الأقسام

الجمعة، 27 مايو 2011

سرفانتس ورائعة دون كيشوت


سرفانتس ورائعة دون كيشوت



احتفل العالم سنة (2005) بالذكرى المئوية الرابعة لصدور رائعة الاديب الاسباني الشهير (سرفانتس) حيث تقام الندوات في مختلف بقاع الارض تكريماً وتثميناً لهذا الاديب المبدع. كما وتقوم مختلف الجامعات ومراكز البحوث والدراسات بالاحتفال بهذا الانجاز الفريد من نوعه اضافة الى قيام العديد من وسائل الاعلام المرئية والمقروءة من صحف ومجلات واذاعات وفضائيات بمختلف اللغات من اجل تسليط الاضواء على واحد من ابرز الادباء الاسبان في القرن السابع عشر الميلادي وابراز مكانته الادبية والفكرية وعقد اللقاءات مع مختلف النقاد والباحثين ومن لهم اهمية في كتابة التاريخ الادبي أو النقدي للتعريف بروايته المشهورة (دون كيشوت) الذي اشتهر بها اضافة الى اعماله الادبية الاخرى وسيرة حياته مما جعله احد ابرز الروائيين الذين خطو باعمالهم ابداعات لاتنسى.

انه سرفانتس سافاديرا يجول دو الذي ولد عام 1547 في قرطبة (اسبانيا) وهو روائي وكاتب مسرحي وشاعر اسباني وهو ابن لصيدلي جراح فقير الحال امضى طفولته متنقلاً هنا وهناك في اسبانيا. بعد زيارته لايطاليا وخدمته في بيت الكاردينال (اكوامفيفا) عام 1571م انضم الى الاسطول الاسباني والايطالي البابوي في احدى المعارك في التاريخ, تمكن هذا الاسطول من هزيمة العثمانيين في البحر الابيض المتوسط في خليج ليبانتو جرح ثلاثة جروح سبب احداها في تعطيل يده اليسرى طيلة حياته.

اسره القراصنة واحتجز في الجزائر طلباً للفدية في طريق عودته الى موطنه بعد اربع سنوات، كاد هروبه المتكرر ان يتكلل بالنجاح الا انه كان يعاد في كل مرة الى زنزانته مقيداً بالحديد. عندما افتدى عام 1580م كانت اسبانيا قد نسيت كل شيء عن ابطال معركة ليبانتو.

كان يكتب الشعر في تلك الفترة, كتب قائلاً ان (هناك طريقين يقودان الى الثروة والمجد احداهما طريق العلم والآخر طريق السلاح) لم يكن قد اقترب من أي منهما وهو في الثالثة والثلاثين وكان قبل ذلك اشد املاقاً.

كان يعيل ابنة غير شرعية وزوجته وامه وعمته وعندما كان ينتظر يحدوه الامل بالنجاح, لذا فقد استقر رأيه على بدء مهنة ادبية، شعره غير موح ومسرحياته فاشلة رومانسيه الريفية اطلق سراحه بعد ان دفع اهله فدية باهظة ثم عاد الى اسبانيا اعتزل عام 1582م الجيش بعد اشتراكه في القتال بالبرتغال وتزوج عام 1584م كانت حياته شاقة وصعبة بحيث ان الديون اثقلت كاهله مما اضطره الى الاستدانة طيلة الوقت وسجن اكثر من مرة لعجزه عن تسديد ديونه.

نشر اول رواية خيالية تدور حول حياة الرعاة عام 1585م مكتوبة بالشعر والنثر اسماها (لاجالاتيا) كتب بين عامي 1585-1588م اكثر من عشرين مسرحية لم يبق منها سوى مسرحيتين, كما الف كثيراً من الشعر.

نشر عام 1605م. الجزء الاول من رواية (دون كيشوت دي لامانتشا) وتلفظ احياناً (دون كيخوتة) اما الجزء الثاني فلم يظهر سوى عام 1615م وهي اروع الكتب في الادب العالمي وكثيراً ما يقارن في حياته الواقعية ببطله الخيالي.

شغل وظيفة مأمور في الحرب الاسبانية (الارمادا) ليدفع الديون التي اثقلت كاهله لكن اسبانيا هزمت عام 1588م مما اوقع سرفانتس في اضطراب كبير حيث كان قد اودع نقوده عند احد الصيارفة المفلسين اودع بعدها السجن عند اكتشاف العجز في حساباته. غادر السجن عام 1603م عندما كان يكتب روايته (دون كيشوت) واحتجزته الشرطة ثانية عام 1605م وهي (السنة التي نشر فيها) الجزء الاول. قبيل ظهور الجزء الثاني عام 1615م كان قد اصدر اعمالاً ادبية قليلة الاهمية منها (روايات القدرة) عام 1613م التي تتكون من اثنتي عشرة مغامرة رومانسية مبنية على خلفية واقعية وتعد من امثلة مختلفة للسلوك الذي يجب تجنبه, ثم تبعها برواية ثانية بعنوان (الرحلة الى بارناسوس) عام 1614 واعقبها براجعة ساخرة للشعراء المعاصرين تتسم بالواقعية وسرعة الاداء.

قضى معظم حياته في العصر الذهبي في اسبانيا عندما كانت سفنها غنية ويتكلم المثقفون لغتها وادبها معروف في انحاء اوربا لكنه لم يذق طعم الازدهار والرخاء وتوفي في 23 نيسان 1616م مات فقيراً معدماً ولم يتذوق طعم الشهرة التي نالها بعدئذ.

يسخر سرفانتس في روايته (دون كيشوت) من افكار الفروسية ويهاجم اثار الروايات المفرطة في الخيال التي تدور حول اعمال الفروسية، ودون كيشوت –بطل الرواية- رجل من الريف افسدت ذهنه روايات الفروسية التي كان يقرؤها فقرر ان يمتطي صهوة جواده (روسينانتي) ويصحبه الفلاح (سانكوبانزا) خادماً له ويذهب باحثاً عن اعمال البطولة والمخاطرات والفروسية، فيختار زوجة له فتاة قروية سماها (دولسينادل توبوسو) يصورها ابرع تصوير كما يصف الفرق بين شخصية دون كيشوت بخياله الشاطح وشخصية خادمه الذي يتميز بروحه العملية القوية مما يجعل هذا الكتاب صورة رائعة للطبيعة البشرية, تمتزج فيها الفكاهة بالحب والتعاطف والفلسفة مما يجعله من احب الكتب في الادب العالمي.

اعجب سرفانتس بطبيعة اشبيلية وبحرها ومناخها, كما اعجب بمناخها ومجتمعها وحسنها واقبل على الحياة في هذه المدينة يصب منها حباً وقد شهدت هذه المدينة غرامه (بانا فرنادي روخاس) وهو غرام كان ثمرته بنتاً غير شرعية وسميت (ايزابيل دي سابدرا).

يقول ميلان كونديراني في(فن الرواية) اذ يسجل (ليس للروائي ان يكشف حسابه لاي كان باستثناء سرفانتس والعلة ان هذا الكتاب الفذ يدشن فن الرواية الحديثة كفن واعي بمقاصده وامكاناته وادواته.

يعتبر تاريخ صدور رواية دون كيشوت في 16 كانون الثاني 1605 تاريخ ولادة الفن الروائي في العالم كما يجمع النقاد في العالم. ويعتبرها بعضهم اول رواية عالمية حديثة.

في هذه الذكرى تحتفل العديد من المدن في العالم منها مدريد وباريس وبروكسيل ودالاس ومكسيكو سيتي وسان بطرسبرغ. لقد ترجمت رواية (دون كيشوت) الى العديد من اللغات الحية في العالم منها الانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية والعربية حيث صدرت اكثر من ترجمة باللغة العربية.


المصادر

1- دون كيشوت- اقتباس جوزيف الياس- دار العلم للملايين- بيروت

2- الموسوعة العربية الميسرة- باشراف محمد شفيق غربال- الطبعة الاولى القاهرة/1965

3- دليل القارئ الى الادب العالمي- مجموعة مؤلفين- ترجمة محمد الجورا- دار الحقائق بيروت 1986




سرفانتس والكيشوتية بين الحقيقة والعدل والخيال -
دراسة: الدكتور منير توما
السبت 8/5/2004

يعود صيت وشهرة الروائي والمسرحي والشاعر الاسباني ميغيل دي سرفانتس Cervantes (1547 – 1616) كأحد اعظم الكتّاب في التاريخ الى كتابته لرواية "دون كيشوت" او "دون كيخوته" (Don Quixote) التي عنى فيها ان تكون هجاء لقصص الفروسية (Romances) المبالغ فيها في أيامه. وقد فسرها بعض النقاد بأنها قصة ساخرة لمثالي خائب الأمل في عالم مادي. أما البعض الآخر فقد رأى فيها هجوما مبطنا ومقنعا على السياسة الاسبانية المعاصرة له. وبالنسبة للكثيرين، فإن الشخصيتين المتقابلتين دون كيشون وسانشو بانزا، المثالي الحالم والواقعي العملي، ترمزان الى الازدواجية في الشخصية الاسبانية، وفي الوقت نفسه، فإن انسانية الرواية جعلتها تمتاز بأفضلية عالمية.
ان الكيشوتية هي السمة المميزة العالمية لأي عمل وهمي خيالي حالم كثير الرؤى وغير عملي. ولذلك فإن أي عمل من اعمال الثورة او الاصلاح هو دائما كيشوتي لأن المصلح يهدف الى تقويض المؤسسة القائمة كي يغيرها. وغالبا ما يتعرض الفرد الكيشوتي الى السخرية، وتكرارا ما يواجه التدمير حيث انه قد كان مسؤولا عن الكثير من الاعمال العظيمة في التاريخ، وبالعكس ايضا فانه كان مسؤولا عن العديد من السيئات، وحتى ان سرفانتس يبين ان دون كيشوت كان مسؤولا عن معاناة المسكين اندرو في روايته "دون كيشوت".
ان الكثير من المجانين البارزين في العالم قد حاولوا ان يدفعوا قطاعات كسولة بليدة لا مبالية من السكان نحو ترقية وتحسين انفسهم، الا انهم لاقوا العزلة في التاريخ. فهذا اغناطيوس دي ليولا، مؤسس اليسوعية، قد كان يمتاز بسيرة حياتية متعصبة وحالمة شبيهة بمهمة دون كيشوت. كذلك، فإن القديسة تيريزا، جان دارك، مارتن لوثر، النبي موسى، وفوقهم جميعا، يسوع الناصري، قد عاشوا وعانوا وتعرضوا للقهر بسبب احلامهم الكيشوتية. وبالمغايرة مع كل المنافع والخلافات الجليلة والمهيبة لمشاعر الأغلبية – قوة المؤسسات الناشئة والايمان في العادات القائمة – فإن الابطال الكيشوتيين قد ادخروا فقط وحدة معتقدهم وقوة ارادتهم.
ان الابطال الكيشوتيين الحقيقيين في بحثهم عن "الحقيقة" او "العدل"، لديهم حلم داخلي بلغ من القوة بحيث ان في استطاعتهم ان يروا من خلال الوهم بالمظاهر الخارجية. فدون كيشوت، على سبيل المثال، يتحدى المؤسسات كلية الوجود بالتسليم بأن كل واحد يعتقد انها طواحين هواء غير ضارة او مؤذية، مع انها من الممكن ان تكون عمالقة مهددة او آلات عنيدة لا ترحم مدمرة للفرد. وكثيرا بنفس الطريقة ما هاجمت حفنة من النساء بظهورهن المضحك الوضع السياسي كي يكسبن الموافقة او المصادقة العالمية لحق الاقتراع او التصويت.
ان وضوح الحلم او الرؤيا الكيشوتية تتمثل ايضا حين يرى دون كيشوت في عاهرتين زريتي الملابس، يرى فيهما سيدتين رفيعتي الذوق، واللتين تردّان بلطف على تحياته الكيّسة الدمثة. ان مساعدتهما للفارس في خلع الملابس، ومساعدتهما له في وجبته، يجعلاننا فقط نستنتج بأن قوة ارادته قد حوّلت هويتهما الخارجية لتتوافق مع الصورة المثالية. ان هذه الفكرة تتوافق مع الحقيقة البدهية النفسية وهي انه اذا كان هناك شخص يتوقع اداء دونيا من شخص آخر، فانه سوف يتلقى ما كان يتوقعه. والعكس ايضا صحيح.
فالكيشوتية، اذا، هي قوة ارادة تتحدى المادية. انها المحاولة لجعل الرؤيا او الحلم اليوثوبي المثالي واقعا او حقيقة، ولكن مثل جميع اليوتوبيات، فإن ذلك غير مقبول في عالم لا تستطيع فيه القيم المطلقة ان تعيش. ان دون كيشوت، مع انه غالبا ما ينتصر على خيبات الامل، الا انه يتحتم عليه اخيرا ان يواجهها، ويموت. ومع ان الفارس اللطيف كان يصبو الى الخلود من خلال اعماله، فإنه يترك لنا فقط تاريخه كي يخلد مبدأ حياته. ان الاجيال اللاحقة من القراء بكونهم غير منعمين بالقوى الخيالية وقوة الارادة كي يكونوا انفسهم كيشوتيين، فإنه باستطاعتهم ان يقرأوا سيرة الفارس الشجاع الباسل لامانشا ومثل سانشو بانزا، يشاطرونه احلامه وخيالاته.
ان سرفانتس بتعبيره عن الفرد الكيشوتي وتطويره، قد اكتشف وعرّف طريقا آخر للشعور غير السوي والتعبير الذاتي للنفس الانسانية. وهكذا فإنه ليس مهما فيما اذا كانت رواية "دون كيشوت" تهدف الى السخرية او الاضحاك باعتبارها كاريكاتورا عن الفروسية، او ان البطل هو رجل مجنون او ممثل. ان ما يهمنا هو انه قد تأصّل حراً في خيالاتنا حيث انه من المتعذر محوه وبالتالي يكشف لنا سمة جديدة عن الروح الانسانية.
واتصالا بفكرة الكيشوتية، فإن سرفانتس يستكشف تعقيدات الواقع والخيال، الحقائق والاكاذيب، العدالة والظلم. ان سرفانتس، بتجرد اولمبي وبتطوير ديناميكي للشخصية، يدرس المسألة بصورة نسبية. ان الافتراض العام يمكن التعبير عنه كالتالي:
اذا كان هناك رجل مجنون يرى الحقيقة بوضوحها الاكثر تطرفا، ومساعده المنذهل المرتبك يرى بعض الحقائق وبعض الاوهام، فإنه عندئذ، اولئك الافراد الاكثر اتصالا بالتجارب اليومية يكونون قادرين فقط على رؤية التحريفات الاكبر عددا. ان حراس عبيد القادس (سفينة شراعية كبيرة ذات مجاديف)، وكذلك فرسان الاخوة المقدسة، قادرون على رؤية العدل بشكل مجرد كما هو ظاهر في كتب قوانين المجتمع. ان دون كيشوت، بالطبع، يزدري مثل هذه القيود ويصرّح بأن الفرسان المطوّفين (الفرسان الذين يطوّفون في الارض بحثا عن مغامرات يظهرون فيها براعتهم العسكرية وشجاعتهم وسخاءهم) ليسوا ملزمين ادبيا او قانونيا بمثل هذه المبادئ والمذاهب المنقوصة. ان جينس دي باسامونتي والسجناء الآخرين الذين حرروا من قِبل الفارس هم على حد سواء خائبو الامل من عدالة المجتمع الذي كان قد حكم عليهم. وبسبب ذلك فانهم مستعدون ان يقذفوا بالحجارة محررهم الذي يسلمهم قوانين جديدة كي يسيروا وفقا لها ("انها ارادتي ورغبتي"، يقول دون كيشوت، "انكم انتم... تقدمون انفسكم للسيدة دولسينيا ديل توبوسو.. وبعدها تقصّون عليها.. كل هذه المغامرة الشهيرة التي منحتكم الحرية المنشودة.."). ان السجناء يعلنون النطاق الكامل لحريتهم عن طريق الرفض العنيف لبطلهم.
وفي قصة اندرو المسكين الذي يقوم سيده بضربه لأنه غير مكترث بالخرفان، بينما الراعي يقول بأن سيده فقط يبحث عن عذر وذريعة كي يتهرب من دفع اجرته حيث يبدو واضحا ان احدهما هو الكاذب. ان الكذبة التي تصدم دون كيشوت، على اية حال، هي الكذبة التي يتوجب فيها على الرابح ان يقدم عذرا للخاسر لضربه اياه. ان مسألة العدالة تصبح هزلية ومضحكة في نزاعات بين قوة اكبر جسديا وبين خصمها الاضعف. وفي حين ان العدالة – خطأ ام صواب – تُدار من قِبل السوط القوي للفلاح، فإن النزاع يُزال ويتخلص منه، وهكذا فإن القوة تخلق وتحدث الصواب. وعلى صعيد اكثر تجريدا، فإن سرفانتس يضمّن بعض التمارين والممارسات الصغيرة كي يستقصي عن طبيعة الحقيقة والعدل. ان مسائل المحاكاة التهكمية الساخرة التي يقوم سانشو بحلها خلال حكمه – تلك الاحكام التي تتعلق بالرجل الذي يعبر الجسر، المرأة التي تقول بأنها قد اغتصبت، النزاع بين الخياط والفلاح – هي كلها امثلة على قابلية التطبيق العملي هذا.
ومثال آخر على تمحيص سرفانتس في نسبية الحقيقة والعدالة هو افتقاره للحكم الاخلاقي على نشاطات ماريتورنز غير الشرعية والمشوشة. وبكونها غير فاتنة او مغرية جسديا، فإنها تتخذ العشاق من منطلق تيّقظ طبيعتها الكريمة. واذا اخذنا بالحسبان اندفاعها وتحفز نزواتها، فإن الراحة التي زودت بها البغّالين (سائقي البغال) المرهقين الضجرين والشهوانيين هي جوهر الفضيلة والاحسان. ان بحث الوجوه والمظاهر الكثيرة لفكرة الواقع والخيال وعملية الاستقصاء خلال رواية "دون كيشوت" يمكن ان تستغرق حيّزا كبيرا واسعا، ولكن بعض الاقتراحات قد تلقي شيئا من الضوء على هذه الفكرة. ان البطل كما قيل، لديه القدرة على تغيير الواقع بقوة فكرة. ان الخيال والواقع للرجل المجنون هما جانبان من سلسلة متصلة غير مُلزمة له كي يُخفض نفسه للسؤال، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لسانشو الذي هو دائما في نضال عنيف لمحاولة فهم الاختلاف بين الصفتين. ان صاحب المصالح الخاصة به والساخر ايضا، مثل جينس دي باسامونثي، هو الواقعي الاكبر والذي يمكنه ان يتلاعب بالتباسات الخيال والواقع لدى الآخرين. انه، في الحقيقة، احد مصادر رزقه واسباب عيشه.
ان مسرحية دُمى جينس هي اداة مفترضة تكشف وجها آخر لهذه القضية المتعلقة بفكرة الحقيقة والوهم. ان دون كيشوت بخياله سريع الاستثارة والتأثر سرعان ما يلتهب وينفجر ويرى اللعبة كأنها واقع ويدخل في الشجار المرسوم. وبسهولة يدرك غلطته، على أية حال، ويقوم باجراء الاصلاحات على الدمى التالفة. ان الفارس فقط يوسّع امكانيات المشاهد المثالي، لأن المتعة الكلية في الصناعة المسرحية هي تلك الخاصية بأن الوهم يبدو ويظهر كالحياة.
وما أن تتعين هوية العمل كمسرحية، فإن جمهور المشاهدين يكون على استعداد للدخول الى عالم الخيال، وبنفس السهولة، يتراجع حينما تنتهي المسرحية. وعلى كل حال، فإن الصعوبة تنشأ حين لا يتم التعرف على الصناعة المسرحية وتؤخذ بجدية تماما عندما تبتلع طبقات كاملة من السكان دعاية قادتهم محركي الدمى. وتكرارا خلال الرواية يكون دون كيشوت هو الدمية او الألعوبة في حضور اناس امثال الدوق والدوقة او دون انطونيو دي مورينا الذين يشدون الخيوط لجعله يرقص. ان محركي الدمى هؤلاء بكونهم لا يملكون السيطرة على صناعتهم المسرحية مثل جينس دي باسامونتي الذي يفعل ذلك كوسيلة لكسب العيش، هم غالبا انفسهم يشكلون جهاز دعابة ومرح اكثر اتساعا من اجل تسلية المشاهد – القارئ.
ان التيسيدورا هي مثال لمحرك الدمى الذي يفقد السيطرة. فبعد تظاهرها بأنها تلتمس حب دون كيشوت، فإنها تبدو حقيقة مجروحة الكبرياء وناقمة حين لا يحرك دون كيشوت ساكنا ولا يلتفت اليها. وربما كانت تقوم بذلك من منطلق خيال خاص كل الوقت كي تكسب لنفسها حب مثل هذا المُحب العاشق الثابت والنبيل، مع انها في وعيها كانت تعتبره سخيفا.
اما دوروثيا، وهي تلعب دور الاميرة ميكوميكونا فإنه كان في السابق قد ورد ذكرها كمثل لممثلة حين لا تدرك واقع ادائها وتمثيلها. كذلك سامسون كراسكو، فإنه في محاولته اغتصاب خلود دون كيشوت يمثل ويشكل مثلا مشابها. والحاكم الدمية سانشو الذي يمثل باخلاص وصدق، يحول النكتة الى حساب المهرج المضحك. ان كثيراً من الاحداث الاخرى يمكن ايرادها لتبين "ان الأشياء ليست هي كما تبدو".
ولاتمام حبك السلسلة المتواصلة من فكرة الخيال والواقع، فإن سرفانتس يستكشف حقائق الاحلام، كما في مغامرة كهف مونتيسنوس. ان الوهم ذا الصيحة الظافرة، وربما الاكثر ملاءمة، هي تلك التي تحدث حينما يتخلى البطل المحتضر عن حياته المجنونة كفارس مطوّف، مخبرا اهل البيت الباكين بأنه لم يعد دون كيشوت دي لامانشا، ولكن الونسو كيشانو الطيب. وفي هذه اللحظة من سلامة العقل الكلية، فإن البطل يعبّر عن امنيته في ان تُطوى وتُسلم اعماله السابقة الى عالم النسيان. لقد حاول دون كيشوت، من منطلق تلذذه واستمتاعه وفتنته بالحياة، ان يجعل الامكانيات البشرية الانسانية مثالية، وبادر الى خلق عصر ذهبي جديد من البراءة والرضا والطمأنينة، الا أنه الآن يعبّر عن العبث الساخر المليء بالمفارقات للكيشوتية ويؤكد مشددا ان الخيال والواقع هما مرحلتان في سلسلة متواصلة. ان البطل العاقل سليم العقل يرفض ويتبرأ من جنونه السابق بتأكيد نهائي ان الحياة هي حلم، موت لحظة الواقع. ان إرث سانشو هو تلك الروح المختزنة للكيشوتية التي تمكّنه من ان يتعرف الى حقيقة المُثل وإما ان يصبح فارسا مطوِّفا نفسه، او يصبغ ويُشرِّب اولاده بالروح الخيالية.
(كفر ياسيف)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق