجلي صفات الربوبية، ويطيق به مشاهدة الحضرة الإلهية، ويتلقى به أسرار أنوار الفردانية، ويسمع به خطاب الإشارات القدسية، وينشق به عطر النفحات الرحمانية، ويعرج به إلى المقامات العذبة البهية، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لست كأحد منكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي سبحانه)، فهذا المقام ليس يختص به مَلَكٌ مقرب ولا نبيٌّ مرسل، كأس لم يتناوله سواه، عروس ما جليت إلا عليه، وهو هذا المقام المخصوص به، وهو أحد المقامات الأربعة التي ذكرناها، وأما الثلاثة الأخر فإنها كرامات لسائر الخلق، ليتناول كلٌّ منهم ما قسم له من النصيب.

فأما المقام المحمود فمخصوص بعالم الصورة، وهو عالم الملك في الدنيا، فيتناولهم وجود طمأنينته، وبركة نبوته ورسالته {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} أقيم على منبر {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}... الآية، فهو في الدعوة مجيبهم، وفي النصيحة خطيبهم، ومن الزلزلة طبيبهم، ومن المحبة نصيبهم، فهذا مخصوص بأهل الدنيا.

وأما المقام الثاني فهو المقام المحمود في القيامة، وذلك نصيب الملأ الأعلى، فينالهم من بركة مقامه، ومشاهدة جماله، وسماع كلامه {يوم يقوم الروح والملائكة}... الآية، يؤذن له في الخطاب، فيقوم خطيبا والملائكة صفوفا، والخلائق وقوفا، فيفتتح خطبته بالشفاعة لأمته، ينادي: {أمتي أمتي} فيجيبه: {رحمتي رحمتي}.

وأما المقام الثالث فالشهود، وذلك في دار الخلود، لينال أهل الجنة منه نصيبهم، تتمتع بمشاهدته الحور، وتتشرف بحلوله القصور، ويقدم لقدومه السرور، وتزداد الجنة نورا، وترفع بقدومه الحجب وتزول الشرور.

المقام الرابع هو المقام الذي خُصَّ به صلى الله عليه وسلم، وهو مقام رؤية المعبود جل وعلا، وهو مقام قاب قوسين أو أدنى.

وذلك أنه لما كان ثمرةَ شجرة الكون، ودرةَ صدفة الوجود وسره، ومعنى كلمة (كن)، ولم تكن الشجرة مرادة لذاتها، وإنما كانت مرادة لثمرتها، فهي محمية محروسة لاجتناء ثمرتها، واستجلاء زهرتها.

فلما كان المراد عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها، وزفها إلى حضرة قربه، والطواف بها على ندمان حضرته، قيل له: يا يتيم أبي طالب، قم فإن لك طالبًا، قد ادخر لك مطالب، فأرسل إليه أخص خدام الملك، فلما ورد عليه قادما، وافاه على فراشه نائما، فقال له: يا جبريل؛ إلى أين؟ فقال: يا محمد؛ ارتفع الأين من البين، فإني لا أعرف في هذه النوبة أين؟ لكني رسول القدم، أرسلت إليك من جملة الخدم " وما نتنزل إلا بأمر ربك " قال: يا جبريل، فما الذي مراد مني؟ قال: أنت مراد الإرادة، ومقصود المشيئة، فالكل مرادٌ لأجلك، وأنت مراد لأجله، وأنت مختار الكون، أنت صفوة كأس الحب، أنت درة هذه الصدفة، أنت ثمرة هذه الشجرة، أنت شمس المعارف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لرفعة محلك، ما هيئ هذا الجمال إلا لوصلك، ما روق كأس المحبة إلا لشربك، فقم فإن الموائد لكرامتك ممدودة، والملأ الأعلى يتباشرون بقدومك عليهم، والكروبيون يتهللون بورودك إليهم، وقد نالهم شرف روحانيتك، فلا بد لهم من نصيب جسمانيتك، فشرّف عالم الملكوت كما شرفت عالم الملك، وشرف بوطء قدميك قمة السماء، كما شرفت بهما أديم البطحاء.

قال: يا جبريل؛ الكريم يدعوني فماذا يفعل بي؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: هذا لي؛ فما لعيالي وأطفالي؟ فإن شر الناس من أكل وحده، قال: {ولسوف يعطيك ربُّك فترضى}، قال: يا جبريل؛ الآن طاب قلبي، ها أنا ذاهبٌ إلى ربي، فقرب له البراق، فقال: مالي بهذا؟ قال: مركب العشاق، قال: أنا مركبي شوقي، وزادي توقي، ودليلي ليلي، أنا لا أصل إليه إلا به، ولا يدلني عليه إلا هو، وكيف يطيق حيوانٌ ضعيف أن يحمل من يحمل أثقال محبته؟ ورواسي معرفته؟ وأسرار أمانته التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال؟.

وكيف تطبق أن تدل بي و أنت الحائر عند سدرة المنتهى , و قد انتهى إلى حضرة ليس لها منتهى , يا جبريل : أين أنت منى، ولي وقت لا يسعني فيه غير ربي؟ يا جبريل إذا كان محبوبي ليس كمثله شيء، فأنا لست كأحدكم، المركوب يقطع به المسافات، والدليل يستدل به إلى الجهات، وإنما ذلك محل المحدثات، وأنا حبيبي مقدس عن الجهات، منزه عن المحدثات، لا يوصل إليه بالحركات، ولا يستدل عليه بالإشارات، فمن عرف المعاني عرف ما أعاني، هلم إن قربي منه مثل قاب قوسين أو أدنى.

فوقعت هيئة الوقت على جبريل؛ فقال: يا محمد إنما جيء بي لأكون خادم دولتك، وصاحب حاشيتك، وجيء بالمركب إليك لإظهار كرامتك، لأن الملوك من عاداتهم إذا استزاروا حبيبا، أو استدعوا قريبا، وأرادوا ظهور كرامتهم واحترامهم أرسلوا أخص خدامهم، وأعز دوابهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك، وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه سبحانه وتعالى يوصل إليه بالخُطا وقع في الخَطا، ومن ظن أنه محجوبٌ بالغطاء، فقد حرم العطاء.

يا محمد إن الملأ الأعلى في انتظارك، والجنان قد فتحت أبوابها، وزخرفت رحابها، وتزينت أترابها، وروق شرابها، كل ذلك فرحا بقدومك، وسرورا بورودك، والليلة ليلتك، والدولة دولتك، وأنا منذ خلقت منتظر هذه الليلة، وقد جعلتك الوسيلة في حاجة، قلَّت فيها حيلتي، وانقطعت وسيلتي، فأنا فيها حائر العقل، ذاهل ال�

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق